رائد فهمي - سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي - في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: التغيير .. نحو الدولة المدنية الديمقراطية ، دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية.


رائد فهمي
الحوار المتمدن - العدد: 5508 - 2017 / 5 / 1 - 00:31
المحور: مقابلات و حوارات     


من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة، وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى، ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء، تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -201- سيكون مع الأستاذ د.رائد فهمي - سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي -  في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: التغيير .. نحو الدولة المدنية الديمقراطية، دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية.


إن ما تعيشه البلاد من ترد في مجمل أوضاعها السياسية والأجتماعية والاقتصادية والثقافية يأتي كنتيجة لأستمرار وتعمق الأزمة العامة التي تلف البلد وشمولها وتعدد تجلياتها. وتؤكد محصلة التطورات منذ التغيير في نيسان 2003 الفشل في تحقيق ما تطلع اليه العراقيون بعد زوال النظام الدكتاتوري ، من اقامة بديل مدني ديمقراطي حقيقي ، يقطع الطريق على اي مسعى لاعادة بناء نظام شمولي استبدادي قمعي تحت اية ذريعة او واجهة.
وتتسم هذه الازمة بكونها ازمة بنيوية طاحنة، وبكون اسبابها لا ترتبط بطريقة التغيير التي تمت عبر الحرب والاحتلال، وبتركة النظام المباد الثقيلة وحسب، وانما ايضا بطبيعة نظام الحكم الجديد ومنهجه الذي يعتمد المحاصصة الطائفية – الاثنية في الادارة وفي بناء مؤسسات الدولة، المدنية والعسكرية، وتغليب الهويات الفرعية على مبدأ المواطنة العراقية الجامعة، وتوظيف الدين لخدمة مطامح سياسية ومصالح اقتصادية ضيقتين، وبما تعرض اليه وطننا من عنف وتخريب وموجات ارهابية دامية.
وقد تعمقت هذه الازمة بجوانبها المتعددة وتجلت كأزمة نظام حكم وحكومة، وازمة علاقات وعدم ثقة متبادلة بين القوى والكتل المتنفذة.
وإذ ما تزال الحالة الانتقالية مستمرة ، يعكس توالي الأزمات واستمرار النزاعات احتدام الصراع على خيارات المستقبل وشكل الدولة وماهيتها، وعلى طبيعة النظام السياسي والاقتصادي- الاجتماعي الجديد.

أزمات دولة المكونات والمحاصصة


ويكمن السبب الرئيس لأزمة نظام الحكم والحكومة في تكريس مفهوم دولة المكونات والتشبث بنهج المحاصصة الطائفية – الاثنية، الذي ساهم المحتلون في اعتماده والمستفيدون منه في إدامته، على الرغم مما جلبه لبلادنا من مشاكل وصعوبات، وفشله في تقديم حلول لمعضلات الوطن، واصطدامه برفض واسع من جانب جماهير الشعب.
وإزاء انسداد افق حل الازمة الشاملة للبلاد وعجز القوى المتنفذة عن اجراء الاصلاحات المطلوبة، نبهنا إلى أن التغيير أصبح ضرورة ملحة ولفتح آفاق مصالحة وطنية ومجتمعية حقة ولمواجهة التحديات التي تنهض امام بلدنا، وحفظ وحدة البلاد وتجنيبها مخاطر التقسيم والاحتراب الداخلي.
وجاءت الهزيمة العسكرية والسياسية في الموصل (حزيران 2014)، وتمدد داعش بعدها جغرافيا، واستمرار الخروقات الامنية، لتكشف المخاطر الجسيمة على مصير البلاد وأمن ابنائها ومستقبلهم المترتبة على فشل المنظومة السياسية القائمة في الحكم والاداء، ولتؤكد ما ذهبنا إليه.
وبات معظم القوى السياسية داخل البلاد ، ومن منطلقات مختلفة، تدعو إلى التغيير وتعلن أن إدارة الحكم بعد داعش لا بد أن تكون مختلفة عمّا كانت عليه قبل داعش. ولا يخفى علينا أن شكل ومضمون وابعاد التغيير الذي تقصده القوى المتنفذة يهدف، في المطاف الأخير، إلى إدامة سلطتها وتأمين مصالحها عبر تغييرات شكلية وجزئية.
غير ان تجربة حكم قوى الطائفية السياسية بمختلف عناوينها ، ووليدها المحاصصة الطائفية والأثنية، قد أثبتت فشلها في إدارة الدولة والاقدام على الاصلاحات الحقيقية على صعيد بناء الدولة ومؤسساتها وإدارتها وتأمين مستلزمات مواجهة التحديات السياسية والأمنية والاجتماعية-الاقتصادية ،والمحاربة الجادة للفساد السياسي والمالي والاداري. لذا فإن التغيير الذي ننشده، ونعمل من أجله، يتمثل أساساً في الخلاص من نهج المحاصصة، وحاضنته دولة المكونات، والأنتقال إلى دولة المواطنة ، الدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية. وبالقدر الذي تتحقق فيه نجاحات في مجرى عملية الانتقال هذه، تتوفر امكانيات متزايدة لأجراء الاصلاحات العميقة الشاملة التي تشكل مدخلاً لاحداث التغييرات المطلوبة في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البلاد.
ولم تستفحل الأزمة على صعيد منظومة الحكم وأسس وآليات عملها بمعزل عن التغييرات في البنى التحتية الاقتصادية - الاجتماعية للمجتمع العراقي على مدى سنوات العقد ونيف الماضية.



تغييرات في اللوحة الاقتصادية – الاجتماعية


لا حاجة للاستفاضة في التوصيف والتحليل لتأشير حقيقة كون الفساد بمظاهره المتنوعة، من انحراف واختلاس واحتكار ورشوة وتربح وإهدار للمال العام، قد غدا يشكل ظاهرة مستشرية على صعيدي الدولة والمجتمع، وتهديدا خطيرا للبلاد ولاستقرارها السياسي والاجتماعي.
ومن ابرز واخطر تجليات هذا الفساد هو تنامي التحالف غير الشرعي بين السلطة والمال، كما يشكل سوء استخدام الاموال وسوء التخطيط للمشاريع واحدا من اشكاله الصارخة.
وارتباطا بالتوجهات والسياسات الاقتصادية التي اعتمدت من قبل سلطة الاحتلال بعد 2003، وسارت على نهجها الحكومات المتعاقبة فيما بعد، تشهد بنية المجتمع العراقي الاقتصادية—الاجتماعية فرزا اجتماعيا وطبقيا متواترا، وتنامي فئات وشرائح طفيلية وبيروقراطية وكومبرادورية معرقلة لاي اصلاح جدي في البناء السياسي والمؤسسي للدولة، كونه يهدد مصالحها وامتيازاتها. وقد أخذت ملامح هذه التغييرات في اللوحة الاقتصادية – الاجتماعية، تزداد وضوحاً ، وإن كانت صورتها النهائية غير مكتملة بعد.
فبعد التغيير عام 2003 ،وما رافقه من انهيار في بنى الدولة المركزية ومؤسساتها، اطلقت سلطة الاحتلال عملية تحويل بنية الاقتصاد العراقي، الذي يحتل فيه قطاع الدولة وشركاته الحكومية والمختلطة دورا مهيمنا، إلى "اقتصاد سوق"، بدءً بازالة جميع القيود على التجارة الخارجية وفتح الأسواق العراقية أمام تدفق السلع الأجنبية دون عوائق، وفي الوقت نفسه شرعت سلطة السلطة المؤقتة للائتلاف، والحكومات التي اعقبتها، باصدار التشريعات التي تيسّر تمويل التجارة والحركة الحرة لرؤوس الأموال التي كانت تتجه نحو الخارج بصورة شرعية وغير شرعية.
وتلازمت هذه الوجهة بالتوجه نحو تصفية الشركات العامة الصناعية، بمحاولة خصخصتها وعدم تاهيلها والأبقاء على قدراتها الانتاجية معطلة ما ادى إلى الانحسار المتواصل للأنشطة الانتاجية الصناعية. وشملت الوجهة ذاتها القطاع الزراعي الذي رفعت عن منتجاته الاجراءات الحمائية مما سمح للمنتجات المستوردة من دول الجوار اكتساح السوق المحلي على حساب المنتجات العراقية.
واقترنت عملية الانتقال إلى اقتصاد السوق بسياسة اقتصادية محورها الرئيس تعظيم الايرادات النفطية كما وجدت تعبيرها في جولات التراخيص النفطية الاولى والثانية الهادفة إلى رفع قدرة العراق على انتاج النفط وتصديره.
وأدت هذه السياسات والاجراءات إلى تعميق البنية الريعية والخدمية للاقتصاد العراقي، وإلى انحسار الأنشطة الانتاجية وتنامي النشاطات الطفيلية غير المنتجة. كما قادت إلى تضخم وتمركز الثروة والملكية بوتائر سريعة بسبب غياب التنظيم والرقابة على السوق واستشراء الفساد.
وكانت حصيلة هذه الاتجاهات في التطور تفاقم الاستقطاب في الدخل والثروة، وتنامي الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وارتفاع اعداد ونسبة من هم تحت خط الفقر ويسكنون العشوائيات، والمهجرين والنازحين ضعيفي الدخل، والتدهور المريع في التعليم والصحة والخدمات العامة وفي البنى التحتية، وارتفاع معدلات البطالة وغيرها من الظواهر التي فاقمت من معاناة فئات واسعة من شعبنا.
إلا أن هذه التناقضات الاجتماعية لم تجد لها سوى تعبيراً محدوداً على المستوى السياسي وفي النضالات المطلبية.
فمنذ التغيير وهيمنة قوى الطائفية السياسية ونهجها الذي عبرت عنه وجسدته دولة المكونات القائمة على المحاصصة الطائفية والأثنية، سادت اتجاهات الأنقسام المجتمعي، سكانيا واجتماعيا وكذلك جغرافيا، وتغلبت الانشطارات الطولية للمجتمع على اساس الهوية المسيسة بحيث غّطت على التمايزات والانقسامات والتناقضات الناشئة عن المصالح الاقتصادية والاجتماعية ذات البعد الطبقي ، رغم حضورها وتأثيرها الدائميين بصورة مموهة.


انطلاق الحراك الشعبي


وعلى خلفية هذا الواقع المأزوم ، ومن رحمه، وانتفاضاً عليه، انطلق الحراك الشعبي السلمي في تموز 2015 والذي امتد الى معظم المحافظات، وما يزال متواصلاً، مقدّماً تجربة مثيرة للاعجاب، تكاد تكون فريدة على المستوى العالمي. وقد وجسد هذا الحراك رفض فئات وشرائح اجتماعية متنوعة لاستمرار مسلسل الازمات وتحمّل تبعاته، ومطالبتهاً بالمحاربة الجادة للفساد، وتوفير الخدمات الأساسية، وإصلاح النظام السياسي بسلطاته الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتخليصه من المحاصصة الطائفية، وإعادة بنائه على وفق مبدأ المواطنة.
وخلافا لما يثار بشأن جدوى وتأثير هذا حركة الاحتجاج والتظاهر، عن سوء قصد من مراكز القوى والنفوذ المرتبطة بفشل الأداء والفساد، أو نتيجة عدم تقدير سليم لدلالات ومغزى وتأثيرات الحركة الاحتجاجية، فإن هذا الحراك قد غيّر كثيرا في الحياة السياسية وفرض استحقاقات على القوى المتنفذة والحاكمة، كما اذكى روح المعارضة وعدم الخنوع، وفرض التظاهر والاحتجاج وسيلة لانتزاع الحقوق. وتحولّت التظاهرات الأسبوعية المنتظمة أيضا الى جهاز رقابة على اداء السلطات الثلاث وعلى مدى قرب او بعد مواقفها واجراءاتها من مصالح الناس الحقة ،ولا سيما الفئات الشعبية الواسعة المكتوية بنار الازمات ، من الفقراء والكادحين. وقد أجتذبت الحركة الأحتجاجية إلى ساحة الفعل السياسي والاجتماعي فئات وشرائح وجماعات كثيرة، متنوعة المشارب السياسية والفكرية والاجتماعية، كانت منكفئة أو تفتقر إلى الوعي الكافي.
فحركة من هذا النوع تستحق كل الدعم لأداء رسالتها والعمل على الحفاظ عليها وتطويرها وتوسيعها وتنويع أساليب عملها ، والتصدي للحملات الظالمة التي تحاول النيل منها ومن الناشطين فيها.


الحرب ضد داعش


في الأشهر الأخيرة تحققت انتصارات عسكرية كبيرة وتم تحرير 60 بالمائة أو أكثر من المناطق التي احتلها داعش. ودلّلت هذه النجاحات على الامكانيات الكبيرة التي تمتلكها قواتنا المسلحة والقوى المساندة لها، اذا ما توفرت لها الادارة الكفوءة للمعارك، وتم تأمين التنسيق الفاعل بين الاطراف التي تتصدى لداعش: القوات المسلحة، البيشمركة، المتطوعون في الحشد الشعبي، والمتطوعون من أبناء المناطق المحتلة من طرف داعش، وتسوية التقاطعات السياسية لصالح دعم المقاتلين في الجبهات، إلى جانب التوظيف السليم للدعم الدولي وقرارات مجلس الامن ذات الصلة بالتصدي للارهاب وبمحاصرته وتجفيف منابعه. وقد ساهم هذا الاداء الجيد للقوات المسلحة في إعادة الاعتبار لها ورفع هيبتها. إلاّ أن تحقيق الأنتصار العسكري الكامل على داعش ، يستلزم التخلص من المعوقات التي تنجم عن تعدد الأجهزة والقيادات والجهات المشاركة فيها ، وذلك من خلال اعتماد خطة متكاملة متعددة الجوانب، تؤمّن تنسيق جهود كافة الاطراف والجهات المعنية تحت قيادة موحدة، مع التأكيد على ان تكون المعركة ضد داعش همّا وطنيا مشتركا، وبعيدة عن التطييف الهوياتي الضيق.
وبخصوص ما يثار من تساؤلات ومخاوف وهواجس بشأن دور الحشد الشعبي في المعاراك الدائرة حاليا ، أو مستقبلا،
ينبغي الاشادة بداية بالمهام الكبيرة والحسّاسة التي نهض به المتطوعون في الحشد الشعبي تلبية لنداء لمرجعية العليا. فهم قدّموا التضحيات الكبيرة والشهداء في معارك التصدي لداعش ولعبوا دوراً أساسياً في تحرير عدد من المدن من قبضته.
وقد اكتسب هذا الدور اهمية استثنائية في المراحل الأولى نتيجة للأنكسار الذي تعرضت له القوات المسلحة أمام هجوم داعش. ولكن مع اعادة التماسك للقوات المسلحة وتطور بنائها وأدائها ، على الرغم من عدم أكتماله، تعود مهام الحشد إلى طبيعتها كمهام مكمّلة لمهام الجيش والقوات المسلحة الاخرى وينبغي أن لا يوضع في تعارض معها. ويفترض ان تنتهي مهماته كمؤسسة مؤقتة مع استكمال دحر داعش الارهابي، والحاجة قائمة الى تأطير عمله وضمان حقوق منتسبيه وواجباتهم.
ومع الانجازات التي حققها متطوعو الحشد، ظهرت ممارسات وتجاوزات من بعض افراده أو مجموعاته أساءت إلى بعض أهالي بعض المناطق المحررة وممتلكاتهم، وألحقت الضرر في الوقت نفسه بسمعة الحشد، ولكن لا يجوز التعميم والاطلاق في نسب مثل هذه الممارسات إلى الحشد .



تحديات ما بعد داعش


وستواجه شعبنا ووطننا بعد تحرير الاراضي من داعش الارهابي تحديات عدة، منها مدى قدرة الاجهزة الامنية على الحد من نشاط الخلايا الارهابية النائمة، ومستقبل التشكيلات شبه العسكرية، ومصير الاراضي المتنازع عليها وتنفيذ المادة 140، والمشاريع المطروحة بشأن محافظة نينوى والدعوة الى جعلها عدة محافظات، وخطوات بناء المصالحة المجتمعية والوطنية وبناء السلم الاهلي ، ومشاريع تقسيم البلاد.
ولقد تسبب الاحتلال الداعشي، والمعارك ضد قوى الارهاب، والاحتراب الطائفي، في تهجير ونزوح الملايين من أبناء شعبنا، ما يفرض على الدولة ومؤسساتها والمنظمات الدولية ان تضع في مقدمة اولوياتها مواصلة تقديم الدعم والعون لملايين النازحين والمهجرين والتخفيف من معاناتهم ، واعارة اهتمام خاص لاوضاع ضحايا الارهاب. كذلك تسهيل عودة النازحين الى ديارهم من خلال إعادة اعمار الاراضي المحررة وتنسيق الجهد الوطني والدولي لانجاز ذلك، وتوفير الخدمات الاساسية لهم على نحو عاجل، واستئناف عمل مؤسسات الحكم المحلي والدوائر الحكومية الاخرى، مع عدم اخضاع عودتهم لاية اعتبارات طائفية او اثنية او اجندات سياسية، والحفاظ على الطابع الديموغرافي للمناطق المحررة من قبضة الارهاب.
وليس خافيا في أن مسارات الحرب ضد داعش تتأثر بالخطط والمشاريع الأقليمية والدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، والصراعات والمنافسات ما بينها على توزيع وإعادة توزيع النفوذ والسيطرة على دول المنطقة ومواردها، وعلى العراق على وجه الخصوص. فمن خلال العمليات العسكرية ضد داعش، تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز تواجدها العسكري في العراق والمنطقة، وما يستتبع ذلك من تنام في نفوذها وتاثيرها السياسيين اللذين تعرضا للانحسار نسبياً خلال فترة حكم اوباما. ويقابل هذا الدور الأمريكي، أو يوازيه، دور سياسي وعسكري واقتصادي انشط وأكبر لايران، وكذلك لتركيا في شمال العراق، ولروسيا في سوريا ، كما يزداد الحضور والمشاركة العسكرية لدول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا.
وإذ تزدحم المشاريع الأقليمية والدولية المتنافسة والمتصارعة والمتناغمة أحيانا، يغيب عملياً المشروع الوطني العراقي الجامع بسبب انقسامات وصراعات القوى الطائفية السياسية وعجزها عن اعلاء المصالح الوطنية والارتقاء إلى متطلباتها، على الرغم من الخطاب الإعلامي لهذه القوى الذي يؤكد ضرورة تحقيق التسويات والمصالحات الوطنية وابراز الهوية الوطنية.
 



البديل المدني الديمقراطي


لقد اصدرت تجربة الأعوام الماضية حكماً قاطعاً بفشل منظومة إدارة وحكم قوى الطائفية السياسية ودفعها للعملية السياسية باتجاه اعتماد نظام محاصصة طائفية وأثنية مقيت اسفر عن تقاسم الدولة وتشظي مؤسساتها ومن ثم فشلها وتعرض مؤسساتها للنخر جراء استشراء الفساد، وأن البديل القادر على استنهاض البلاد ووضعها على الطريق السليم المفضي إلى حل أزماتها وتحقيق الاصلاحات الجذرية التي تنهض بواقع البلاد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، يكمن في التوجه نحو توفير مقومات وشروط ومستلزمات اقامة الدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية.
وتقوم الدولة المدنية الديمقراطية التي ننشدها اساسا على مبدأ المواطنة في بنائها، وعلى وفق معايير موحدة في اسناد الوظيفة العامة في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والتعامل مع مواطنيها على اساس المساواة في الحقوق والواجبات وامام القانون، ومن دون تمييز بسبب الجنس او العرق او القومية او الاصل او اللون او الدين او المذهب او المعتقد او الرأي او الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وهي تضمن بذلك لمواطنيها تكافؤ الفرص والمشاركة.
وفي الدولة المدنية الديمقراطية يتم الفصل بين السلطات الثلاث على نحو بيّن لا لبس فيه، ولكن من دون الأخلال بالتكامل والتعاون الضرورين فيما بينها لضمان حسن سير مؤسسات الدولة وأدائها لوظائفها في خدمة المواطن، كما يتم فيها فصل المؤسسات الدينية والعشائرية عن المؤسسات السياسية، وتكون المؤسسة العسكرية خاضعة للادارة المدنية المنتخبة ديمقراطيا، ويكون السلاح بيد الدولة حصرا. فالدولة المدنية التي نسعى إلى أن تتحقق على ارض الواقع هي دولة مؤسسات وقانون بحق، تؤمّن الحياة الكريمة لمواطنيها عبر توفير الضمان الاجتماعي الشامل بما يحقق قدرا معقولا من العدالة الاجتماعية، وهي تؤكد الترابط بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية، وعدم الاخلال بالعلاقة لمصلحة احداهما.



الطريق إلى الاصلاح والتغيير


ان مشروع اقامة الدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية يتطلب المضي على طريق الأصلاح والتغيير الحقيقيين، وهو يصطدم بمصالح القوى المتنفذة التي تمتلك المال والسلطة والاعلام والسلاح، والتي هي ليست على استعداد للتخلي بيسر عن مواقعها. وإذ نسعى إلى إحداث التغيير السياسي المطلوب بصورة سلمية عبر الآليات الدستورية الانتخابية، فذلك يشترط تحقيق تعديل في موازين القوى لصالح انصار ومؤيدي مشروع الدولة المدنية من خلال نضال متواصل ومتراكم متعدد الأشكال.
ولأجل التأثير على موازين القوى، من الضروري التوجه نحو اقامة تحالفات واصطفافات وطنية عابرة للطوائف، وحشد طيف واسع من القوى الداعمة للاصلاح والتغيير، وتعزيز دور القوى المدنية الديمقراطية، إلى جانب مواصلة الضغط الجماهيري السلمي المنضبط والمنظم، وتوسيع صفوفه وضم طاقات وامكانات جديدة اليه، بما فيها التعامل مع شرائح شعبية جديدة، بعضها يأتي من قواعد الكتل المتنفذة التي لها مصلحة موضوعية في تحقيق الاصلاح. وستشكل هذه العملية في حال نجاحها ، المقدمة الضرورية لاية مصالحة مجتمعية ووطنية حقة .
وفي هذا السياق، وترجمة لهذه الوجهة، برزت قضية العلاقة بين التيار الصدري والتيار المدني ، ومع الحزب الشيوعي العراقي تحديداً، والتي تستحق التوقف عندها وتوضيحها في ضوء ما تثيره من استفهامات وتساؤلات مبررة وغير مبررة، واجتهادات واسقاطات تاريخية تشوش الفهم والتحليل.



العلاقة مع التيار الصدري


في اطار الحركة الاحتجاجية ، وبعد أسابيع من انطلاقتها ،جاءت إسهامة انصار التيار الصدري التي اكسبت الحركة بعدا جماهيريا اوسع ، ومكّنتها من ممارسة ضغط اكبر على مؤسسات الدولة والقوى الحاكمة والمتنفذة . وجاءت هذه المشاركة على اسس واضحة من التنسيق والتعاون اقترحها المدنيون بالأساس ووافق عليها التيار الصدري، وهي تتعلق بالطبيعة السلمية والوطنية للحراك وبأهدافه، والتي تأتي في مقدمتها تحقيق الاصلاحات العميقة ونبذ المحاصصة، ومحاربة الفساد وتأمين الخدمات. كما تم تثبيت الأسس التي تقوم عليها علاقة التنسيق والمتمثلة بالاحترام المتبادل للهوية السياسية والفكرية للصدريين وللمدنيين ولأستقلالية اطرهم التنظيمية.
وحتى هذه اللحظة، لم تتعد العلاقة مستوى التنسيق في ساحات الحراك في بغداد بالاساس، ومؤخرا في بعض المحافظات. لذا يبدو مثيراً للاستغراب ان يذهب بعض المدنيين في قراءته وتأويله لهذه العلاقة لأطلاق توصيف التحالف عليها، ويتم التركيز على الحزب الشيوعي في توجيه النقد واللوم له، وليصل ذلك احيانا حد التهجم عليه، واتهامه بالتفريط بهويته وعدم اتعاظه بالتجارب السابقة في العراق وايران وسواها من الاتهامات.
ان الحزب الشيوعي لا يتردد في الاعلان عن مواقفه والدفاع عنها، ولو كانت العلاقة مع التيار الصدري قد ارتقت إلى مستوى التحالف ، لما تردد الحزب في الاعلان عن ذلك وتقديم التوضيحات اللازمة بشأنه، ولكن في واقع الأمر لا تربط الحزب الشيوعي بالتيار الصدري حتى الآن اي وثيقة ائتلافية أو تحالفية مشتركة، كما لا توجد بينهما اية التزامات متقابلة غير تلك التي تتفق عليها لجنة تنسيق التظاهرات المشتركة، وهي ليست التزامات مباشرة على الحزب، لأن عضوية اللجنة مشكّلة على اساس ناشطين مدنيين من مختلف الانتماءات.
والملاحظة الثانية التي يجري اغفالها أو تغافلها، هي أن العلاقة مع التيار الصدري نشأت في ميادين التظاهر، وليس انطلاقا من اتفاقات بين القيادات السياسية. والمتواجدون في ساحات التظاهر، يمثلون بالاساس الاوساط المتضررة من سياسة القوى المتنفذة والتي تعيش اوضاعا معاشية صعبة والمتضامنين معها، وتشكل نسبة كبيرة منهم الكادحون والكسبة والشباب الباحثون عن عمل من أبناء المناطق الشعبية. ويتشارك هؤلاء مع الجمهور المدني في مطالبهم المشروعة المستمدة من معاناتهم الحياتية، وليس من منطلقات ايديولوجية أو فكرية.
والملاحظة الثالثة ذات الأهمية ، تتعلق باسهام هذا التعاون والعمل المشترك بين الجمهورين المدني والصدري، في تهشيم جدران وحواجز فكرية وثقافية واجتماعية بين الجمهورين وازالة الألتباسات في الفهم بينهما ، وفتح آفاق رحبة للعمل والتعاون والتحرك في مناطق وميادين كانت مغلقة سابقاً. وهو مكسب ورصيد كبيران لصالح اللحمة المجتمعية وتكريس مبدأ وسلوكية احترام التنوع والتعددية على المستوى الجماهيري، لا على صعيد النخب فقط.
ومن نافل القول التأكيد أنًه لا توجد علاقة تنطوي على ايجابيات فقط، ولا شك بوجود جوانب في العلاقة مع التيار الصدري قد يكون لها مردود سلبي اذا لم يحسن ادارة العلاقة، ومنها عدم التكافؤ في الأعداد المشاركة في التظاهرات مما قد لا يجعل الصوت المدني مسموعا، ولا سيما في في بعض التظاهرات كثيفة المشاركة. وتحرص اللجنة التنسيقية لادارة التظاهرات على مراعاة هذا الأمر في وضع برامج فعاليات التظاهرات، ومن جانب آخر، نشير إلى أنه من المتاح للقوى المدنية أن تضاعف نشاطاتها الخاصة، وأن تمدها إلى ساحات وميادين أخرى وخلال ايام الأسبوع.
اما موقفنا كحزب شيوعي، فنحن ننظر ايجابيا إلى هذا التعاون والتنسيق الميدانيين، وكذلك إلى إمكانية توسيعه وسحبه إلى مجالات أخرى تتوفر فيها رؤى مشتركة، وتأتي هذه العلاقة منسجمة مع توجهنا العام الرامي إلى تصعيد الضغط الشعبي السلمي من أجل الاصلاح والتغيير.
كما يستوجب التأكيد أن هذه العلاقة تستند إلى المشتركات التي تم تأشيرها، وهي لا تعني الانحياز إلى محور او طرف في الخلافات والتقاطعات القائمة بين أحزاب وقوى التحالف الوطني أو لأي من الكتل الأخرى. وسيكون لنا موقف مشابه في الأستجابة مع أي قوة تبدي استعدادها للانخراط في الحراك الشعبي أوالتعاون بصورة جدية على اساس المشتركات الأنفة الذكر. كما ان العلاقة مع التيار الصدري لا تتم على حساب العلاقة مع القوى المدنية الديمقراطية الأخرى، بل أن اولويات الحزب الشيوعي في التحالف والأئتلاف تذهب نحو قوى التيار الديمقراطي والقوى المدنية الأخرى.
ومؤخرا تقاعل الحزب ايجابيا مع مبادرة تحريك الاجواء واقامة الحوارات لقوى وحاملي الفكر اليساري ومن أجل التوصل إلى مشتركات في العمل باعتبارهم جزء من الطيف المدني الديمقراطي الواسع. ويمكن ان يكون للقوى والجماعات والناشطين اليساريين المستقلين دور أكبر وحضور أكثر تأثيرا في الاصطفافات السياسية المدنية في حال اجتمعوا على المشتركات ووحدوا عملهم. وبثدر ما يتعلق الأمر بالحزب الشيوعي ، فإنه سيستمر في التفاعل الايجابي مع المبادرات والنشاطات الرامية إلى مواصلة الحوارات وتوسيع المشاركة فيها على اساس الاحترام المتبادل، بعيدا عن نهج الوصاية والتعصب والاقصاء. وكما جاء في المقالة التي نشرها الرفيق رزكار عقراوي بشأن وحدة عمل اليسار، فإن المشتركات كثيرة ويمكن ان تؤسس لعمل مشترك إذا ما اعتمدت الاسس والمقاربات السليمة.
مع شكر لادارة موقع الحوار المتمدن لتوفير فرصة الحوار.