فاطمة ناعوت -كاتبةٌ صحفية وشاعرة ومترجمة مصرية - في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: لماذا يقتلون الشعراء؟! أبجدياتُ الحُلم، وأبجدياتُ الواقع.


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 4622 - 2014 / 11 / 2 - 20:01
المحور: مقابلات و حوارات     

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -142 - سيكون مع الأستاذة  فاطمة ناعوت  -كاتبةٌ صحفية وشاعرة ومترجمة مصرية -  حول: لماذا يقتلون الشعراء؟! أبجدياتُ الحُلم، وأبجدياتُ الواقع. .


أحسَبُ أن أفضلَ ما يلخّص الفكرةَ التي أودُّ طرحَها هنا، عبارةٌ عميقة الدلالة قالها الأيرلندي الساخر برنارد شو، في صوغ فانتازيّ:
“أنت ترى الأشياءَ الموجودة، وتسأل: ’لماذا؟‘، أما أنا فأحلُم بأشياءَ غير موجودة، ثم أتساءل: ’ولمَ لا؟!‘”


في تلك العبارة الصغيرة تكمن أزمةُ كلّ مبدع، ويدور سؤالُه الوجودي. كلُّ المبدعين راحوا فريسة هذا السؤال الصعب: "هل يمكن أن يكون العالمُ أجملَ؟ هل بوسعنا تغيير شيء من أبجدياته؟! هل بوسعنا "اختراع" أبجديات جديدة تناسب طموحنا وجنوننا؟ كل مبدع حقيقي، رسامًا كان أو شاعرًا أو موسيقيًّا، وكل مفكر أو فيلسوف، وكل رحالة اكتشف أراضي جديدة غير مأهولة، وكل عالِم اخترع شيئًا خارقًا، وكل كيميائي ابتكر دواء أو مصلا، وكل فيزيائي استحدث نظرية أو قانونًا، لابد غزا رأسَه ذلك السؤالُ. لهذا يُنظرُ في أحايين كثيرة للمبدع والعالِم نظرةَ المجنون المنشقّ عن الطريق الجمعي. لماذا؟ لأنه يتحرك في مساحة منزاحة قليلاً عن المساحة المألوفة المأهولة بالسكان. إنها مساحة "الحُلم".
ولأنه لا يجوز أن نُجري عملية جراحية، بأدوات المهندس المعماري، كما لا يصحُّ أن نُشيّد بنايةً بمباضع جراح، أودُّ أن نختبر معًا إن كان يليق أن نحاكم "قطعة أدبية"، بالأدوات النقدية والقوانين التي تحكم، وتحاكم، المقالَ الصحفي أو البحثَ العلمي أو القولَ الدارج اليوميّ. أقصرُ كلامي هنا على "الجملة الأدبية"، لأن للأدباء والفنانين، في تقديري، السبقَ في طرح السؤال الوجودي الأكبر: “ولمَ لا؟!”، الذي فجّره شو.


الأديب، مشغولٌ باستحداث أبجديات غير موجودة ترسم العالم "الطوباوي" الذي يتمناه، وتترائى أمام عينيه صورٌ شعرية "حُلمية"، غير مرئية للعامة. لهذا قال "نزار قباني": “إن لم تستطع أن تأتي بشيء مدهش، فإياك والتحرش بالورق الأبيض.” ترجمة ما سبق؛ "شيء مدهش": يعني خيالات افتراضية لم تخطر على بال بشر، وصياغات طازجة لم تُقل من قبل. (لا تصدقوا عنترة بن شداد حين قال: "وهل ترك الشعراءُ من متردّم؟!” أي: لم يترك الأقدمون شيئا للاحقين. بل نعم، تركوا يا عمّ عنترة! ولا نهاية مطلقًا للطازج من القول والفكر والخيال؛ وتلك عبقرية العقل البشري المذهل). أما “التحرش بالورق الأبيض"، فيعني: تكرار ما قيل من قبل وتقليد الأسبقين وإعادة إنتاج ما أُنتج. وهو بالفعل، كما قال نزار، لونٌ من "التحرش" والصفاقة! كأنما نحاول من جديد اختراع العجلة التي اخترعها أجدادنا الأوروبيون من السلف الصالح مع نهايات القرن الثامن عشر، رغم أن الرسام العبقري ليوناردو داڤنشي قد رسم أول تصميم لها عام ١٤٩٣، لكن أحدًا لم يلتفت إليها آنذاك.


الفكرة باختصار هي محاولة "الوثب خارج الصندوق الجمعي". محاولة النظر إلى الوراء بغضب، بعدما نقول له: "شكرًا قد ألهمتنا، وسنحاول أن نأتي بالجديد، كما أتيتَ أنت بالجديد في عصرك". ليس في هذا إشارةٌ لقتل التراث، بل استلهامه، ثم الانزياح عنه، لنرسم الجديد.
لماذا أقصر كلامي هنا على "الجملة الأدبية"؟ لأنني أؤمن أن الأدباء، والفنانين بشكل عام، يسبقون العلماءَ في "الحُلم". فرغم أنني آتية من حقل دراسة علمية (الهندسة) إلا أنني لا أزعم الحياد، وآخذ مقعدي "المتحيّز" للفنون والآداب عن العلوم. لهذا أؤمن بمقولة آينشتين: “الخيال، أقوى من المعرفة". فهذا الجهاز المذهل في عقل الإنسان، المسمّى "المخيال"، هو الذي يدفع الإنسانَ إلى الحلم بالمجهول (الذي ليس موجودًا )، و"بعدئذ"، يجلس العالمُ الباحثُ المخترع إلى كتبه وموسوعاته ومعمله وأدواته لكي يأخذ جرعة من "المعرفة"، تمكنه من تنفيذ ذلك المجهول وتحويله إلى (شيء موجود ).


الأمثلة على ما سبق لا حصر لها، وينوء مقالي هذا بحصرها. أوردتُ قبل برهة مثال ليوناردو داڤنشي والدراجة، كذلك نتذكر معًا الآخوين رايت والطائرة، كما نتذكر أن "أوليڤر تويست" لـ تشارلز ديكنز قد أجبرت التشريعَ البريطاني على الاهتمام بحال أطفال الشوارع والمشردين وإصلاح أحوال الملاجئ والإصلاحيات والسجون، مثلما أجبر ڤيكتور إيجو دولةَ فرنسا، عبر رواية "البؤساء"، على مكافحة الجوع والفقر والبطالة والتسوّل ومراعاة الدافع وراء الجريمة الأولى. فالذي يسرق رغيفًا لكيلا يموت جوعًا، يقع عبءُ جريمته على الدولة التي لم توفر له الرغيف. كذلك غيّرت الأمريكية "هارييت بتشر ستو" تاريخَ أمريكا بروايتها "كوخ العم توم" وأنهت بها حقبةَ الاسترقاق والعبودية وبيع الملونين كالحيوانات. وغير ذلك مئات الأمثلة التي تعزّز فكرة أن الأدباء والفنانين والفلاسفة هم القادرون على أن "يثقبوا" كوّة في جدار المجهول، لكي يستحدثوا "ما ليس موجودًا"،، كما قال برنارد شو في جملته الفذّة، ثم يتبعهم العلماءُ والمشرّعون والساسة، لكي” ينفذوا” هذا الحلم المجهول، أو ذاك. "ثورو" يحلم، و"غاندي" ينفّذ الحلم. "ستو" تحلم، و"لنكولن" ينفذ الحلم. "داڤنشي" يحلم ويرسم، ثم يجيء الكونت "دي سيفراك" بعده بقرون ثلاثة ليحقق الحلم.


هنا يبرز سؤال جديد: ما هي أدوات الأديب أو الفنان التي يكتب بها "حُلمه" المجهول، أو يرسمه؟ علينا الانتباه، نحن بصدد كتابة "حلم"، فهل بوسع إنسان أن يكتب "الحلم" بمفردات اللغة اليومية العادية وصياغاتها؟ الموسيقيون يكتبون مقطوعاتهم على على أوراق مستطيلة بيضاء تقطعها خمسة خطوط متوازية، تعقبها خمسة خطوط أخر. تُرسم على كل منها نغماتٌ تبدأ بطيئة وتأخذ في التسارع من روند إلى بلانش إلى نوار إلى كروش إلى دوبل كروش إلى تريپل كروش إلى آخر النغمات الخاطفة وأسرعها. وهو هنا مجبرٌ على ابتكار لوحة موسيقية جديدة، لم تُسمَع من قبل، باستخدام تلك الأبجدية الموسيقية ذاتها التي يستخدمها كل الموسيقيين في كل العالم وعبر كل العصور. لو كرّر ما سبقه، فهو "يتحرش" بالسلم الموسيقي! كذلك الرسام. يستخدم باليت اللون والفرشاة ليحوّل الفضاء الأبيض على لوحته إلى حياة وشجر وعصافير وبراكين وشموس وأقمار. لكنه كذلك مجبرٌ على "ابتكار" لوحة تشكيلية جديدة، لم تُرسم من قبل، باستخدام تلك الأبجدية اللونية نفسها التي استخدمها الرسامون كافة في كل أرجاء العالم وعبر كل الأزمنة. ولابد أن يأتي بجديد وإلا كان مكررًا باهتًا مقلّدًا “متحرّشًا”. فماذا بوسع الأديب إذن أن يصنع بثمانية وعشرين حرفًا تضمها الأبجديةُ العربية؟! الشيء نفسه. عليه نحتُ صيغ أدبية ترسم أفكاره وأحلامه المستحيلة، وتنهل من المجهول الحُلميّ الذي يخايله في صحوه وفي نومه. وعليه أن ينتبه ألا يقع في خطيئة التحرش بالورق الأبيض!
والسؤال هو: هل يجوزُ أن نقرأ نوتة موسيقية بأبجديات الحروف (أ-ب-ت-ث A-B-C-D)؟! أم نقرأها بأبجديات اللون والفرشاة والخط والمساحة والنور والظلال؟ وهل يصحُّ قراءة لوحة تشكيلية بأبجديات (دو- ري –مي - فا- صول...)؟ وأخيرًا، هل يجوز أن نقرأ قطعة في مسرحية لشكسبير أو تشيكوڤ كما نقرأ جريدة يومية سيارة؟


هنا يتجلّى الفارقُ "الهائل" بين الخطاب الفني "الحُلمي" الفانتازيّ، وبين الخطاب الإيصالي التقريري اليومي. الأخير يصف "ما حدث" وما يمكن رؤيته بعين البصر، والأول يصف "ما لم يحدث" وغير قابل للرؤية إلا بعين الخيال. فلا يصحُّ أن نقرأ القطعة الأدبية، بمعزل عن "أدبيات" وفنون القراءة الأدبية. لا يجوز أن نعامل المجاز معاملة التقرير. فحين يقول القرآن الكريم، مثلا: “ونحن أقربُ إليه من حبل الوريد"، لن نمزّق أوردتنا وشراييننا ونفتّش داخل نُسغها ونحن نتوقع أن نرى الَله رأي العين. بل نفهم من تلك الآية أن الله قريبٌ ملءَ أرواحنا، مثلما هو ملء السموات والأرض.
هنا نفهم، لماذا تجرّع سقراط السمَّ، ولماذا كاد جاليلو أن يُقتل، لولا أن كذب، ولماذا ارتعب ديكارت وخبأ كتابه "العالم" تحت السرير، ولم ير النور إلا بعد موته، ولماذا نُفي ابن رشد، ولماذا صُلب الحلاج، وأُحرق السهروردي ونُحر الجعد بن الدرهم. هنا ندرك لماذا دائمًا تمتلئ الصلبانُ والمقاصلُ والمشانق والسجونُ بالعلماء والشعراء والمفكرين والفلاسفة، على مرّ الزمان. الأجابة ببساطة: لأن الناس يقرأون أفكارَهم وأحلامَهم، بأبجديات خاطئة لا تناسب أبجديات: "الحلم”.