طلال الربيعي - كاتب وباحث، ومحلل نفسي ماركسي - في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: اهمية اقتران الماركسية بالتحليل النفسي (العراق و مُهرِّجو البلاط !).


طلال الربيعي
الحوار المتمدن - العدد: 4831 - 2015 / 6 / 8 - 21:14
المحور: مقابلات و حوارات     


من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -158 - سيكون مع الاستاذ د.طلال الربيعي - كاتب وباحث ومحلل نفسي ماركسي -  حول: اهمية اقتران الماركسية بالتحليل النفسي (العراق و مُهرِّجو البلاط !).




برغم مرور سنوات عديدة, فان تساؤل الطبيب والمحلل النفسي البريطاني لاينج لم يفقد شيئا من حيويته:
«إن واقعنا الاجتماعي على درجة كبيرة من القبح إذا نظرنا إليه من حيث الحقيقة المنفية، فليس هنالك تقريباً من جمال إلا وهو كذب.
ما العمل..؟ أبوسعنا نحن الذين لا نزال نعيش شبه أحياء في قلب الرأسمالية الشائخة الذي ما زال ينبض، أن نفعل أكثر من أن نعكس الخراب من حولنا وفي داخلنا؟ هل نستطيع أن نفعل أكثر من أن نغني بحزن ومرارة أغاني الخيبة والهزيمة؟»

في مخطوطات 1844 عالج ماركس أسباب اغتراب الإنسان في المجتمع الرأسمالي. فالقابليات الإبداعية، التي تجد لها تعبيرا في العمل، يصيبها التشوه وتتحول إلى قوى مناهضة للوجود الإنساني. وبذلك يصبح الناس عبيداً لمجتمع هو من نتاجهم. في المجتمع الرأسمالي يتحول العمل، باعتباره أكبر مصدر للإبداع والخلق، إلى مهمة روتينية بغيضة وصـراع يومي يحـاول الشخص تجنبه كما يتجنب الطاعـون، حسب تعبير ماركس.

أما فرويد فقد اعتبر اغتراب الإنسان حصيلة لا مفر منها للحضارة. والحضارة عنده هي الحضارة الغربية دوماً. وكان متشائماً في نظرته للحضارة، لأن تطورها، حسب رأيه، يؤدي بالضرورة وبشكل متزايد إلى قمع الناس لغرائزهم (الجنسية)، وذلك لأن نمو الحضارة يعتمد بالضرورة على عملهم المتزايد. وبالتالي عليهم أن يتعلموا ضبط غرائزهم وتأجيل أو إلغاء تلبيتها لفترات طويلة، مما قد يؤدي إلى اضطرابات نفسية وشعور بالخواء والقنوط. وبذلك فإن الحضارة عند فرويد تؤدي لا محالة إلى الاغتراب والتعاسة او العصاب. أن نبوءة فرويد هذه أثبتتها تقارير منظمة الصحة العالمية. فهي تؤكد أن نسبة الأمراض النفسية، وخصوصا الكآبة، قد بلغت الآن عشرة أمثال ما كانت عليه بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، هذا بالرغم من التطور الكبير الذي حصل مؤخرا في مجال تشخيص وعلاج الأمراض النفسية.

برغم إقتناعه بأهداف الماركسية السامية، اختلف فرويد معها في إمكانية إلغاء أو تخفيف الاغتراب، لأن الدوافع العدوانية لدى البشر، التي تهدف الماركسية إلى تقليلها أو إلغائها كلياً، يعتبرها فرويد ذات طبيعة بيولوجية. ولتعذّر تغيير ما هو بيولوجي فإن القمع بأنواعه سوف يبقى دوماً، لا بل سيتفاقم مع تطور الحضارة، وما يتطلبه ذلك من عمل متزايد وتنافس حاد بين البشر.

أعاد المفكر الشيوعي غرامشي تفسير ماركس، فرأى بأن اغتراب الإنسان يحصل عندما يبدأ الناس الاعتقاد أن البنى الأيديولوجية المتأصلة في حياتهم الاجتماعية والسياسية هي انعكاس لنظام طبيعي سرمدي، وبالتالي لا مجال لتغييره. وهذا الفهم يغفل، بطبيعة الحال، الطابع المؤقت للأيديولوجيات ويعطّل رغبة الناس في العمل من أجل بناء أنظمة اجتماعية أكثر إنسانية. و أكد غرامشي على أهمية البنى الفوقية في تحديد النظام الاجتماعي وتغيره، وذلك خلافا للماركسية التقليدية القائلة أن القاعدة الاقتصادية تلعب الدور الحاسم في بقاء الاغتراب أو معالجته.

في دراسة ذات قيمة استثنائية, يتتبع Livio Boni  اصداء تاثير التحليل النفسي على غرامتشي في كتابه دفاتر السجن. تتميز اشارات غرامشي الى التحليل النفسي في كتابه بكونها متناثرة وغير مباشرة. ومع ذلك فانها تتمتع باهمية متميزة بخصوص توضيح افكار غرامشي بمجملها على حدة, وكذلك بخصوص تأكيده على اهمية الماركسية للتحليل النفسي والتحليل النفسي للماركسية.
ويذهب  Livio Boni  بعيدا في تأويله ليؤكد على الوظيفة الاخلاقية التي ينسبها غرامشي الى العقل الفرويدي كاداة رئيسية في بناء اخلاقية ذات نمط جديد, وخصوصا فيما يتعلق بالشخصية الانثوية, عقدة النقص, وكذلك بما يتعلق بالحاجة الى مواجهة تداعيات مثالية الذكر الجماعية (1).

شرح الناقد الأدبي البنيوي بارت كيف يحصل إضفاء الصفة «الطبيعية» التي أشار إليها غرامشي. فالأفكار البرجوازية، وما تنطوي عليه من لامبالاة، تخضع إلى صيرورات لغوية لاشعورية معقدة حتى تكتسب طبيعتها السرمدية. وهكذا تبدو المنظومات الأيديولوجية خارج ما هو تاريخي، فتعتبر من بنى النظام الطبيعي الحتمي. بعبارة أخرى، فإن القهر والاستلاب قدر لا مفر منه، كما يرى فرويد وآخرون من المفكرين الذين لا يشاركونه أفكاره أو حتى يخالفونه. في كتاباته العديدة بيّن بارت أن هذه الصيرورات اللغوية اللاشعورية تؤدي إلى خلق أساطير منفصلة عن التأريخ والسياسة. وقد اعتمد بشكل رئيسي على الرموز اللغوية (التي يدرسها علم السيمياء أي علم الإشارات) في كشف الخلفية الأيديولوجية والسياسية لهذه الأساطير ووظيفتها في إدامة الوضع الراهن على حاله. ويعتقد البعض أن فوكو لم يعترف بتأثير غرامشي على مؤلفاته الفكرية.

مارست الماركسية تأثيرها على نظرية الهيمنة الاجتماعية. الوظيفة الرئيسية لهذه النظرية هي تفسير تاثير الاساطير في نشوء التركيبة الهرمية الاجتماعية (2). والاساطير هي المعتقدات التي تبرر الهيمنة الاجتماعية، مثل الأساطير الأبوية، الجنسية (الجنس كذكر او انثى), العمر, والخرافات المتبادلة (اقتراحات بأن الجماعات المهيمنة والمهمشة متساوية في الواقع)، والأساطير المقدسة -الإلهية او الدينية. تقترح هذه النظرية ان هذه الاساطير تتحكم بالمجتمع بموجب قانون حديدي يدعى: القانون الحديدي الاندراكي
(Iron Law of Andrachy), حيث ان الاندروجين هو الهرمون الذكري.

أعاد المحلل النفسي الفرنسي لاكان تفسير مؤلفات فرويد، واستخدم هو أيضا علم السيمياء في طرح تصور جديد للسلوكيات والتفاعلات البشرية. ورغم أنه لم يكن ماركسياً، فإن تفسيره الجديد لفرويد قد مهد السبيل لإقامة الصلة بين الماركسية والتحليل النفسي، مما ينسجم مع أطروحة ماركس عن فويرباخ التي تؤكد بأن من الخطأ اعتبار الإنسان كائنا مجرداً ذا طبيعة سرمدية، بل إن كل إنسان هو حصيلة لشبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية والسياسية في ظرف تاريخي محدد (تأكيد ماركس هذا تناساه الدوغمائيون طبعا). ففهم لاكان لنفس الإنسان يقترب إلى حد كبير من فهم ماركس، لأن لاكان اعتبر النفس البشرية، إلى حد كبير، نتاجا لمنظومة أو تركيبة اجتماعية وحضارية وتاريخية تمارس تأثيرها من خلال الأعراف التي تحملها اللغة إلى الطفل أثناء نموه وتحدد شخصيته لاحقا. ولكن الكثير من هذه المعتقدات والتقاليد، حسب لاكان، ينتقل إلى ذهن الشخص دونما وعي.

كان لاكان أكثر تفاؤلاً من معلمه فرويد. ففي حين عزا فرويد الصراع بين الفرد والحضارة إلى عوامل بيولوجية، فإن لاكان أعاد وضع الفرد ضمن المنظومة الاجتماعية والتاريخية التي ينبغي دراستها وفهمها من أجل تمكين الناس من التغيير. ومن الجدير بالذكر ان بعض كتابات لاكان بالفرنسية ترجمت الى الانكليزية ونشرت في المجلة الماركسية New Left Review في عام 1968 مما ساعد ذلك على انتشار افكار لاكان وذياع صيته (3). استند لاكان في اعادة اكتشاف فرويد على تعاليم اللغوي البنيوي دي سوزر. فحسب دي سوزر, لم يعد يْنظَرإلى اللغة باعتبارها هامشية لفهمنا للعالم الذي نعيش فيه، ولكن بوصفها عنصرا أساسيا لذلك. الكلمات ليست مجرد تسميات صوتية أو ملحقات اتصالية مفروضة على نظام موجود مسبقا بالفعل من الأشياء. فهي منتجات جماعية للتفاعل الاجتماعي والأدوات الأساسية التي من خلالها يشكل البشر عالمهم ويعبرون عنه. اثرت عميقا وجهة نظر القرن العشرين في اللغة على التطورات في مجموعة كاملة من العلوم الإنسانية. وان تاثيرها متميز بشكل خاص في اللغويات والفلسفة، علم النفس, علم الاجتماع ,والأنثروبولوجيا (4).

حسب المفكر واللغوي تشومسكي, فان النحاة الفلسفيين Philosophical grammarians يعتقدون أن كل اللغات تشترك في التركيب العميق للغة (تجد تعريف التركيب العميق بعد لحظة), وهو امر ذو أهمية كبيرة فيما يتعلق بتأثيرات اللغويات البعيدة المدى على علم النفس العام. ويمكن لهذه التأثيرات, حسب تشومسكي, أن تجعل بنية اللغة حقا بمثابة "مرآة العقل". يعتقد تشومسكي ان مهمة علم النفس متعددة. احداها هى اكتشاف المخطط الفطري, او "جوهر" اللغة البشرية". هذه المهمة تقع على عاتق فرع من علم النفس المعروف باسم اللغويات. المهمة الاخرى هي دراسة مفصّلة للطابع الفعلي للتحفيز والتفاعل الحي مع البيئة الذي يفعّل الآليات الذهنية الفطرية في العملية, وهي الدراسة التي بقوم بها عدد قليل من علماء النفس. والجدير بالذكر ان تشومسكي (5) يعتقد ان كل جملة لغوية لها مستويين من التمثيل - العميق والسطحي: الاول يتمثل في علاقات الدالات الأساسية للجملة, والتي ترسم خرائطها على بنية السطح (الذي يتبع الجملة الصوتية بشكل وثيق للغاية) عن طريق قواعد اللغة التحولية, transformational grammar.

لقد استند لاكان في اعادة اكتشاف فرويد على تعاليم اللغوي البنيوي دي سوزر, حيث استعارها لاكان في تسمية اللغة (كوعاء حامل للتقاليد والاعراف والافكار والعادات) ب ا"لآخر", او, للتبسيط, ما يسمى عادة
the Big Brother  اي ان اللغة تتكلم من خلالنا, و لسنا نحن الذين نتكلم اللغة, وبالتالي فان تكلمنا لاللغة هو نوع من الموت او الجرح النرجسي لانه يكبح الاصالة الفردانية ويؤدي الى التقهقر الى لغة المجوعة او حتى ما يعرف احصائيا بالتقهقر نحو الطبيعية. والطبيعية او السلوك الطبيعي هنا هو مفهوم احصائي لا علاقة له بكون السلوك صحيا ام لا. فالقرية التي يدمن اغلبية سكانها على الكحول هو سلوك طبيعي احصائيا, ولكنه سلوك غير صحي بالطبع من الناحية الطبية, اي انه غير طبيعي صحيا رغم طبيعته احصائيا.

ولكن يمكن فهم التراجع الاحصائي نحو الطبيعية بكونه في نفس الوقت تقهقر الخطاب الفردي لصالح الخطاب الجماعي من خلال اللاوعي الذي تركييته هي نفس تركيبة اللغة, كما نشهد ذلك في منطقتنا حيث يتراجع الخطاب اليساري-العلمي لصالح (عدم) التفكير الجماعي, او فكر القطيع السائد, اي لصالح دين او طائفة او عشيرة او اثنية معينة. وبذلك يمكن القول ان تكلم اللغة هو صمت الفرد او موته الاصغر. واللغة, كل لغة, تقمع اصالة الفرد. وانعدام الاصالة الشخصية هو ايضا نوع من العصاب.

ولتقريب الفكرة اكثر, فان اشتراك جموعا مليونية في زيارة مراقد الأئمة اثناء المناسبات الدينية في دولة مثل العراق يؤدي الى جرح نرجسي في الافراد المشاركين, لانهم يسلكون ككتلة واحدة يديرها لاعقل جماعي, وهم ينصاعون لاشعوريا الى سلطة اللاعقل هذا. وانصياعهم هذا يكون على حساب اصالتهم وتمييزهم كافراد مؤهلين لاستخدام عقولهم في التشكيك في سطوة اللاعقل هذه. ان اللاعقل هو فكر مجرد ولكنه يكتسب فيزياويا قوة المارد الجبار من خلال حشودهم ومسيراتهم. ومحصل فعلهم هو ليس مجموعا حسابيا بسيطا لمجموع فعل الافرد. فالحكمة الخالدة لسقراط تُعلّْمنا ان الكل اكبر من مجموع اجزاءه . ان انصياعهم اللاشعوري لسطوة اللاعقل هو بالضبط سبب بلائهم. فكلما قامت حشودهم بزيارة لعتباتهم المقدسة, كلما انكمشت وتقلصت شخصياتهم الاصيلة. والمشكلة لا تقتصر على كونهم اصبحوا جنود اللاعقل الميامين, وانما, وهو لربما الاهم, ان زيارتهم للعتبات المقدسة تسبب جرحا نرجسيا او موتا اصغرا في دواخلهم, والذي لا بد ان يخلق لاشعوريا الاحساس بالذنب في انفسهم- والشعور بالذنب ينسب ظاهريا الى نكث عهد اجدداهم الاقدمين لوعودهم مما سبب في مقتل امامهم. و اسباب الشعور بالذنب في عقلهم الظاهر لا تمت باية صلة الى الاسباب الاصيلة في عقلهم الباطن. وكلما زاد تدينهم الظاهري كلما ازداد عمق الجرح النرجسي وتقلصت اصالة شخصياتهم وكلما تعاظم شعورهم بالذنب. وتقلص وانكماش الاصالة الشخصية لا بد وان يصاحبه انعدام الشعور الفردي بالمسؤولية فيعم الفساد وينتشر كالوباء. ولكن الفساد, والغنى الناتج عنه, لا يعالج عصابهم حتى لو امتلكوا اموال قارون. فعصابهم او اغترابهم هو نفسه نفس اغتراب البروليتاري في المجتمع الرأسمالي, بالرغم من الاختلاف الكببر في مظاهره ومسبباته والتعامل مع نتائجه. و تعمق الشعور الداخلي بالذنب يدفعهم الى مزيد من التدين, وبالتالي تعميق الجرح النرجسي اكثر واكثر, وهكذا يدخلون في دوامة مفرغة حيث يؤدي التدين الى الشعور بالذنب الذي يؤدي الى المزيد من التدين الذي يؤدي بدوره الى المزيد من الشعور بالذنب, وهَكَذا دَوالَيْكَ .

بالتاكيد ان اللاعقل الجماعي الذي يدفع الجموع الى التدين الظاهري لا يعني انه لاعقل تماما بدون ادنى تفكير. فهو ليس بدودة بالارض. واالثنائية اما/او لا محل لها هنا. فلاشعوريا يعلم اساطين اللاعقل ان الفقر يزيد من التدين (العلم يؤكد هذا ايضا). والتدين (المظهري) هنا يعني تقريبا ممارسة طقوس جماعية تحقق التصالح مع الآخر, اللغة, على حساب الذات, وبالتالي فهو عصاب. والعصاب ليس عصاب الفرد فقط وانما عصاب الجماعة والحشود, الآلاف و مئات آلالاف, او الملايين. انهم يتكيفون مع سطوة اللغة, سطوة العادة, سطوة القانون الطبيعي في القصور الذاتي, سطوة الموت. لكن الفيلسوف كريشنانامورتي يحذرنا من التكييف مع مجتمع مربض. فالثمن الذي سيدفعه كل منا سيكون غاليا, سيكون على حساب عقولنا, على حساب قدرتنا في التساؤول والتفكير, وبذلك تنتفي اي امكانية لخلق النفس الاصيلة, مما يؤدي, شأنا او ابينا, الى وأد اي مشروع هادف الى خلق دولة المواطنة ومساواة الافراد في الحقوق والواجبات. ان سطوة اللاعقل وانكماش النفس الاصيلة هما محصلة لدولة الكيانات والطوائف في العراق- واستدلالاتي اغلبها, ان لم يكن كلها, من العراق بسبب معرفتي باوضاعه افضل نسبيا من غيره -. فمهما زعم المحتل وادعى, فان نيته في العراق لم تهدف بالقط الى خلق دولة مدنية. كل الدلائل النظرية والعملية تؤكد العكس.

مما بنبغي اضافته هنا ان اللغة لا تأبه بالتقسيم التقليدي للايديولوجيات ولا تكترث بها بتاتا. فلغة السلطة السائدة هي لغة كل الطبقات والنفاذ من سطوتها يتطلب جهدا ماركسيا سيزيفيا شرحته في مكان آخر (6) . لذا لا غرابة ان تقع احزاب ماركسية او شيوعية ضحية لسطوة اللغة. فتضطر هي ايضا, لاشعوريا, للتقهقر نحو المعادل المشترك ويصبح خطابها جزءا من الخطاب السائد او مكملا له. طبعا هذه الاحزاب ترتكب خطيئة اكبر عندما تستخدم الخطاب المهيمن لتبرير سياساتها, لتدعي ان "العقلانية والموضوعية ومسايرة ظروف العصر!" تقتضي مسايرة ومصالحة اللاعقل الجماعي. واللاعقل الجماعي لا نجده في قاموس الفاظها. فاللاعقل يصبح بقدرة قادر صنوا للعقل.

لكن مصالحة هؤلاء او احزابهم للاعقل الجماعي, المناقض لعقل التشكيك الديكارتي, وانصياعهم لسطوته, خالية حتى من اي ابتكار. فما تغير هو مكان اللاعقل او قطبيته. فبعد ان كان مكانه الكرملين في زمن غابر, اصبح مكانه الآن البيت الابيض. ولكل من الكرملين والبيت الابيض اتباع في السر والخفاء وفي الماضي والحاضر وفي السراء والضراء.

هؤلاء طبعا لم يكلفوا انفسهم عناء طرح السؤال التالي: "كيف يستطيعون مسايرة روح العصر بتكييفهم مع اسلام عمره الف ونصف الالف عاما, اذا ارادوا في نفس الوقت تجنب التقهقر لصالح الخطاب السائد آنف الذكر؟". و لكن قدرتهم حتى على اثارة سؤال كهذا معدومة او محدودة جدا. فحالهم حال مهرجي البلاط في مملكة الاطفال الصغيرة. فالطفل وحده, على تقيض اصحاب الحكمة او مدعيها, هو الوحيد الذي اعلن ان الامبراطور كان عاريا.

اذن فوباء ظاهرة التدين والانصياع الى الاخ الاكبر من قبل الشيوعيين او بعضا منهم, والاخ الاكبر يقبع في موقعه الحالي, البيت الابيض, هما واجهتان لعملة واحدة. انهما مظهرين لسطوة اللاعقل. واللاعقل هو العدو اللدود للدولة المدنية والعلم, وكل من يشككك في هذا لا يمكن تجنبه وجوب تخظئة رائد العلم الحديث, رينيه ديكارت, في مقولته المشهورة "انا افكر فاذن انا موجود" .

ان مشاركة الحشود الغفيرة في الطقوس الدينية هي تعبير عن ما سماه المحلل النفسي لاكان ب "الحقيقي" (و"الحقيقي" هو مفهوم لاكاني خاص لا علاقة له بالمفهوم المعتاد للحقيقة, فهو يشكل كل ما لا تستطيع اللغة التعبير عنه, وهذا ليس ناتجا عن قصور في اللغة او الشخص).
اذن هل ان زبارة العتبات المقدسة بحشود مليونية او يقرب و انتشار التدين الظاهري في العراق هو تعبير عن الالم الذي لا يحتمل والاذى الذي لا يطاق كنتاج للحروب والاحتلال وما صاحبها من مآس بشرية تفوق الوصف؟ هل انها تعبير عن تعاسة والم شعبنا الذي لا تستطيع اللغة التعبير عنه, مهما بلغت بلاغتها نفسها او اجاد المتكلم التعبير؟ هل ان ذلك هو زفرة المضطَهد كما يشير ماركس الى الدين؟
حسب المفكر الشيوعي والمحلل النفسي اللاكاني جيجيك (7):
The Real resides instead in the traumatic kernel that those inhabitants could not symbolise
ف"الحقيقي" يقطن في نواة الصدمة (الحروب والعنف والقمع, مثلا) الذي لا يُستطاع تحويله الى رموز" (او بمعنى آخر, استحالة التعبير عنه باللغة).
فهل ان مأساة الخطاب الشيوعي هي بسبب عجزه في تحويل زفرات المضطهَدين (السجل الحقيقي) الى لغة (السجل الرمزي) كي يْستطاع التفاعل معها لغويا وعقليا من اجل التغيير؟ ان وظيفة الشيوعي تتحتم ان تكون بتحويل الحقيقي الى رمزي, وهذا ايضا هو بالضبط ما يفعله المحلل النفسي مع مريضه المصاب بالعصاب. طبعا السلطات تحاول قدر جهدها الحيلولة دون تحول الزفرات من السجل الحقيقي الى السجل الرمزي, وبالتالي تمنع استعادة الشعب لعافيته وقدراته.

تمارس اللغة سطوتها لاشعوريا كما تمارس الجاذبية سطوتها علينا. فنحن نراعي, لاشعوريا, في اغلب الاوقات ان لم يكن كلها, ظاهرة الجاذبية حتى لو لم نسمع بقوانينها, والناس راعت هذه القوانين قبل اكتشاف نيوتن لها. فكما ان الجاذبية قوة لا تكترث للايديولوجية من قريب او بعيد, فكذلك اللغة تمارس هيمنتها على البشر اجمعين. واللغة تمارس سلطتها اللامتناهية باشد الوسائل خفية واقلها وضوحا للعيان. فعبارة "ان شاء الله", التي يرددها الماركسي, كما المتدين, هي لاجل ملأ الفراغات في اللغة وتشديد احكام هيمنتها. ولكن ملأ الفراغات هو اغتصاب لاللغة لكون وظيفة الجنس (الذكورية), حسب سارتر, تتمثل بملأ الفراغات (8). فالطبيعة والبشر يكرهون الفراغ سواء بسواء. قد يسْتَخْدَم مَلأ الفراغات في الخطاب الجماعي ايضا لاجل خلق حَميميّة مصطنعة في التواصل, وهذا هو السرطان بعينه, لانه يعني تنخّر مشروع الحداثة وانتصارا بالغا لاعدائها. وهنالك ما لا يحصى من العبارات اللغوية التي تفعل نفس المفعول مثل "الله يخليك!" وغيرها الكثير التي يستخدمها شيوعيون وماركسيون, بدون وعي, في سياق تواصلهم مع الناس. ولكنهم ايضا يزعمون ان استخدامهم للعبارات الجاهزة ذات الطابع الديني او القدري سيعمق من صلاتهم مع الناس, وخصوصا مع المتدينين منهم الذين يشكلون اغلبية الناس. نعم انها قد تعمق علاقتهم مع الناس, ولكنها في نفس الوقت تزيد من تبعيتهم للمجاميع التي تحكمها سلطة اللغة المضادة لمشروع اليسار والحداثة. ان هذه العبارات البسيطة, النقية والبريئة في ظاهرها, هي السم الزعاف (9) . انها تعني سحقا لاي مشروع يهدف الى تحقيق المدنية واعلاء حقوق الانسان. انها انصياع لسلطة القطيع. المسألة لا تقتصر على الكلمات, وانما تتعداها الى فعاليات ذات صبغة دينية, مثل اقامة مجلس الفاتحة عند رحيل احدهم او احد قادتهم او مجلس العزاء بمناسبة ما يسمى "الاربعينية", اضافة الى تحجب بعضهن!

الغالبية الساحقة من الماركسيين او الشيوعيين, في منطقتنا على الاقل, لا يتمتعون, حالهم حال غيرهم, بدراية في مجال التحليل النفسي وليسوا على اطلاع (كاف) على ادبياته, ولذلك فان قدراتهم الذاتية او الجماعية فى الحد من سطوة اللغة واختراقها لاشعوريا منظومة افكارهم تكون عادة محدودة او معدومة. ولذلك فان اعتناقهم الماركسية, ومهما خلصت نياتهم, لا يفيدهم قيد شعرة في الحد من الاختراق اللغوي. ففي المحصلة النهائية, من يتكلم هي اللغة نفسها وليس الحزب الفلاني او العلاني, سواء اكان يساريا او يمينيا.

تشير دراسات اجتماعية-نفسية الى العنف الرمزي المدعوم من قبل السلطة (10). وهذا ينسحب بالطبع ايضا على اللغة باعتبارها نفسها (حاوية وحاملة) السجل الرمزي او السلطة الرمزية. اُقترِحَ مفهوم السلطة الرمزية لأول مرة من قبل عالم الاجتماع الفرنسي بيار بوردو لتفسير التاثير الخفي واللاواعي تقريبا للهيمنة الثقافية/الاجتماعية (الهيمنة الرمزية), التي تتضمنها العادات الاجتماعية اليومية, في تاثيرها على وعي الفرد. تمارس السلطة الرمزية دورها الانضباطي لوضع الفرد في موقعه المحدد له اجتماعيا ضمن الهرم الاجتماعي. وتتم ممارسة السلطة الرمزية في بعض الأحيان من خلال العلاقات الشخصية, ولكن ايضا في احيان عديدة من خلال مؤسسات النظام في الأساس، لا سيما في مجال التعليم. احيانا يشار أيضا الى السلطة الرمزية ب"السلطة الناعمة"- لان العنف خفي ومُتَسَتِّر، وتشمل السلطة الرمزية الإجراءات التمييزية أو الضارة التي تترتب عليها, مثل التمييز الجنسي (للذكر ضد الانثى) , والتمييز العنصري, والديني والطائفي. تحافظ السلطة الرمزية على هيمنتها من خلال احداث تشويش وخلط لعلاقات السلطة في التركيبة الاجتماعية لمجال معين. بينما تتطلب القوة الرمزية وجود المسيطِر، فانها تتطلب بالمقابل من المسيطَر عليه موافقته على تبادل القيمة الاجتماعية التي تحدث بينهما. وهذا يذكرنا بمفهوم السادية-المازوخية في التحليل النفسي وعموما. فالسادي يكتسب هيمنته من خلال انصياع المازوخي له, وهو ما عبر عنه هيغل في ديالكتيك السيد-العبد, فالسيد لا يمكن ان يكون سيدا بدون (موافقة) العبد. حسب المحلل النفسي الماركسي اريك فروم, فان الشخصية السادية-المازوخية, مسبب رئيسي, على الصعيد النفسي, للتركيبات السياسية الفاشية. يمكن النظر إلى مفهوم السلطة الرمزية استنادا على مفهوم فريدريك إنجلز في الوعي الزائف. حسب انجلز، في ظل الرأسمالية، ان العلاقات بين الافراد والاشياء بعضهم مع بعض هي جزء من قيم مجتمعية معتمدة على الاشخاص أنفسهم المنخرطين في العلاقات التفاعلية (11). بدون التوهم بوجود قانون طبيعي يحكم هذه العلاقات في قيمتها الاجتماعية والمادية، فإن البروليتاريا لن تكون راغبة في دعم الاجراءات الاجتماعية المناقضة لمصالحها الخاصة. يجب على الجهات المهيمنة في المجتمع ان تتقبل بوعي الوجود الأيديولوجي للنظام الاجتماعي غير العادل كي يمكن ان تتحقق العلاقات غير المتكافئة. ركز لويس ألتوسير في كتاباته على ما سماه ب "أيديولوجية جهاز الدولة", التي تستند جزئيا على القمع الرمزي (12). ان عدم اكتراث الاحزاب الشيوعية في منطقتنا بسطوة اللغة وعدم وعيها بقدرتها على خلق الوهم الايديولوجي, يؤدي الى احداث تحالف غير مقدس مع تخلف البنية التحتية ليبرمج مستقبلا كارثيا لهذه الاحزاب. الحل ليس سهلا بالمرة ولكنه لربما ممكن.
-------
استخدمت دراسة عن "صنمية السلعة والنرجسية" النظرية الماركسية في التحليل النفسي للسلوك الاقتصادي (البيع والشراء) للمستهلك المعاصر(13). فعالمي النفس ستيفن دن وروبرت كلولي يقترحان في هذه الدراسة أن المستهلكين، الذين يدعْون أنهم معنيون أخلاقيا بأصل تصنيع السلع او منشأها, يتصرفون مع ذلك كما لو كانوا يجهلون ظروف العمل الاستغلالية التي بموجبها يتم إنتاج العمال السلع والخدمات (مثل انتاج الملابس لبعض شركات الملابس العالمية في دول كبنغلاديش وتحت ظروف سيئة جدا وباجور زهيدة للعمال ومن ثم بيعها بسعر اغلى بكثير في دول اوربا الغربية او امريكا الشمالية). يقترح الباحثان ان هذه الظاهرة تشكل تجسيدا لثقافة الاستهلاك، التي تجعل الرجال والنساء يعبرون عن نرجسيتهم (الاستهلاك الاقتصادي) كوسيلة مقبولة اجتماعيا للتعبير عن العدوانية. ومع ان هذه الدراسة تتعلق اساسا بالمواطن في الدول الغربية الغنية, الا انها مع ذلك تدفعنا للتساؤل هل ان انعدام او ضعف القدرة الشرائية لقطاعات واسعة من المواطنين في منطقتنا بسبب الفقر والبطالة تمنعهم من تصريف عدوانيتهم من خلال السلوك الاستهلاكي ولجوئهم كبديل الى العنف المسلح. ومع ان هدف هذا الاستعراض ليس وصفيا ولا يتضمن تقديم الحلول لمشاكلنا بشكله المباشر, فالمرء مع هذا لا يمكن ان يتجنب الاستنتاج، الذي تمليه حتى الفطرة السليمة، بان مكافحة الفقر هي احدى الوسائل الفعالة في التقليل من ظاهرة العدوانبة تجاه النفس والآخرين. كما ان هذه الدراسة تجعلنا لربما نعيد التفكير في اسباب انخراط قطاعات واسعة من الشباب في العراق في سلك الجيش. قد يكون السبب اقتصاديا لعدم توفر او ندرة فرص العمل, ولكن معرفتنا بتدني رواتب المجندين وخطورة العمل اصلا وظروف العمل السيئة وحتى احيانا يقومون هم بتسليح أنفسهم بأنفسهم (اي انهم اشبه بميليشات مسلحة منهم بجيش نظامي) , قد تعني ان هؤلاء المجندين يلتحقون بالجيش ليس لاسباب اقتصادية (او للدفاع عن الوطن!) فقط, وانما ايضا لتصريف طاقاتهم العدوانية.
---------
في كتابيهما (نقيض أوديب) يشرح الكاتبان Deleuze و Guattari كيف تتحدد وتتشكل الدوافع الغرائزية بالارتباط مع أنظمة اجتماعية معينة (14) . فاعتبرا هذه الرغبات مولدات ديناميكية ذات إمكانية دائمة في توليد رؤى وأفكار جديدة. أي إنها مولدات طاقة أولية يمكن الاستفادة منها في إنتاج مفاهيم وأنظمة فكرية غير مألوفة من قبل. لذلك يعتقدان بأن هدف السلطات المعلن أو غير المعلن كان (ولا يزال) قمع هذه الطاقات لأسباب و حجج مختلفة، وذلك من أجل ديمومة سلطتها وقمع أية أفكار راديكالية يمكن أن تلحق ضررا بها. فقد استهدف تحليلهما «الانفصامي» إلغاء كل الحواجز والعوائق التي تحدّ من تدفق هذه الطاقات والدوافع الغرائزية اللاواعية، والسماح لها، كمحصلة، بالدخول إلى الوعي (أي اللغة) كي تصبح قوة قادرة على التشكيك في الوضع الراهن بما هو عليه من جمود ومحافظة ومن ثم تغييره. بكلمات أخرى، فإن هذه الطاقات الغرائزية يمكن اعتبارها مصدرا لا ينضب للتغيير الثوري، وإن كبتها يهدف بالأساس إلى إسكات الأصوات الداعية للتغيير بحجة مخالفة الدين أو الأخلاق أو الأيديولوجية.

في مكان آخر عالجت موضوعة القمع الجنسي , الذي يؤدي, بسبب علاقة الجنس بالعنف من وجهة نظر التحليل النفسي (16, 15), الى ظهور السلوكية العدوانية او تفاقمها, وخصوصا بتوسع ظاهرة المد والتزمت الديني مؤخرا في عالمنا. السلوك العنفي نوعان: المسلح وغير المسلح. وظهور او تفاقم ظاهرة التحرش الجنسي في العديد من دول المنطقة هو عنف بالتاكيد وان كان غير مسلحا في اغلبية ظواهره .
-------------
في مقاله "الرأسمالية كدين" (1921)، يقول والتر بنيامين أن فكرة تعامل الناس مع الرأسمالية كما لو كانت هي دينا موضوعة قابلة للنقاش (17)، لأنه يمكن للمرء أن يلمح في الرأسمالية سمات الدين، فهي تعمل أساسا على تطمين نفس المخاوف والكرب والقلق, كما يفعل عادة الدين. ان الرأسمالية دين, حسب رأيه, واضح في أربعة مبادئ:
(أ) "الرأسمالية هي ديانة عبادة cult بحتة، وربما الأكثر تطرفا مما كان موجودا من أي وقت مضى"
(ب) ديمومة العبادة"
(ج) "الرأسمالية ربما كانت المثال الأول من انواع العبادة التي تخلق الشعور بالذنب، وليس التكفير"
(د) "الله يجب أن تكون مخفيا فيها، ويمكن الرجوع اليه عندما يكون الشعور بالذنب في أوجه."
(المقالة مكتوبة قبل ظهور عبارة In God We Trust على الدولار الامريكي)
طبعا بنيامين لم يعايش جورج بوش الذي زعم انه الله امره في الحلم بغزو العراق, ولذلك فان اللجوء الى الله قد يكون ايضا في حالة الشعور بعدم الذنب في اوجه. ولكن المسألة الاهم في موضوعة غزو العراق هي سعى المحتل لتصدير دينه, الراسمالية, الى العراق. فبريمر حاكم العراق الاسبق هو تلميذ مخلص للاقتصادي الشهير ميلتون فريدمان, مؤسس مدرسة شيكاغو للاقتصاد النيولببرالي المطلق, الذي ساهم في تدشين المرحلة النيوليبرالية المنفلتة اول مرة عالميا في تشيلي في اوائل سبعينيات القرن الماضي من خلال مساهمته في اسناد الجنرال بينوشيت واسقاط الحكومة الاشتراكية المنتخبة شرعيا برئاسة سلفادور اليندي, وتسببه بذلك في مقتل الآلاف من خيرة بنات وابناء تشيلي واغراق البلد في بحر من الدماء.

فاذا كانت الراسمالية, كما يزعم بنيامين, دينا, فكيف تم التوفيق بينها والاسلام في العراق, حيث ان الاسلام دين الدولة الرسمي؟ فنحن, على حد علمي, لم نسمع عن حوار اديان بين الاسلام والراسمالية (كدين). لذلك يمكن فهم العلاقة بين الاثنين, لربما, من خلال ظاهرة تفاقم وانتشار الفساد المالي والاداري والسياسي واعتباره سلوكا مشروعا, بالرغم من المظاهر الزائفة بعدم مشرعيته, في كلتا الدولتين, العراق والولايات المتحدة (18).

مع ان معرفتي في علوم الاسلاميات محدودة جدا, فاني على اتم اطلاع بنص الأذان الذي تردده جوامعنا ومساجدنا خمس مرات على الاقل يوميا, حيث يحثهم المؤذن-الاسلام على "الفلاح و خير العمل!". فهل الفساد هو من خير العمل؟ اكاد ان اجيب بالنفي جازما. فاذا استثنينا الاسلام كمصدر (رئيسي) للفساد, فلا بد ان يكون انتشار الفساد كوباء في العراق بعد احتلاله يعود الى سطوة دين جديد في العراق, دين الراسمالية, وخصوصا طائفته المتطرفة التي اسسها فريدمان وقيام تابعه بريمر بادخاله الى العراق عقب الاحتلال. هذا يعني ان من كتب دستور العراق بعد الاحتلال, حيث ضمنّوا فقرة ان الاسلام مصدر الدستور, يعرّضون انفسهم, بسهولة نسبيا, الى اتهام بالكذب او الجهل: الكذب لان دين العراق الحالي حقيقة هو الراسمالية, طائفة فريدمان -بريمر, وليس الاسلام, والجهل لانهم لم يقرئوا بنيامين.
------
درس ثورستين فيبلين (19) في القرن 19(نظرية فئة الترفيه: دراسة اقتصادية للمؤسسات، 1899) وآلان دي بوتون (20) في القرن 21 (حالة القلق، 2004) الوضع الاجتماعي (هيبة الفرد) وعلاقتها بمستوى الاستهلاك. فلتجنب القلق الناتج من عدم الاتتماء إلى "الطبقة الاجتماعية الصحيحة!"، يصنع المستهلك هويته الشخصية (الاجتماعية والاقتصادية والثقافية) من خلال (السلع والخدمات) التي يشتريها، يتملكها, او يستخدمها. اي ان هيمنته تعتمد على "الاشارات المناسبة" لتحديد مكانته الاجتماعية. لا نحتاج الى تفصيل كبير هنا لندرك ان استشراء الفساد في مناطق عديدة من العالم, مثل منطقتنا, و بالاخص العراق, حيث تحوم شبهات, لايمكن تاكيدها او نفيها, بسبب الفساد السياسي والقضائي بحد ذاته, بان بعض الزعماء السياسيين العراقيين الحاليين قد جمعوا المليارات من الدولارات في غضون بضع سنوات. وحتى لو كانت الشبهات صحيحة بمقدار ضئيل, فان حجم الاموال المستحصلة عن طريق الفساد تبدو, على الاقل بالنسبة لي, لا تزال طائلة وفاحشة.
-------
اعتبر الفيلسوف الفرنسي الماركسي لويس ألتوسير الأفراد, كعناصر فاعلة, قادرين على تحديد احتياجاتهم وخياراتهم بأنفسهم (21)، وأن البشر, كصناع لتاريخهم بانفسهم، يقضى عليهم باسم "العلم" (اي ان التوسير يقف بالضد من مساواة العلم بالعلم الطبيعي, او ما يسمى عادة Scientism, اي العِلمانية,
(22) . وفي الواقع، اعتبر ألتوسير، في مجلة الحزب الشيوعي الفرنسي La Nouvelle Critique النظرية النفسية لفرويد وجاك لاكان بأنها "علم عقل الإنسان الباطن".
ويبدو ان اطروحة التوسير متفقة مع تحليل احد أكبر فلاسفة العلم في القرن العشرين، فايرآبند, الذي بيّن من خلال تحليله التاريخي لتطور العلم بأن تطور المعرفة أو العلم لا يسلك مسلكا خطياً، فليس هنالك من طريقة واحدة أو منهجية محددة تضمن تطور المعرفة، حيث إن العلم والمعرفة يتطوران بشكل فوضوي (23). علاوة على ذلك, فان اطروحة التوسير منسجمة تماما مع فلسفة العلم في عصرنا الحالي. فحسب محرري المصدر الرئيسي في فلسفة العلم (24), يوري بالشوف و اليكس روزينبرج, فانه لا يمكن وضع حدود كونكريتية او جامدة بين العلم والفلسفة.
وفي معجمه الشهير "قراءة رأس المال" (شارك في كتابته مع إتيان باليبار)، يعلن ألتوسير ان الانسان البيولوجي لا يتعدى كونه الحامل لقناع الشخصية ("Charaktermaske") المناط له وضعه من قبل هيكل العلاقات في التكوينة الاجتماعية. والجدير بالذكر ان ماركس من قبل قد عالج موضوعة قناع الشخصية, وان كان ذلك مرتبطا بظروف تاريخية محددة. لذا لربما يحق لنا التساؤل هنا هل ان التدين الظاهري (في العراق) هو قناع الشخصية, او القناع
(الرسمي) الذي يخفي تحت طياته (ديانة فريدمان), النيولبرالية المتوحشة؟
-------
توفى الطبيب النفسي لاينج, الذي اثرت الماركسية والفرويدوية على مجمل افكاره على حد سواء, في عام 1989عن عمر يناهز ال 61 عاما (25), ولكن كلماته المقتبسة في اعلى هذا الاستعراض تكتسب مصداقيتها من جديد على ايدي المحتل لتبرهن على استمرار الرأسمالية باستخدام كل ما في جعبتها من اكاذيب لتبرير احتلال العراق.

في الختام لا يسعني الا ان اتفق مع الفيلسوف سارتر (26), الذي اعتبر التحليل النفسي نظرية يمكن لها أن تملأ البقعة العمياء للماركسية من خلال توفير نظرية للذاتية (Theory of Subjectivity). ان اطروحة سارتر ليست معقولة فلسفيا فقط , وانما ايضا علميا. فحسب فيزياء الكم, ان الكون تركيبة عقلية (27), وكذلك ان المادة والوعي في تلاحم كامل وعدم امكاية الفصل بينهما (28), وهذا امر يحسب لصالح وجهة النظر الديالكتيكية تجاه الكون.


المصادر

1- http://www.cairn-int.info/abstract-E_CM_076_0313--gramsci-and-psychoanalysis-2.htm

2- http://www.amazon.com/Social-Dominance-Intergroup-Hierarchy-Oppression/dp/0521805406

3- https://newleftreview.org/I/51/jacques-lacan-the-mirror-phase-as-formative-of-the-function-of-the-i

4- http://www.royharrisonline.com/linguistic_publications/Language_Saussure_and_Wittgenstein.html P. ixi

5- https://www.marxists.org/reference/subject/philosophy/works/us/chomsky.htm

6- http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=432788

7- http://zizekstudies.org/index.php/ijzs/article/viewFile/149/243
P. 5
8 - https://books.google.at/books?id=LUVIOSwVWhEC&pg=PA39&lpg=PA39&dq=sartre+sexuallity+filling+holes&source=bl&ots=6rEivZcigj&sig=tk5U_tuz51S6CYt73sEjSnix2Qk&hl=th&sa=X&ei=BA5vVfTWOsHbUbrdgvAM&ved=0CCcQ6AEwAQ#v=onepage&q=sartre%20sexuallity%20filling%20holes&f=false
P. 39

9- http://www.ahewar.org/eng/show.art.asp?aid=665

10- https://web.archive.org/web/20130207012303/http://junana.com/CDP/corpus/GLOSSARY23.html

11- https://www.marxists.org/archive/marx/works/1893/letters/93_07_14.htm

12- https://www.marxists.org/reference/archive/althusser/1970/ideology.htm

13- http://mtq.sagepub.com/content/12/3/251.abstract

14- http://www.amazon.com/Anti-Oedipus-Capitalism-Schizophrenia-Gilles-Deleuze/dp/0816612250

15- http://www.althakafaaljadeda.com/talal_alruba2e.htm

16- http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=399850

17- http://www.rae.com.pt/Caderno_wb_2010/Benjamin%20Capitalism-as-Religion.pdf

18- https://www.youtube.com/watch?v=5tu32CCA_Ig

19- http://oll.libertyfund.org/titles/1657

20- http://alaindebotton.com/status/

21- http://plato.stanford.edu/entries/althusser/#EpiSci

22- http://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1111/j.1467-9744.2003.00536.x/abstract

23- http://www.amazon.co.uk/Against-Method-Paul-K-Feyerabend/dp/1844674428

24 - http://www.amazon.com/Philosophy-Science-Contemporary-Readings-Routledge/dp/0415257824
P. 7

25- https://news.google.com/newspapers?nid=1914&dat=19890825&id=SfUpAAAAIBAJ&sjid=L2UFAAAAIBAJ&pg=1353,4653538&hl=en

26- https://books.google.de/books?id=FPPoAAAAIAAJ&pg=PA126&lpg=PA126&dq=sartre+psychoanalysis+marxism+theory+of+subjectivity&source=bl&ots=UOctFTm43S&sig=fW5vkpDxS1a-VB7ztoq_ON9LR70&hl=de&sa=X&ei=szpwVdzhF8u2UaKZgOgO&ved=0CDAQ6AEwAQ#v=onepage&q=sartre%20psychoanalysis%20marxism%20theory%20of%20subjectivity&f=false
P. 126

27- http://www.collective-evolution.com/2015/06/03/how-is-this-possible-scientists-observe-one-particle-exist-in-multiple-states/

28- http://www.collective-evolution.com/2014/03/08/10-scientific-studies-that-prove-consciousness-can-alter-our-physical-material-world/