بدر الدين شنن - كاتب يساري ونقابي عمالي سوري - في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: سوريا وحرب المصير


بدر الدين شنن
الحوار المتمدن - العدد: 4567 - 2014 / 9 / 7 - 21:13
المحور: مقابلات و حوارات     


من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -138 - سيكون مع الأستاذ بدر الدين شنن  - كاتب يساري ونقابي عمالي سوري - حول: سوريا وحرب المصير .


نبغي أن نبدأ بقراءة المشهد السوري كما هو الآن ، أي من المستوى الذي وصلت إليه الأمور ، بأبعادها ، المحلية والإقليمية والدولية ، سياسياً وعسكرياً ووجودياً ، ليصبح من السهل ، معرفة جوهر وأسباب وأهداف ، ما بدأ يجري في سوريا ، منذ ( أواسط آذار 2011 ) ، كحلقة من حلقات ، ما سمي " بالربيع العربي " الذي طاولت رياحه بلداناً عربية عدة ، وذلك بالتظلل بالمطالب السياسية والشعبية الداخلية المزمنة .
لقد كان من الصعب ، في بدايات حركة الشارع ( 2011 ) معرفة ، ماذا يكمن خلف الأفق الإقليمي والدولي ، من مخططات تدميرية وتمزيقية حيال سوريا ، وماذا كانت تستبطن أنشطة ، ترتدي عباءات حقوق إنسان وديمقراطية منشودة شعبياً ، من أهداف متقاطعة مع متطلبات " العولمة " الأمريكية وأطماعها الدولية ، أكثر من تلاقيها مع التطلعات الشعبية والوطنية . وكذلك معرفة ماهو مضمر ، من حركات " سياسيةـ ثقافية " تنحو منحى مجموعات مماثلة ، في بلدان اخرى ، تحت رايات مخملية وبرتقالية ، التي ما لبثت أن استقرت تحت رايات مشاريع اندماجية دولية .

إن الرغبة ، شبه العامة في التغيير ، أي تجاوز أخطاء وخطايا المرحلة الماضية ، الذي كان يسميه طرف الحكم " إصلاحاً " ويسميه طرف المعارضة " التغيير الوطني الديمقراطي " كانت تحجب ماهو كامن ومستبطن ومضمر . وكانت تعطي عبر الشارع ، نفحة من الرطوبة المستحبة ، لنسائم " الربيع العربي " ، التي تهب من المغرب باتجاه الشرق .
بيد أنه لما سيطرت طائرات وصواريخ " حلف الناتو " الحربية وحلفائه من العرب ، دعماً لما سمي " الثورة " ، سقط قوس قزح " الربيع " وصعد مكانه دخان كريه أسود ، وتحولت نسائم الربيع الموعود إلى أعاصير مدمرة ، وبدأ المجهول البشع في أنشطة كهنة " الربيع العربي " يتكشف .

ومنذئذ ، انقلب معظم الاعلام الفضائي والمسموع والمقروء والالكتروني ، العربي والدولي ، إلى أداة حرب نفسية ، تستخدم فيها الأكاذيب والفبركات الإخبارية . وبرز أمراء التخلف ، في المملكة السعودية وقطر والإمارات العربية ، وأردوغان الحالم بتجديد امبراطورية بني عثمان المنقرضة منذ نحو قرن ، وكل من ساركوزي وبعده أولاند ، وكاميرون ، وأوباما ، برزوا قادة " للثورة السورية " . وأضحى أسوأ زعماء الدول الاستعمارية وأتباعهم أصدقاء لسوريا . وتحولت نخب سياسية وثقافية سورية ، التي كان يعول عليها لنشر ثقافة التنوير والتقدم ، إلى هياكل وأطر مأجورة برواتب ثابتة ، وتعويضات سخية ، من قطر والسعودية وأميركا ، وانطلقت باسم المعارضة ، تتحرك في كل الاتجاهات والعواصم المتآمرة على سوريا ، تدعو وتستجدي التدخل العسكري الدولي ، وتكرار السيناريو الليبي في سوريا .
وفسدت السياسة حتى مخ العظم في الفضاء السوري . وألقيت شعارات ومطالب الشارع خلف الظهر . لم يبق سوى الجري الموتور للوصول إلى السلطة " بأي ثمن " وتشكلت معادلة ( نظام / معارضة ) لاتوسط .. ولالقاء .. ولا تفاهم بينهما .
وانحدر المستوى المعيشي لأغلبية الشعب .. من مكابدة الغلاء .. إلى الفقر .. إلى ما دون خط الفقر .

ومع أولى الطلقات النارية القاتلة في الشارع ، للمواطن أو لرجل أمن ، بدأت عسكرة المعارضة . و خرجت المعارضة من مضمار السياسة تحت سقف الوطن ، إلى ميادين الاشتباكات المسلحة ، تحت سقف المخططات الخارجية التي تم تداولها أمام الملأ في مؤتمرا ت، استنبول ، والدوحة ، وبركسل وغيرها . وصار الجندي الذي يحمي الوطن عدواً للمعارض المسلح .. وصار المعارض المتمرد عدواً للجندي . وتحركت أقليات تحمل إرثاً تاريخياً ، أو مذهبياً ، لاقتناص فرصة إعادة بناء كياناتها الخاصة ، أو العودة إلى صرح حضارة طواها التاريخ منذ قرون عديدة .
ورغم ذلك ، ظل ما يجري في سوريا ، من مظاهرات ، واشتباكات مسلحة متفرقة هنا .. وهناك ، وتدخلات سياسية وقحة من الخارج ، وحملات إعلامية جارحة للحقيقة والمنطق ، ظل تحت مسمى " الأزمة " . بمعنى ، أن هناك حلاً لابد أن يعتمد ذات يوم لإنهائها .. وتبقى سوريا دولة .. ويبقى شعبها موحداً متآخياً .

لكن ما أن انتقل التدخل الخارجي ، إلى الفعل الأسوأ في التدخل ، بتوسيع حجم التسليح والتمويل والتدريب ، واجتياح الحدود من الجهات الأربع ، واستنفار وحشد المسلحين الإرهابيين " الجهاديين " والمرتزقة ، بعشرات الآلاف ، من أكثر من ثمانين بلداً بما فيها أميركا وأوربا والبلدان العربية ، وزجهم في سوريا ، على شكل عصابات ومجموعات وجيوش ، ونشرهم خاصة عبر تركيا إحدى دول " حلف الناتو " في المدن السورية ، وتكليفهم بمهام القتل والتدمير . وصعد في استخدام الهيئات الدولية الموالية له ، لشرعنة جرائم المسلحين بحق الشعب السوري ، انتقلت الحالة السورية بذلك من الأزمة إلى الحرب . مع تكريس حالة الحرب الإرهابية ، تحولت المدن والأرياف إلى ميادين حرب متوحشة . وتعرضت للتدمير الفظيع . واستهدفت البنى التحتية .. الكهرباء .. الماء .. المطاحن .. ألخ .. مراكز الإدارة المدنية الخدمية بالتخريب . وصارت دور العبادة .. مساجد .. كنائس ، وأضرحة " الصالحين " ، ومدارس ومشاف أهدافاً لصواريخ وهاونات المسلحين . وأصبحت مفارق الطرق ، والأسواق ، والتجمعات السكانية ، أمكنة مختارة ، لتفجير السيارات المفخخة والعبوات الناسفة . واستهدف الجيش كمؤسسة وطنية لحذفه من مواجهة إسرائيل . وقد كشفت جبهة النصرة وغيرها ذلك ، من خلال علاقاتها المكشوفة مع إسرائيل ، ومن خلال دعم إسرائيل للمسلحين على حدودها .. بإسعافهم في مشافيها ، وأحياناً تتدخل مدفعيتها وطائراتها لصالحهم .

وتساقطت الضحايا آلافاً .. تتلوها آلاف . وكابد ويكابد كثيرون من الجوع والعطش والحصار والاختطاف . وهجر وهاجر الملايين من بيوتهم ومدنهم ، إلى مناطق أكثر أمناً في الداخل .. وإلى الخارج . . ودمرت قرى وبلدات ، وشوارع ، وأحياء ، بكاملها ، في عدد من المدن . وأصبح السوريون جميعاً في حالة حرب .. وضحايا حرب .
لم يعد للبيانات ، والشعارات ، والصور ، الدعائية والتحريضية السياسية إي قيمة جاذبة ، للحراك السياسي ، وإنما أصبحت جزءاً من الحرب النفسية . ما أدى إلى تكون مشاعر إقصائية مدنية أيضاً .
بيد أن ما أن أصبح تدخل الخارج مكشوفاً ، على هذا القدر من الوقاحة والتدمير والتخريب ، صار الخوف من تآمره ومكره وخداعه ، خوفاً عاماً ، تربط به مسؤولية الحرب القذرة بأدواتها الإرهابية .

إن الخوف العام من تآمر ومكر وخداع الخارج في محله . إذ قام هذا الخارج ، المتمثل بأميركا وفرنسا وبريطانيا وتركيا ودول الخليج ، لاسيما المملكة السعودية وقطر ، بعد تعثر مراحل الحرب السابقة التي جربها دون جدوى سنة تتلوها سنة ، قام بإطلاق مرحلة جديدة في الحرب الإرهابية ، وهي إعادة تجميع وتنظيم وتسليح المجموعات التكفيرية المتطرفة ، في تنظيمين رئيسيين ، يشكلان وجهين لحركة واحدة تمتد جذورها إلى التنيظم الأم " القاعدة " ، ويؤديان ، رغم التنافس بينهما مهاماً متكاملة ، وهما " تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام " داعش " و" تنظيم جبهة النصرة . ويقدر عدد المسلحين الذين جرى تعبئتهم في الأطر الجديدة بأكثر من مئة ألف مسلح ، أغلبهم من " داعش والنصرة " .

وقد اكتسح " داعش " مناطق واسعة من العراق وسوريا ، تبلغ مساحتها أكثر من مساحة بريطانيا العظمى . ويهدد بالتوسع أكثر فأكثر . وتشتمل هذه المناطق على حقول بترولية عديدة غنية ، يجري تسويق منتوجها لصالح " داعش " عبر تركيا " الأطلسية " والاحتكارات البترولية . وأعلن " داعش " قيام دولة " الخلافة الإسلامية " وطالب بمبايعة أبو بكر البغدادي أميراً للمؤمنين . ودعا تحت التهديد بقطع الرؤوس إلى مبايعته .
غير أن نجاح الجيش العراق والجيش السوري ، باحتواء الاجتياح الداعشي والتقدم في تدمير العديد من مواقعه ، أحرج داعمو " داعش " الدوليين والإقليميين . وأسرعوا في عقد مؤتمر قمة موسع " لحلف الناتو " لتشكيل تحالف دولي ، بذريعة مواجهة " داعش " لابتزاز الدول العربية وخاصة المعرضة لهجماته ، وإعادة احتلال العراق .. ومحاولة التذرع بدعم المعارضة السورية المسلحة " المعتدلة " في مواجهة " داعش " للتدخل العسكري في سوريا أيضاً ، الذي سيرافقه واقعياً حظر جوي لحماية هذه المعارضة . بمعنى العودة إلى المربع الأول في الحرب السورية ، والعودة إلى مشاريع التدخل العسكري الخارجي وسيناريوهات التدمير الأوسع ، لتمكين أنصار " حلف الناتو " السوريين من الوصول إلى السلطة .
وعلى ذلك ، إن المعادلة السورية الآن تقوم على : سوريا كلها كياناً وشعباً من جهة .. وجيوش المسلحين التكفيريين والمجرمين والغزاة من جهة أخرة . مع الأخذ بالاهتمام .. حجم وأشكال التدخل الأميركي ،الأطلسي ، في العراق .. وربما في لبنان أيضاً .

من أسف ، أن الحالة السورية الجديدة ، قد جاءت في وقت تعاني فيه سوريا من حالة سيئة مرهقة ، هي نتاج حرب ثلاث سنوات ونصف السنة ، عسكرية واقتصادية ونفسية وإعلامية ، التي يصح تسميتها بالتعود على الحرب .. أو التطبع مع أجواء الحرب .. استسلاماً أو قسراً ، أو ارتزاقاً . وفي مقدمة ذلك استمراء المعارضة المسلحة بدورها المعارض المأجور . وتعود طرف الحكم على روتين الحرب كأمر يومي لابد منه . وكلا الطرفين بحاجة إلى الدعم الخارجي لتوفير مقومات متابعة الحرب . وكل من الطرفين يطمح إلى أن يسلم الآخر سلاحه ويخضع . طرف الحكم يطرح ويعمل على المصالحات الميدانية ، وخصومه في الطرف الآخر يطرحون المصالحة بلا مصالحة . أي إقصاء الآخر . وتستمر الحرب وتستمر آلامها وكوارثها .
وهناك من يستثمر ظروف الحرب ، في اللعب بأسعار السلع عامة ، والمواد الغذائية خاصة . وهناك البسطاء الذين لايجدون أفقاً منظوراً للخلاص من الحرب . وهناك الذين اعتادوا على الارتزاق من أعمال ملحقة بالحرب ، مثل تهريب الأسلحة والمسلحين والمهجرين . وهناك الذين يتصورون أن نهاية الحرب تعني نهاية حياتهم السياسية وخسارة مزاياها المختلفة . وهناك المخدوعون بالفكر التكفيري كمنقذ دنيوي ولضمان نعيم الآخرة . وهناك أصحاب المشاريع الطائفية والأقلوية ، الذين علقوا نجاح مشاريعهم التقسيمية على فشل الدولة وتمزيقها .
وهناك من هو أسوأ ممن أشرنا إليهم ، إنهم الواهمون الذين يتصورون ، أن المسلحين جاؤوا أو جيء بهم ، لنشر الحرية والديمقراطية في البلاد ، وسيرحلون بعد أداء مهامهم العابرة ، أو يمكن أن يرحلوا بناء على قرارات خارجية ، ، ولا يقتنعون بكل ما يرونه أمامه ، أنهم جاؤوا ، حاملين مشاريعهم المنسقة مع من جاء بهم ، لتدمير الدولة السورية والانجازات الوطنية والاقتصادية والخدمية والعمرانية ، التي بناها الشعب السوري بجهوده وعرقه أجيالاً متوالية خلال مئات وآلاف السنين ، ولتهجير العدد الأكبر من السوريين ، والاستيطان في سوريا ، وجعلها منطلقاً لغزو بلدان أخرى , وإقامة مستعمراتهم " إماراتهم الإسلامية " المزعومة ، المسالمة لإسرلئيل ، فوق أرضيها وفق شريعتهم ومفاهيمهم المتخلفة ، ولن يخرجوا منها إلاّ مرغمين .
إن استمرار هذه الحالة ، يحمل خطراً غير قليل ، على المصير السوري. فهو يفتح المجال للقوى الإقليمية والدولية ، للقيام بالمزيد من المؤامرات والتدخلات والصفقات المريبة ، التي تطيل أمد الحرب ، لت زيد من تراكم ثرائها وتكريس تطلعاتها الستراتيجية . بالمقابل ، ليس من مصلحة المواطن السوري الاستستلام لأي شكل من أشكال التطبع مع الحرب ، وإنما العمل الجاد لرفض الحرب ، والتخلص من الغزاة ، وضمان وجود الوطن المتحرر الديمقراطي ، الجامع والحاضن لكل أبنائه .

وإذ أنتجت الحالة الجديدة .. معادلة جديدة هي ( وطن / غزاة ) فإن الحالة السيئة الناتجة عن سنوات الحرب ، المتمثلة بالخضوع لأقدار الحرب والتطبع بمساراتها ، ينبغي التحرر منها . والتحرر من عصبيات الصراع السياسي التناحري الداخلي ، الذي تميز بالمبالغة والتشدد والعبيثية والأثرة ، وتأصل حتى في العلاقات الشخصية . والكف عن المناكفات السياسية بين الأحزاب المختلفة ، التي تتصارع ، حصراً ، للاستحواذ على السلطة . والانتقال إلى العمل الوطني المشترك والوحدة الوطنية ، كما تفعل الشعوب الأخرى الحريصة على أوطانها ووجدودها .

مع التمسك الأقوى .. بوجهات النظر الوطنية في التغيير .. والحقوق الشعبية المشروعة .. والديمقراطية بكل أبعادها الحضارية العادلة .. ينبغي ألاّ ننسى أن شرط وجود تلك الوجهات نظر والحقوق والديمقراطية الأوحد .. هو وجود الوطن أولاً .