منذر خدام - كاتب وباحث وسياسي سوري، وعضو سابق في المكتب التنفيذي لهيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي- في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: سورية بين المأساة وحلم التغيير.


منذر خدام
الحوار المتمدن - العدد: 5343 - 2016 / 11 / 14 - 00:39
المحور: مقابلات و حوارات     


من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -189- سيكون مع الأستاذ د.منذر خدام - كاتب وباحث وسياسي سوري، وعضو سابق في المكتب التنفيذي لهيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي-  حول: سورية بين المأساة وحلم التغيير.


صدر التقرير الثقافي العربي السابع للتنمية الثقافية في عام 2014 عن مؤسسة الفكر العربي تحت عنوان " العرب بين المآسي وأحلام التغيير: أربع سنوات من " الربيع العربي"، كانت لي مساهمة رئيسة فيه عن سورية بعنوان " ربيع سورية": الشعب لا مع السلطة ولا مع المعارضة(ص81) ، ونظرا للطابع البانورامي للمساهمة فإنني سوف أستفيد منها لطرح أهم القضايا المتعلقة بالشأن السوري كمحاور للنقاش والحوار مع ضيوف موقع الحوار المتمدن.


1-مدخل: في مفهوم "الثورة".


من الفضائل الكثيرة لما سمي بـ " ثورات الربيع العربي" أنها خلقت موضوعات جديدة وكبيرة جداً للمشتغلين في الحقل الفكري والسياسي، وللعاملين في مجال الإعلام، والأدب، والفن، وفي مجال العلوم الاجتماعية المختلفة، فالثورة لا تكون كذلك إذا لم تشغل جميع حقول المعرفة والسلوك على حد سواء.
لكن الثورة وهي تحفر في الواقع لتغييره، فإنها تقوم بعملية تصعيد فكرية كبيرة له في محاولة لخلق صورة ذهنية جديدة عنه وتأصيلها في الوعي العام، والاعتياد عليها. في عملية التصعيد هذه تصعد ليس فقط الصور الذهنية الصحيحة بل وتلك التي تقارب الأوهام. وهذا شيء طبيعي لأن الثورة فعالية مجتمعية شاملة تطال جميع المكونات المجتمعية، وأشكال وجودها وفعالياتها، وتفتح أسئلتها على كل الاتجاهات.
كثيرة هي الأوهام التي رافقت ثورات " الربيع العربي" وغذت جوانب كثيرة من مآسيها مثل وهم " الثورة"، ووهم " إسقاط النظام"، ووهم "وحدانية تمثيل الشعب" وغيرها كثير. من بين هذه الأوهام سوف نحاول إزالة ما لصق منها بمفهوم "الثورة" ذاته. من وجهة نظرنا نرى إن المقاربة المعرفية لما يجري في بعض الدول العربية باستخدام مفهوم " الثورة " دون تحديد الدلالة الاصطلاحية له قاد إلى ضلال معرفي وإلى تغذية راجعة لكثير من الأوهام.
بداية لم يكن هدف الثورات العربية تغيير النظام الاجتماعي الاقتصادي القائم، أي النظام الرأسمالي، بل إزالة العقبات من طريق تطوره اللاحق، خصوصا من الحقل السياسي. إنها بالمعنى المجازي " ثورة أسئلة" لكونها قد أخرجت من جيوب التاريخ جميع الأسئلة المتعلقة بنظام الاستبداد المشرقي ككل، لتبحث لها عن أجوبة. بهذا المعنى يصح تسميتها بـ "ثورات خريف الاستبداد "، لأن الربيع لم يزهر بعد في الدول العربية التي شهدت هذه الثورات. وإذا كانت كذلك فإن مصطلح " ثورة سياسية تطورية " يعد مناسبا للقبض عليها معرفياً، كاتجاه عام، وليس تعبيراً عن وقائع. في حقل الوقائع فإن مصطلح " تمرد مجتمعي" أو " انتفاضة شعبية " أكثر دقة ودلالة في أدائه الوظيفي التحليلي لعملية التصعيد المعرفي لوقائع الساحات والميادين في دول " الربيع العربي" .
إذا، كاتجاه عام، فهي " ثورة سياسية تطورية" في داخل النظام الرأسمالي تهدف إلى إعادة تشغيله بفعالية أكبر من خلال نقل المجتمعات العربية من وضعية الإدارة بالاستبداد ومنظوماته وقيمه، وفي مقدمتها قيم الفساد وآلياته،إلى وضعية الإدارة بالديمقراطية وآلياتها وقيمها، وفي مقدمتها قيم الحرية والمسؤولية والمشاركة والقانون.


2-بحث في أسباب " ثورة الربيع السوري"


كثرت، خلال السنوات التي تلت بدء انتفاضة الشعب التونسي وحتى اليوم، القراءات الفكرية والسياسية للانتفاضات الشعبية في العديد من الدول العربية ، وهي تركز على أسبابها ونتائجها المحققة والمحتملة، على أدواتها وقابليتها للتعميم في ظروف أخرى. وكانت هذه القراءات متنوعة جداً ومختلفة، خصوصا لجهة البحث في أسبابها. ورغم هذا التنوع الكبير في الأسباب تبقى الإحالة الأساس والأكثر عمومية، من وجهة نظرنا، تكمن في طبيعة النظام السياسي في الدول العربية ودخوله في تناقض كارثي مع ضرورة إشباع حاجات المواطنين في هذه الدول.
في سياق تفاعل الإنسان مع الطبيعة يتكون ما نصطلح على تسميته بـ "الوسط الصناعي " الملائم لإشباع حاجاته. يحتوي الوسط الصناعي عادة على قوى الإنتاج، وعلاقات الإنتاج، وشروط الإنتاج المختلفة، بما فيها من أشكال لتنظيم الوجود الاجتماعي، وأشكال الوعي المطابق لها. من جهتها تتنوع كثيراً الحاجات، وهي تشمل حاجات مادية وثقافية ونفسية وغيرها. تتحدد العلاقة بين الحاجات والوسط الصناعي على شكل قصور نسبي في الوسط الصناعي بالمقارنة مع الحاجات. فالحاجات تتقدم دائما على إمكانات الوسط الصناعي لإشباعها، مما يدفع مكونات الوسط الصناعي للتفاعل مع الوسط الطبيعي، لتحويل ما هو ممكن فيه إلى وسط صناعي جديد يلاءم إشباع الحاجات، وما إن يتحقق لها ذلك حتى تقفز الحاجات إلى وضعية جديدة، لتبدأ من جديد عملية تفاعلية جديدة وهكذا دواليك.
تتميز هذه الأوالية العامة بالموضوعية، بمعنى أنه لا يمكن إيقافها، فهي تتعلق بوجود الإنسان ذاته. فلكي يوجد الإنسان ككائن بيولوجي أولا وككائن ثقافي ثانيا عليه أن يستهلك( أن يشبع حاجاته)، ولكي يستهلك عليه أن ينتج ما يستهلكه. مع ذلك فإن هذه العملية الموضوعية تتعرض لتشوهات كثيرة، بسبب اختلاف وتباين مصالح الفواعل الاجتماعية سواء تجاه الاستهلاك أو تجاه الإنتاج، وهذا ما يظهر أولا في المستوى السياسي على شكل جمود. ومع استمرار الجمود في هذا المستوى يتشكل ضغط متزايد على الوسط الصناعي، مما يدفعه في لحظة معينة إلى الانفجار دافعا أمامه المستوى السياسي إلى التغير، وإذ يتغير فإنه يؤسس لتفاعل جديد بين الوسط الصناعي والوسط الطبيعي ينجم عنه إشباع الحاجات الجديدة.
في العقود الأخيرة حصلت تطورات نوعية على الوسط الصناعي في الدول العربية خصوصا في مستوى تطور قوى الإنتاج ، فدخلت الآلة الحديثة جميع الميادين مسببة إزاحة كبيرة لقوة العمل غير المؤهلة مما زاد في أزمة التشغيل، فكثر العاطلون عن العمل. إضافة إلى ذلك فإن نهج التنمية المتبع المعتمد أساسا على الاستثمار المكثف لرأس المال لا يتيح فرصاً لاستيعاب العمالة الوافدة الجديدة من خريجي الجامعات فكثرت البطالة في وسط الخريجين الذين يتميزون بالنوعية، مما فاقم كثيرا من أزمة التشغيل العامة التي لم تعد تقتصر على العمالة غير المؤهلة بل شملت أيضا العمالة المؤهلة.إن أولى النتائج المترتبة على تفاقم أزمة التشغيل تزايد حالة الفقر في المجتمع.
ومما يفاقم من هذا الوضع معدلات الإعالة العالية، التي لا تقل عن ثلاثة أشخاص لكل شخص عامل، وقد تزيد عن ذلك في بعض الدول العربية وذلك بسبب تزايد عدد السكان الذين هم دون سن التشغيل. تبين بعض المعطيات أن عدد السكان في الدول العربية الذين هم دون سن العشرين من العمر يعادلون نحو 50 % من عدد السكان الإجمالي. يعود السبب في ذلك جزئيا إلى معدلات تزايد السكان المرتفعة في الدول العربية .
غير أن السبب الأكثر أهمية في تفاقم ظاهرة الفقر في الدول العربية يكمن في سوء توزيع الثروة، واستغلال الدولة لتحقيق كسب غير مشروع، من خلال تعميم ظاهرة الفساد. لقد كشفت الثورات العربية عن حجم الأموال الهائلة التي استحوذ عليها الحكام وحاشيتهم والتي يمكنها في حال استثمارها في صالح شعوبهما أن تخفف من حدة ظاهرة الفقر، وتؤمن تشغيلا لعدد كبير من طالبي العمل والباحثين عنه. ففي سورية على سبيل المثال تقدر الأموال المهربة إلى الخارج خلال العقود الأربعة الماضية بنحو 135 مليار دولارـ
الوجه الأخر لهذا التناقض يكمن في زيادة حدة الاستقطاب في المجتمع، بين الفقراء والأغنياء، بين الذين يكسبون من عملهم وبين الذين يكسبون بوسائل سياسية. فعلى سبيل المثال، خلال العقود الثلاثة الماضية في سورية كان نحو 60% من الناتج الوطني يذهب كحصة للأرباح والريوع (أي لـ10% من السكان) في حين يذهب 40% لتغطية حصة الأجور والرواتب( أي لـ 90% من السكان).
ما نود قوله أن التناقض بين الحاجة للتنمية المستدامة بما يوفر فرص عمل وتشغيل للعاطلين، وتخفيف حدة ظاهرة الفقر، وبين ممكنات تحقيق ذلك في الوسط الصناعي، أخذ بعداً كارثياً لم يكن من الممكن تسويته إلا بإزالة الجمود من المستوى السياسي الذي يحول دون تحقيق ذلك.
عند هذا المستوى من التحليل نستنتج أن المطالب المعيشية على اختلافها كانت من الأسباب الرئيسة لاندلاع "ثورة الربيع السوري"
من جهة ثانية، فإن المطالب المعيشية قد ولدت نوعاً أخر من المطالب المرتبط بها، مثل تحديد خيارات العيش، وطرق تحقيقها، والمشاركة في تأمين الظروف اللازمة لإشباعها. بكلام آخر صارت المطالب في تحسين إدارة الدولة، والمشاركة فيها، ومحاربة الفساد ملحة كثيراً، خصوصا وإن تحقيقها كان يصطدم دوما بجمود المستوى السياسي، الذي يقوم على رعايته حلف طغموي بين المال والقوة. لقد استخدم نظام الطغمة الفساد كأسلوب في إدارة الدولة والمجتمع، بحيث لم يعد بالإمكان تسيير أي شأن من شؤون الدولة والمجتمع إلا عبر آليات الفساد، فأزيحت القوانين إلى الرفوف، أو تقدمت قراءات لها تخدم آليات الفساد. في هذا المناخ المعمم غابت فكرة القانون وأخلاقياته، وحلت محلها منظومة قيم الفساد وسلوكياته. من الزاوية المجتمعية فإن الطبقة الوسطى كانت أكثر الفئات الاجتماعية تضررا من الفساد، وبالنظر إلى مستوى وعيها المرتفع نسبيا، فقد كانت شديدة الحساسية تجاهه، مما دفعها إلى مقدمة المطالبين بمحاربته، وإعادة بناء الدولة على أسس القانون والعدالة. بكلام آخر فإن الحاجة إلى بناء دولة القانون والمؤسسات والعدالة وصلت إلى حد التفارق الكارثي مع ممكنات تحققها في الوسط الصناعي بسبب طبيعة وجمود المستوى السياسي، الأمر الذي جعل من مهمة إزالته في مقدمة مطالب الحركة الاجتماعية في سورية.
من جهة أخرى" ليس بالخبز وحده يحي الإنسان"، فالخبز يحافظ عليه ككائن حي، لكنه لا يحافظ عليه ككائن ثقافي. بكلام آخر ثمة حاجات كثيرة من طبيعة غير مادية، مثل الحاجة للتقدير، الحاجة للكرامة، الحاجة لتأكيد الذات والمنافسة، الحاجة للسكينة والاطمئنان، الحاجة إلى الحلم والسعي في سبيله، وكثير غيرها من الحاجات المعنوية والنفسية. جميع هذه الحاجات كانت تصطدم بعدم قابلية الوسط الصناعي لتحقيقها بسبب جمود المستوى السياسي، وضعف مرونة بقية مستويات البناء الاجتماعي بسبب منه. لقد تحول الإذلال إلى نهج عام في المجتمع، يمارسه السياسي و المسؤول الحكومي في مختلف مستويات الدولة وأجهزتها، من الشرطي إلى الوزير وما فوق الوزير، تجاه جميع المواطنين، ويمارسه أصحاب رؤوس الأموال تجاه مستخدميهم، بحيث لم يعد ثمة من فسحة في المجتمع لا يتم فيها امتهان كرامة الناس بدرجات مختلفة. ويتحقق كل ذلك عبر آليات الرشوة والسرقة المكشوفة أو المستترة، وكذلك من خلال منع أية إمكانية للاحتجاج. بعبارة أخرى حصل نوع من التناقض الكارثي بين الحاجة إلى تأكيد الذات وبين ممكنات تحقيق ذلك في الوسط الصناعي، وقد زاد من حدة هذا التناقض انتشار التعليم وإحساس الفئات الوسطى بالمهانة الأمر الذي جعل من مهمة التغيير قضية من قضايا "ثورة "الربيع السوري"
هناك حاجات تتجاوز الحدود الفردية إلى ما يسمى بالإنسان الجمعي، حاجات من طبيعة وطنية وقومية وإنسانية عامة، بعضها يتعلق بمصالح البلد، وكرامة البلد، واستقلال سياساته، بدا ذلك من خلال التناقض بين فائض الادعاء بالممانعة والمقاومة لإسرائيل وللسياسات الأمريكية والغربية عموما، وبين واقع الحال الذي يقول بأن النظام السوري قدم أفضل الخدمات الأمنية لها. فطيلة أربعين سنة تلت حرب تشرين لم تطلق رصاصة واحدة من الجولان السوري المحتل ردا على اعتداءات إسرائيل المتكررة التي طالت جميع مناطق سورية بما فيها قصور الرئاسة. باختصار إن الحاجة للكرامة الوطنية، والحاجة للدفاع عن المصالح الوطنية والدور الوطني دخلت في حالة تناقض كارثي مع ممكنات تحققها في الوسط الصناعي من جراء جمود المستوى السياسي.
ثمة حاجات عامة ناجمة عن ظروف العولمة وسرعة تبادل المعلومات بين مختلف مناطق وشعوب العالم، واستلهام طريقة عيش الآخرين في الدول الديمقراطية، أو انتفاضات الشعوب التي ثارت على حكامها وانتقلت إلى النظام الديمقراطي. لم يعد مقنعاً ما تقول به الأنظمة العربية من خصوصية الدول العربية، ومن أن الديمقراطية لا تلائمها، أو إنها يمكن أن تؤدي إلى تفتيت الكيانات السياسية إلى قبائل وطوائف وجهويات متصارعة، متناسية أنها هي المسؤولة عن وجود إمكانيات التفتت في بعض الدول العربية بسبب من محافظتها على الطابع التركيبي، غير الاندماجي، في بنية بعض الشعوب العربية.
خلاصة القول تعددت الأسباب والنتيجة واحدة وهي أن الشعب السوري لم يعد يقبل بأن يعيش بالطريقة السابقة في ظل نظام استبدادي أمني شديدة المحافظة، إنه يطلع إلى نظام سياسي ديمقراطي يعيد له دوره وفعاليته في تقرير مصيره.


3-في خصوصية الحالة السورية.


تمر سورية، كغيرها من الدول العربية، بمرحلة تاريخية من وجدودها، عنوانها العريض أن الشعب السوري لم يعد يرضى العيش بالطريقة السابقة، إنه يرفض نظام الاستبداد، ويتطلع نحو الحرية، نحو بناء نظام سياسي ديمقراطي، يشكل مدخلا لبناء دولة مدنية ديمقراطية عادلة.
يتميز النظام السياسي في سورية بجملة من الخصوصيات تجعل من عملية تغييره أكثر تعقيداً نذكر منها ما يأتي:
أ- استطاع النظام خلال نحو أربعة عقود بناء دولة أمنية جهازيه قل نظيرها، في تعميم واسع لمفهوم الأمن بحيث شمل جميع مناحي الحياة في سورية.
ب-القوة الحقيقية في هذه الدولة هي للأجهزة الأمنية، فهي المرجع والمقرر في كل ما يخص الدولة والسلطة والمجتمع.
ت-وفي سياق الرؤية الأمنية تم تسييس المؤسسة العسكرية تحت غطاء من العقائدية البعثية، التي أخفت تحتها استخدام واسع وفج لكثير من البنى الأهلية في بناء الجيش، بل أعدت قوات النخبة فيه (الحرس الجمهوري) لتنفذ مهام أمنية صرفة.
ث-ومن أجل إخفاء وتمويه حقيقة الدولة الأمنية الجهازية ،تم استخدام حزب البعث، والأحزاب المتحالفة معه في إطار ما سمي بالجبهة الوطنية التقدمية لتؤدي وظيفة الغطاء السياسي الديكوري لها ، بعد قتل روح الحزبية فيها، وتحويلها إلى مجرد أجهزة للسلطة.
ج- وفي ذات السياق نجح النظام بتوظيف حزب البعث لشل إرادة قطاعات مهمة من الشعب، ومنعها من رؤية الأسباب الحقيقية لمعاناتها ولما تعاني منه سورية بصورة عامة. ومن أجل تأمين مزيد من السيطرة والتحكم بالمسجلين في حزب البعث، أصدر النظام قانون "أمن الحزب"، لترهيب البعثيين أنفسهم، ولقتل روح التساؤل لديهم. لقد حول النظام البعثيين، وقاعدتهم الاجتماعية إلى مجرد أذان تسمع، وأياد تصفق، وحناجر تصرخ بالروح بالدم...
د- وفي ذات السياق ومن أجل الهدف الأمني ذاته، تم تحويل جميع التنظيمات النقابية وهيئات المجتمع المدني والأهلي، بعد القضاء على الروح النقابية فيها، إلى مجرد أجهزة للسلطة تقوم بمهام أمنية بالمعنى الواسع لمصطلح أمن.
لقد كان واضحاً منذ البداية لمؤسس النظام وشركاؤه، أن الغاية من بناء الدولة الأمنية الجهازية هو المحافظة على السلطة، والبقاء فيها. ومن أجل ذلك تم تكريس كل الوسائل المتاحة لبناء نظام سياسي يسهر عليها ويعيد إنتاجها. وكان واضحا لهؤلاء، أنه لكي ينجح النظام السياسي المنشود في مهمته المركزية كان عليه أن يعتمد السياسات الآتية:
أ-سياسة الإدارة بالفساد.
ب-سياسة قتل الروح السياسية في المجتمع.
ت-إنعاش البنى الأهلية وتوظيفها سياسيا.
لقد كان من نتائج نهج الإدارة بالفساد، إنعاش الغرائز اللصوصية في أجهزة الدولة والمجتمع والاقتصاد، بحيث صارت السرقة والرشوة من الوسائل الأساسية في الإدارة والضبط المجتمعي. لقد أدت هذه السياسة إلى تشكيل تحالف ذو طابع طغموي أمني بين شرائح البرجوازية البيروقراطية، والكمبرادورية، والطفيلية، والأجهزة الأمنية لتكوين سلطة سياسية شديدة المحافظة.
ومن جهة ثانية، أدت هذه السياسة إلى انهيار شبه كامل لمنظومة القيم الحميدة في المجتمع، لتحل محلها منظومة قيم جديدة فاسدة تعلي من شأن الفاسد والسارق والمهرب ( برافو قد حالو..)، وما تشكل حولها مجموعات استزلامية تحت اسم الشبيحة ( لقد صار لكل متنفذ شبيحته...يستخدمها في تأمين مصالحه، وفي الدفاع عنها). وأكثر من ذلك استخدمت الشبيحة في صيغ مختلفة( كتائب عمالية مسلحة، أو كتائب بعثية مسلحة، أو لجان شعبية...) في ترهيب الناس، والدفاع عن النظام في الأزمات، وقد برز دورها بصورة جلية وفاعلة في الأزمة الحالية.
أما فيما يخص سياسة قتل الروح السياسية في المجتمع فقد تم العمل بموجبها على جبهتين:
على جبهة النظام جرى العمل على قتل الروح الحزبية في أحزاب السلطة، وخصوصا في حزب البعث ذاته، وإغراق قياداتها في الفساد والإثراء غير المشروع، وتحويلها إلى مجرد ديكورات سياسية.
على جبهة القوى المعارضة عمل النظام وبكثافة لمنع نمو تيارات سياسية معارضة فاعلة وجماهيرية، من خلال تكثيف حملات الاعتقال لأعضائها، إلى درجة أنها أخذت طابعا استئصاليناً في بعض المراحل، كما حصل خلال أزمة أواخر السبعينات أوائل الثمانينات التي تسبب بها الإخوان المسلمون والنظام ودفع الشعب بأسره تكاليفها الباهظة. كان من نتيجة هذه السياسة من جهة، إضعاف القوى السياسية المعارضة إلى درجة كبيرة، حتى صار الكثير منها مجرد أخويات سياسية تمارس السياسة تحت الأرض كنوع من الطقوس. ومن جهة ثانية تم تعميم الخوف في المجتمع، حتى صار عنوانا للسلبية والابتعاد عن الخوض في القضايا السياسة الوطنية، وخصوصا ما يتعلق منها بالشأن الداخلي. لقد نجحت هذه السياسة في تكوين مجتمع منزوع السياسة، منزوع الحزبية، منزوع الثقافة السياسية، مملوء بديماغوجيا تعظيم القائد.
أما فيما يخص سياسة إنعاش البنى الأهلية وتوظيفها سياسيا، فقد نجح النظام باستخدامها في صيغ وأشكال مختلفة، بدءا من سياسة التوازنات الطائفية أو العشائرية في تكوين قياداته الحزبية،أو في توزيع المناصب في الدولة وأجهزتها، وصولاً إلى تعزيز دور المؤسسة الدينية الرسمية وربطها به أمنيا واقتصاديا. لقد حول النظام الزعامات الأهلية للطوائف والقبائل والعشائر إلى خلفية اجتماعية له يستدعيها عند الحاجة لتمارس دورها في الضبط المجتمعي. لقد توسع النظام كثيرا في بناء دور العبادة، والمدارس الدينية، ومعاهد حفظ القرآن وغيرها، فانتشر ما يسمى بالتدين الطقوسي على حساب تفريغ المجتمع من الخطاب السياسي العلماني القومي أو اليساري أو الديني المعتدل، مما أسس لوعي طائفي خطير، يدفع البلد ثمنا باهظا له اليوم.
بطبيعة الحال ما كان باستطاعة النظام السوري أن يستمر في السلطة لمدة تزيد على أربعة عقود باعتماده على النهج الأمني فقط، لذلك عمل على جبهات أخرى اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية وغيرها، أدت في المحصلة إلى بروز تناقضات كارثية هي من جملة الأسباب التي أسست للدعوة إلى التغيير الجذري والعميق تحت عناوين إصلاحية. لقد حصل تراكم مهم على صعيد رسملة المجتمع، ودخلت المدنية إلى الريف، وانتشر التعليم على نطاق واسع، وتوسعت وسائل الاتصال بالعالم.. كل ذلك عمل على تكوين شخصية المواطن السوري بصورة تجمع التناقضات في داخلها وتتعايش معها وكأنها من الأمور الطبيعية.
ومن الخصوصيات المهمة للنظام السياسي السوري موقع الرئيس فيه ودوره المركزي الحاسم. ليس خافيا مركزية دور الرئيس في كل الأنظمة الديمقراطية الرئاسية، لكنها هنا مركزية قانونية، كل جانب من جوانبها يحدده قانون، ولا يستطيع الرئيس تخطي الحدود التي يرسمها له، وهي قبل كل شيء مركزية مفوضة من قبل الشعب يمارسها تكليفاً. هذه الحالة تختلف جذريا عنها في في الأنظمة الاستبدادية، وخصوصا في تلك الآتية من رحم "الشرعية الثورية"[كذا] كما هو حاصل في سورية.
وبالفعل، منذ أن استولى حافظ الأسد على السلطة في سورية في عام 1970، في انقلاب أبيض كان يعد له منذ سنتين على الأقل، شرع في جعل نفسه محور النظام برمته، منه وإليه تنتهي جميع علاقات النظام الداخلية وترابطاته، وحتى أشخاصه. فهو لم يسمح طيلة فترة حكمه التي امتدت نحو ثلاثة عقود ببروز أية شخصية من شخصيات النظام، إلا بالقدر الذي يريده هو، ولأداء الدور الذي يطلبه منه.
وعندما حل أبنه، بشار الأسد، محله في هرم السلطة في منتصف عام 2000، في عملية تسليم واستلام، هي الأخرى كان يجري الإعداد لها منذ بضع سنين على الأقل، كان يدرك جيدا أن نمط الحكم الذي بناه حافظ الأسد لا يكون، ولا يستمر بالوجود، بدون محورية موقع ودور الرئيس فيه، وهذا ما عمل على تحقيقه في عام 2005 بعد أن أزاح جميع رجالات والده من السلطة، والإتيان برجاله الخاصين. منذ ذلك التاريخ صار النظام السوري يتحدد بدلالة رئيسه فيسمى نظام بشار الأسد، كما كان يسمى في حينه نظام والده بنظام حافظ الأسد، وبذلك أعيد تطويب البلد لرئيسها من جديد،أو لعائلته الدالة عليه، فعادت تعرف بـ "سورية الأسد".
لقد بنى حافظ الأسد نظامه على أربعة دعائم أساسية هي: أولاً؛ منع أية حياة سياسية طبيعة في سورية، بما في ذلك في حزب البعث ذاته، وفي الأحزاب المتحالفة معه، إذ تم تحويلها إلى مجرد أجهزة للسلطة. وثانياً؛ تقوية أجهزة الأمن والجيش وربطها به شخصياً. وثالثاً؛ التحالف مع البرجوازية السورية، وخصوصا البرجوازية الدمشقية والحلبية. ورابعاً التحالف مع رجال الدين وخصوصا رجال الدين السنة. وفي توزيع للأدوار غير معلن، لكنه معروف، فقد أوكل للأجهزة الأمنية والعسكرية مهمة الحفاظ على النظام بالمعنى المباشر، ومن أجل ذلك فقد منحها امتيازات واسعة، وتغاضى عن فسادها، بل أصدر قوانين تحول دون مساءلتها عما ترتكبه من جرائم، مما سمح لها بالتغلغل في جميع مفاصل الدولة والمجتمع. إضافة إلى ذلك فقد ركز في بنائها على الحضور الكثيف والواسع فيها للعناصر الموالية له عضوياً.
أما فيما يخص تحالف النظام مع البرجوازية السورية وتأمين ولاءها له، فقد أناط هذه المهمة ببرجوازية النظام البيروقراطية (حيتان النظام الجدد) لتولي هذه المهمة وذلك بنسج شراكات مع البرجوازية التقليدية، وهي برجوازية مدينية سنية الانتماء المذهبي في غالبيتها الأعم، لاقتسام فائض القيمة المنتجة خصوصا في قطاع الدولة الاقتصادية، مما ساعد في تحولها شيئا فشيئا إلى برجوازية طفيلية وكمبرادورية.
وإذا كان تأمين تحالف النظام مع البرجوازية السورية، تطلب منه تقديم تنازلات كثيرة لها على الصعيد الاقتصادي، في مقابل تخليها عن دورها السياسي التاريخي المفروض أن تؤديه في ظروف التحولات الرأسمالية، فإن تأمين ولاء فئة رجال الدين له لم يكن يتطلب منه الكثير. فشيء من تحسين امتيازاتهم المعنوية والمادية الشخصية، إضافة إلى منحهم فسحة واسعة نسبياً لممارسة شعائرهم الدينية، وبناء دور العبادة، ومعاهد تحفيظ القرآن، كانت أكثر من كافية لتأمين ولائهم له ومنحه غطاء أيديولوجيا دينيا، كان بحاجة إليه.


4- في خصوصية الجغرافيا السياسية لسورية.


ما إن شرع الشعب السوري بالتمرد على حكامه، حتى بادرت دول عديدة عربية وإقليمية وبعيدة تتدخل في الشأن الداخلي السوري تحت عناوين مختلفة، ظاهرها دعم الشعب السوري في مطالبه العادلة، وباطنها الدفاع عن مصالحها الخاصة. واللافت أن التدخل الخارجي جاء بداية من سلطات الدول التي كانت تعد صديقة للنظام السوري مثل قطر وتركيا، لتتحول سورية لاحقا، وخلال زمن قصير، إلى ساحة صراع دولية لم يُشهد لها مثيل منذ الحرب العالمية الثانية.
إن نهج العنف، في الظروف السورية، هو نهج قطع مسار تحول الانتفاضة الشعبية إلى ثورة وفتح الطريق أمام خيارات وممكنات الثورة المضادة، وهذا كان مستهدفا لذاته من قبل السلطة السورية، لكنه لم يكن بعيدا عن استهداف دول عربية وأجنبية أخرى، ولكل أسبابه الخاصة.
لقد تدخلت دول عربية وأجنبية في سورية لأنه كان لها مصلحة حقيقية في وقف مد " ثورات الربيع العربي " والقضاء على احتمالات انتقالها إلى دول أخرى. لذلك فهي قد شجعت وساعدت على انتشار العنف في سورية لإدراكها أنه في ظروف سورية سوف يتم دفن هذه الاحتمالات على الأقل في المدى المنظور.
من جهة أخرى؛ فإن دولاً عربية وأجنبية قد وجدت في الصراع العنيف في سورية فرصة سانحة للقضاء على تحالفها مع روسيا وإيران مما يضعف هذه الأخيرة، من خلال استنزاف قدراتها المالية والعسكرية، وفضح سياساتها الداعمة للنظام السوري في مواجهة شعبه، ويبعد روسيا عن المنطقة من خلال القضاء على آخر حليف لها.
غير أن تدمير سورية، وتمزيق نسيجها الاجتماعي، والقضاء على دورها الفاعل والمحوري في المنطقة لم يكن أيضا غير ملحوظ في سياسات كثير من الدول الأجنبية وفي مقدمتها الثلاثي الأمريكي البريطاني الفرنسي،وذلك خدمة لمصالحها الإستراتيجية في المنطقة، وفي مقدمتها مصلحتها في الحفاظ على أمن إسرائيل على المدى البعيد.
لقد أدى التدخل الخارجي في سورية إلى تأجيج الصراع المسلح فيها، بحيث صار يملأ كامل المشهد. في جهة تصطف قوى المجموعات المعارضة المسلحة التي صار يغلب عليها الطابع الجهادي المتطرف مدعومة من ألاف المقاتلين الأجانب القادمين إليها من أكثر من ثمانين بلداً،تساندها عسكريا وماليا وسياسيا مجموعة دول ما يسمى بـ " أصدقاء الشعب السوري ". وفي الجهة الأخرى يصطف النظام بكل قدراته العسكرية والأمنية مدعوما على الأرض من آلاف المقاتلين من حزب الله اللبناني وبعض التنظيمات شبه العسكرية العراقية، والإيرانية وغيرهم. هذا المشهد الذي يتميز بالاستقطاب الحاد سوف يلقي بظلاله على أفاق الزمن القادم في سورية، خصوصا لجهة الحلول المطروحة ورسم ملامح سورية المستقبل.