خالد سالم - كاتب وباحث أكاديمي - في حوار مفتوح مع القراء والقارئات حول: هل تطاردنا لعنة الأندلس؟


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 4497 - 2014 / 6 / 29 - 16:45
المحور: مقابلات و حوارات     


من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -133 - سيكون مع الأستاذ د. خالد سالم - كاتب وباحث أكاديمي - حول: هل تطاردنا لعنة الأندلس؟.
 

 
تعلمنا في الصغر أن اللعنة البشرية الوحيدة تعود للفراعنة منذ اكتشاف هوارد كارتر لمقبرة توت عنخ آمون. إلا أن المراقب لما حدث في الأندلس ويحدث الآن في وطننا العربي يستشعر أن هناك لعنة أخرى في تاريخنا، لعنة الأندلس، ويدرك حجم الكارثة التي نسير صوبها بارادتنا، انطلاقًا من موَرِّثاتنا وبعض محطات تاريخنا. تشغل الأندلس نقطة تماس ومقارنة بحاضرنا الذي يعج بممالك وملوك طوائف استنساخًا للماضي البعيد القريب الذي نجتره ببلاهة وكأننا أمام حتمية يستعصى الفكاك منها، ونصر على السير إلى مصير محتوم ذي عواقب وخيمة جلية، لنصبح هنودًا حمرًا في وطننا.
لم نعدم الدروس والحِكم في تراثنا وتاريخنا، فالتماثل جلي بيننا وبين حكاية الثيران الثلاثة والأسد، من ناحية، وبيننا وبين تاريخ ملوك الطوائف والممالك المسيحية في الأندلس، من ناحية أخرى. حالة التشرذم السياسي والديني والمذهبي والعرقي والجغرافي الراهنة لم يشهدها تاريخنا مثلما حدث في الأندلس. ومن لا يوافق فعليه أن يتأمل ما حدث في الوطن العربي جراء ثورات الربيع العربي التي حرفناها عن مسارها. إنها تشبه لحظة ثورة البربر، الأمازيغ، في العقدين العاشر والعشرين من القرن الحادي عشر، ما أدى إلى انفراط عقد دولة الخلافة وسقوطها، ما حدا بكل أمير الانفصال وتأسيس أسرة حاكمه من أهله، ما أدى إلى نشوء ملوك الطوائف فقسمت الأندلس إلى 22 مملكة، كان بعضها يستعين بملوك الشمال المسيحيين على اخوانهم، وكانوا يسددون لهم الجزية، بينما كان التناحر وعدم الاستقرار سمة ملوك الطوائف. ما أشبه اليوم بالبارحة!!! التماثل كبير، وليس رغبة في التشاؤم، فأسلحة تدمير بعضنا البعض ندفع ثمنها لممالك الشمال والغرب، ونشارك في تدمير نظام لأسباب عائلية، ونبعث إليها ونحملهم بالعطايا الثمينة. إنها الجزية التي كان يدفعها ملوك وأمراء الأندلس في صيغة معاصرة. ولعل عدد الدول العربية اليوم، 22 دولةً، يعد نذير شؤم، إذ يأتي إلينا بمثيله في الأندلس وتوابع فشلنا فيها.
بدءًا أود أن أشير إلى أن ذكر اسم إسبانيا يحملنا، نحن العرب والمسلمين، على التحليق في سماء الأندلس، فهذا البلد الأوروبي تربطه بنا وشائج تاريخية ونفسية عبر ماضٍ مشترك خطَّ سطوره وفصوله بشر ينتمون إلى الثقافتين العربية الإسلامية والغربية لمدة تقترب من عشرة قرون على شبه جزيرة أيبيريا. لهذا فإن هذا البلد الأوروبي الضارب بجذور في سياقه الأوروبي يعبر بحر الروم ليحدث تزاوجًا فريدًا في تاريخ البشرية.
وكان من بين ثمار هذا التلاقح الفريد بين ثقافتين متنافرتين وضع نواة بلدة أصبحت عاصمة هذا البلد بعد قرون ولا تزال تحتفظ بمسماها ذي الأصول العربية، مدريد أو مجريط. وهذا أمر له دلالته في بلد أوروبي، كان فيه حضور عربي إسلامي لعدة قرون شكلت ثقافتنا لحمته الأولى بالاشتراك مع الثقافة المسيحية المحلية.
حري أن نشير إلى أنه إذا كانت الأندلس، زمردة تاج حضارتنا، ترتبط في مخيلتنا الجمعية حصريًا بإسبانيا، فإننا نتناسى الجزء الآخر من هذه البلاد التي ترعرع فيها الوجه المتسامح والمزدهر للحضارة العربية الإسلامية، البرتغال، البلد الذي يعرفه بالكاد قلة منا، وإذا عرفنا عنه شيئًا فلا يدرك كثيرون أنه كان جزءًا من جغرافية الأندلس النائية، في أقصى نقطة في غرب أوروبا تطل على المحيط الأطلسي، ولم يكن أقل أهمية من الشطر الشرقي لشبه جزيرة أيبيريا.
تمثل الأندلس نقطة مفصلية مريرة في تاريخنا، ففرادتها، سلبًا وايجابًا، يربك من يقترب منها بالدراسة والتمحيص، إذ لم يكن مسارها كله مترفًا وحضاريًا، أي لم يقتصر على قصر الحمراء ولا مسجد قرطبة ولا قصر الجعفرية في سرقطسة ولا على ابن زيدون وولادة بنت المستكفي وقصة غرامهما، ولا حتى على تأثر فدريكو غارثيا لوركا بالتراث الأندلسي ورفائيل ألبرتي ومجايلهيما من جيل الجمهورية الشعري. لقد خضبت دماء الطرفين، المتناحرين أحيانًا والمتعايشين أحيانًا أخرى كثيرة، ثرى الأندلس، وأحيانًا كثيرة أسلنا دماءنا بأيدينا، فكانت بمثابة لعنة تطاردنا روحها اليوم على الساحة العربية محدثةً تمزيقًا للذات لم نعشه منذ تلك الحقبة في تاريخنا.
ورغم هذا يأبى العربي أن يستسلم عندما يزور معالم الأندلس في حواضرها على امتداد تلك البقعة من الجغرافية الأوروبية، فهي آثار تشخص ماضيًا يحمل على الفخر في زمن انعدمت فيه أسبابه من المحيط إلى الخليج. ويواصل العربي تمسكه بتلك الحقبة من تاريخه، معتقدًا أنها كانت فردوسًا في مجملها، ولا يتخيل أن الدماء سالت في بعض المعارك إلى درجة تزلج الجنود الباقين على قيد الحياة: معركة الزلاقة عام 1086م.
وسط هذا الركام التاريخي والمعرفي يعلم أن عاصمة هذا البلد، المرتبط في ذهنه بالأندلس، تحمل اسمًا عربيًا، مدريد أو مجريط قبل تحريفه، فقد أسس نواتها الأولى على شكل قصر صغير أمير قرطبة محمد الأول في منتصف القرن التاسع الميلادي – لا تزال آثاره باقية على مقربة من القصر الملكي الحالي-، ويتيه في زهوه إذا علم أن العاصمة السابقة تحمل اسمًا عربيًا أيضًا، وهي مدينة بلد الوليد، وسط إسبانيا. هناك اعتراض لغوي على المسميين قدر التأييد لوجاهتهما، لكن في الوقت نفسه نجد أن المنطق يساند اللفظين العربيين. والحق أنه لا يجتمع هذا الترف الحضري العربي سوى في إسبانيا، سواء أكان المسميان العربيان متجذرين في الحقيقة أم طُرحت لهما تفسيرات منافية لا تخلو من مسحة استعلائية.
لا توجد أمة كالعربية، ومعها الإسلامية، أخنى عليها الدهر، ومعه الغرب، بمشاركة ذاتية، منذ أن أصبح لنا موقع بين الأمم جراء انتشار الإسلام، ولعل الأندلس وما يحدث لنا منذ منتصف القرن العشرين خير مثال على ذلك. لقد استمرأنا بيع بعضنا البعض في سوق النخاسة الغربية تحت مسميات ومبررات لا تفتقر إلى وجاهتها الآنية. علينا قراءة ما حدث لمصر عبد الناصر ثم العراق بدءًا باشعال حربه مع إيران ومواصلة بيعه في سوق النخاسة الإيرانية والغربية، ثم فلسطين وما حدث فيها منذ اعلان هرتزل في نهاية القرن التاسع عشر، مرورًا باسقاط ليبيا وما يحدث في سورية الآن، وفي بلاد بونت، الصومال المنسي وقبالته اليمن السعيد الحزين. المبررات وفيرة ومقنعة للمغفلين، لكن أن نبيع بعضنا للآخر من أجل كراسٍ كخيوط العنكبوت فهذا أمر يستلزم وقفة أمام مورِّثاتنا البشرية والدينية والثقافية وقدراتنا العقلية فقد نحتاج إلى حجر جمعي في مشافي المجانين.
أقول هذا وعيناي على ما حدث في الأندلس في عهد ملوك الطوائف من بيع الأخ لأخيه والأب لابنته كي يرضى عنه الملك المسيحي مؤقتًا. وكان اقصاء أبي عبد الله الصغير، آخر ملوك الأندلس، لوالده من حكم غرناطة قبل سقوطها بسنوات قليلة نموذجًا فجًا سرى إلى أيامنا في أكثر من قصر من قصور الحكم العربية في عالمنا العربي المعاصر. الوقائع كثيرة، شهدناها جميعًا في العقود القليلة الماضية. وهناك حوليات تاريخنا في الأندلس تشهد على أن أحدهم اهدى ابنته لملك مسيحي طلبًا لرضاه، رغم بشاعة الواقعة وما للمرأة من قدسية في ثقافتنا الذكورية.
لم ندرك نحن العرب، لا في الأندلس ولا في زمن البقرات السمان، معنى مقولة أحد الفلاسفة "إنك لا تنزل النهر مرتين"، أي أن المياه تسير إلى الأمام ولن تتكرر الفرص في حياتنا. فدخول الأندلس جاء في غفوة من الزمان كانت كافية لأن تغير التاريخ لو حافظنا عليها، واليوم تتكرر الأحداث منذ هطول الذهب والفضة من سماء الوفرة النفطية على أثر حرب أكتوبر/تشرين أول 1973. كم أضعنا ونضيّع في خرافات ونزاعات بين الأشقاء؟! الإجابة لديكم، وهي واضحة وضوح الشمس في صحرائنا العربية، لكن المبررات جاهزة لدى كل طرف، إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً ونصير كالهنود الحمر في وطننا. الأندلس ظاهرة كبيرة في تاريخنا تلقي اليوم بظلالها على العالم العربي، ونحسن استنساخ السلبي منها. إننا نعيش عصر ملوك الطوائف مجددًا، منفذين إبادة ذاتية ارضاءً للآخر، كما لو كانت هناك لعنة تطاردنا منذ الأندلس وتتملكنا إلى اليوم.
ورغم سلبيات الماضي الأندلسي الذي لم نستخلص منه الدروس، ولم نميز الطيب من الخبيث في تلك التجربة الفريدة في تاريخ البشرية، فإنني لا أزال أرى أن هذه الظاهرة التاريخية تعد زمردة تاج الحضارة العربية الإسلامية، بوتقة لحضارات وثقافات بحر الروم، هذا دون غمط للعنصر المسيحي، الإسباني لاحقًا، فلم تكن عربية إسلامية خالصة، كما لا يمكن الموازاة فيها بين ما هو شرقي وما هو غربي، فالغلبة كانت للصانع الأول، المحتل ثم الحاكم، صاحب الكلمة العليا، العرب، بعد أن تزاوجوا بحسناوات الإسبان، فالعرب لم يذهبوا إلى الأندلس بقضّهم وقضيضهم، وكانت الأندلس خير نموذج للبوتقة الحضارية المتوسطية.
الأسئلة التي تُطرح حول هذه الحقبة من الحضارة العربية الإسلامية كثيرة وشائك بعضها: هل كانت لنا، أم أنها كانت مشتركة، نتاجًا للثقافتين العربية والمسيحية؟ هذا دون أن ننسى أن أشقاءنا البربر، الأمازيغ، يصارعون لنسب الأندلس إليهم، وهذا أمر مشروع نسبيًا، غير أن طرحهم هذا يُفرغ من معناه إذا تحدثنا عن حضارة بشقيها العربي والإسلامي. الطرح العسير هنا هو أن يُنسب دور لليهود يقف على حد المساواة من الدور العربي الإسلامي والمسيحي! بالطبع هذا هراء يدخل في لعبة السياسة والصراع العربي الإسرائيلي.
لا يستطيع العربي أن يبرأ من جلد الذات عندما يجد نفسه أمام سياق أندلسي، فأول سؤال يطارده: كيف ولماذا فقدنا هذا "الفردوس"؟ ثم ينتهي في بعض الحالات إلى هذيان لحظي عبر تساؤل آخر: ماذا لو حافظنا على الأندلس عربية إسلامية؟ هل كان للغرب، بينما لنا امتداد على أبوابه، أن ينكل بنا على غرار ما فعله بنا منذ الحروب الصليبية إلى اليوم؟ ويستمر الهذيان أحيانًا إلى تمني استرداد "الفردوس المفقود"! ويواصل حديث جلد الذات بذلك الفتح، فتح الأندلس، ولا يجرؤ، حتى مع ذاته، الاسرار بأنه كان غزوًا إذ كان هناك شعب ودولة رغم هشاشة نظامها الحاكم، ويصعب عليه الاعتراف بأن الفتح ما هو إلا غزو مسربل بغلاف ديني.
بعيدًا عن الهذيان، وعودة إلى الواقع المرير، فإن العربي عند تأمل الآثار العربية في ربوع شبه جزيرة أيبيريا، الأندلس سابقًا، يحيل اللحظة إلى حالة عصية على الوصف، فلا هو حزن ولا هو فرح، بل حسرة تكتم أنفاسًا وفخر سرعان ما يتوارى داخلك، لتخرج مشدوهّا، مذهولاً في كل زيارة، مهما تكررت. هذه الحالة عشتها على المستوى الفردي والجمعي مع مصريين وأشقاء من دول أخرى، ومن أعمار ومستويات ثقافية متنوعة.
إنها حالة تتلبس الزائر العربي والمسلم، وتتجلى أكثر لحظة الغروب، مجردًا وملموسًا، عندما يلف قصر الحمراء، وسط الأشجار الوارفة، وتشاهده من رُبوة حي البيازين الذي يطل على زمردة الحضارة الأندلسية، بينما الشفق يحتضن القصر لحظة الوداع. لحظة آسرة لا تتكرر إلا عند تأمُّل تداخل الحضارتين في مسجد قرطبة أو كما يسمونه المسجد الكاتدرائية، وهذا له وقفة أخرى. لون فريد يكسو قصر الحمراء في هذه اللحظة وينسجم مع لون القصر ذاته، لون يميل إلى حمرة عجيبة، ليس أحمر تمامًا، بل يعلوه لون عاجي عتيق، يصبغ هذه الرؤية العجائبية، ويشارك في هذا الاحساس المربك للزائر الحائر بين الماضي والحاضر. ترسم أشعة الشمس التي لا تزال تطل على استحياء خلف الجبال لتسهم في تشكيل خلفية اللوحة، فالشفق يلف مركزها من الخلف في أعلى نقطة في المدينة، بينما تفصل بينهما سلسلة جبال سيرّا نيفادا التي لا تزال الثلوج تكسو قممها رغم اقترابنا من حلول شهر الصيف مناخيًا، فيستنسخ جزءًا من لوحة "استسلام غرناطة" الشهيرة. حدث هذا في آخر مرة، منذ أيام قليلة، وفي أول مرة منذ ثلاثة عقود تقريبًا، وفي ما بينهما من إطلالات سريعة أو طويلة.
هناك يشعر العربي بأفول حضارة تأبي أن تغرب تمامًا، وأكرر: لحظة عصية على الوصف، إن لم يقف الإنسان في المكان ذاته، لحظة إجلال وهيبة يتقاسمها الجميع، فلا تكاد تسمع صوتًا سوى صوت آلات التصوير. إنها الربكة التي يشعر بها أمام بقايا مجد بناه الأجداد ولم يصونوه.
بين الحلم واليقظة لا يزال الزائر العربي يحاول أن يذرف دموعه أمام أهم الآثارالعربية الأندلسية منذ أن ذرفها أبو عبد الله الصغير على ملكه بينما كانت تلاحقه كلمات أمه، عائشة الحرة، الموجزة لحال أمة كاملة منذ تسليم آخر معاقلها في الأندلس في الثاني من يناير/كانون الثاني 1492م: »ابكِ مثل النساء ملكاَ مضاعًا لم تحافظ عليه مثل الرجال .«ورغم الطابع الأسطوري لهذه المقولة فإنها تلخص حال أمة وتحيل إلى البكاء وشق الجباه والصدور.
بيد أن العربي اليوم قد تساعده مآقيه على ذرف الدموع ليظل يتأمل ويتيه في دهاليز الماضي والحاضر، فالماضي مر والحاضر أكثر مرارة منه، لتزداد معاناته أمام جرائم لم يرتكبها، فالدموع تنهي حالة الانفعال، وتمثل ضريبة آنية، يشعر صاحب الشأن بعدها باسترخاء وتسليم أمره إلى الماوراء لعله يحل له مشكلاته العصية التي خلقها الحكام بنزواتهم وافتقارهم إلى الرؤية والرؤيا.
المشهد يحمل الزائر العربي والمسلم على اجلال للحظة بقدر حسرة تلك العجوز وزفرة ابنها الذي أضاع جهوده في اقتتال عائلي رخيص على عرش لم يدم له طويلاً. حاولنا دائمًا قراءة الكلمات والوقائع دون الغوص فيها لاستخلاص الدروس من أجل حاضر ومستقبل أقل وطأة، إلا أن ماضينا لا يزال الاكثر اشراقًا وانسانيةً من حاضرنا ومستقبلنا المنظور، على ضوء ما نفعله ويفعله آخرون بنا وببلداننا.
لا أميل إلى جلد الذات، رغم فائدته أحيانًا بغية استخلاص العبر، لكنه يلازمني من أن وطأت قدماي الأراضي الإسبانية للدراسة، من يومها يطاردني سؤال: كيف ولماذا ضاعت الأندلس؟ هذا دون أن أحيد عن فهم أن إسبانيا كان يسكنها شعب وكان فيها نظام حكم قائم، قبل الغزو العربي لشبه جزيرة أيبيريا، ولا أدعو لاسترداد الفردوس المفقود إذ لم يكن فردوسًا ولا جحيمًا. ولكن ما يتنازعني مجرد أفكار، بعضها شارد والبعض الآخر يضرب بجذوره في تاريخ خططناه بأفعالنا وأيدينا، دون أن أنسى وطأة أصول عائلتي التي تمتد إلى الأندلس مرورًا بالمغرب العربي إلى أن رمت عصا الترحال في أرض الكنانة.
إننا نكاد نكون أمام مأساة كربلاء أخرى، فالجميع يجلد الذات، وإن كان بدموية أقل من ردة الفعل أمام مأساة كربلاء الأصلية، لكن جرح العربي أمامها لا يبرأ رغم مرور أكثر من خمسة قرون على فعلة أبي عبد الله الشنعاء، الاستسلام والانسحاب، ويلاحق الانكسار أمة لم ترفع رأسها منذ تلك اللحظة التاريخية، أو قبلها بقليل، منذ سقوط بغداد في أيدي التتار.
أسئلة كثيرة يطرحها خيالنا الفضفاض، خيال الفيافي مسربلاً بضوء القمر، لعل أكثرها خرافة ذلك المتعلق باسترداد ذلك الفردوس المفقود الذي لم يكن فردوسًا، وفرضية دمج الحضارتين العربية الإسلامية والغربية من خلال عروبة وإسلام الأندلس، على افتراض أنه كان من الممكن أن يستمر حتى اليوم، مثلما حدث للدول التي عُربت مثل مصر ودول شمال إفريقيا. ألم تكن هذه الفرضية كفيلة بدمج الحضارتين، العربية الإسلامية والغربية، في منظومة واحدة؟
تواتر علامات الاستفهام يأخذ بتلابيب الزائر العربي والمسلم عند الوقوف أمام آثار الأندلس التي لا تزال شاهدة، رغم الدم المسال، على حضارة نعتها الأوروبيون بالمتسامحة في تلك الحقبة. كل هذا إذا ما امتطى العربي والمسلم صهوة جواد العقلانية والمصارحة والمصالحة مع الذات، دون قراءة هشة، كاذبة للتاريخ وأمنيات واهية للعودة بالتاريخ إلى الوراء.
وضمن علامات الاستفهام تحضرني واقعة، فبينما كانت الدماء العربية لا تزال شاهدة رطبة في صحراء الكويت والعراق جراء غزو الكويت وعاصفة الصحراء الأميريكية، بمباركة ومشاركة عربية، جاء أحد علماء الأندلسيات إلى مدريد، وطال حديثنا عن ما يحدث في الفيافي العربية، فسألته إلى متى هذه الإبادة الذاتية وبأيدٍ أجنبية؟ فكان رده مقتضبًا وحاسمًا: أنسيت ما حدث في الأندلس؟ ألا يعكس ما نعيشه اليوم ما عشناه ومارسناه في الأندلس؟ ما الجديد في هذا إذًا؟ لم يكن يدرك أحدنا أن الأندلس تكاد تصبح لعنة، نموذجًا في إبادة جماعية لأنفسنا ندفع ثمن تنفيذها إلى آخرين.
بعد سقوط غرناطة مطلع عام 1492م، آخر معقل عربي إسلامي في الأندلس، كانت هناك نقاط دامغة في العلاقة بين الطرفين، لعل أبرزها يكمن في مأساة الموريسكيين، أي العرب والمسلمين الذين ظلوا تحت الحكم المسيحي ابتداءً من رحيل أبي عبد الله الصغير بموجب معاهدة الاستسلام، التي وصلت ذروتها بطردهم نهائيًا بين عامي 1609م و1614م. وشمل الطرد حوالي نصف مليون موريسكي من بلد يسكنه سنتئذ ثمانية ملايين، ما أضر باقتصاد البلد الناشئ الذي كان يشكك الأوروبيون في مسيحيته لتواجد مسلمين على أرضه.
رغم مرور القرون على فض الاشتباك فلا تزال الأندلس تلقي بظلالها، إذ لا يمكن الحديث عن تاريخ العلاقات العربية الإسبانية بمنأى عن الأندلس، إذ لا نزال نجرجر نعوتًا، سلبية وإيجابية، ترسبت في أذهان وحياة الإسبان، لعل أبرزها صفة "مورو" moro،- أي مسلم من شمالي إفريقيا، لكنه ينسحب على العرب والمسلمين كافة- بما يعنيه من ذم، لما له من دلالات تاريخية غذتها الكنيسة ومشاركة الحرس المغربي في الحرب الأهلية الإسبانية (1936/1939م) في صفوف الإنقلابيين على الجمهورية الوليدة. وازدادت دلالات هذا اللفظ السلبية جراء هجرة المغاربيين غير الشرعية إلى إسبانيا هربًا من الفقر وطلبًا للرزق. إلا أنه ظل يستخدم للنيل من العربي الفقير وليس الغني، فالمهاجر بطبيعة الحال فقير، بينما الذي يذهب إلى شواطئ ماربيا في الصيف فهو الغني.
ومع أفول الجمهورية وهزيمتها على يد الجنرال المستبد فرانكو الذي حكم إسبانيا إلى أن توفي في نهاية 1975م مرت العلاقات العربية الإسبانية بمحطات سارت في معظمها لصالح العرب، وكانت الأندلس تشكل خلفية لهذه المرحلة ومعها القضية الفلسطينية، رغم أن هذا الحاكم لجأ إلى العرب بعد أن لفظه الغرب جراء استبداده، وظل الحال هكذا إلى أن اضطرت إسبانيا إلى الاعتراف بإسرائيل، في يناير 1986م، ثمنًا لقبولها في السوق الأوروبية المشتركة في صيف تلك السنة. وبهذا الاعتراف خسر العرب كثيرًا لصالح العدو الأقوى الذي استخدم أدواته الإعلامية والأمريكية في تذليل الطريق، بينما خفت الصوت العربي الموحد بعد حرب أكتوبر 1973م ونشوب حروب إقليمية اكتوى بها العالم العربي كانت سببًا في تفتيت قواه وتشتيت أهدافه لصالح العدو الأول. ولم تنجُ إسبانيا من ضربات الإرهاب العربي الإسلامي المشبوهة، ففي مارس 2004م انفجرت عدة قنابل في قطارات ضواحي مدريد ما أسفر عن مقتل حوالي مئتي مواطن، ما ألقى بسخامه على علاقات متشعبة بين الجانبين.
لا شك أن الأندلس تضمخ العلاقات بين الجانبين، ولا تزال تمثل نموذجًا، رغم نقاطها السوداء، يحتذى به في العلاقة بين العالم العربي الإسلامي والغرب، فايجابياتها يمكن أن تكون نبراسًا لعلاقات متوترة، يطغى عليها استعلاء غربي أمام وهن عربي إسلامي استمرأنا معه إبادة الذات، في حال اختفاء الاستعلاء الغربي والتشرذم العربي الإسلامي.