عبد السلام أديب - باحث يساري ومناضل نقابي - في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: نمط انتاج رأسمالي في مفترق الطرق: الاشتراكية أم البربرية؟


عبد السلام أديب
الحوار المتمدن - العدد: 4581 - 2014 / 9 / 21 - 19:58
المحور: مقابلات و حوارات     


من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -139 - سيكون مع الأستاذ عبد السلام أديب - باحث يساري ومناضل نقابي -  حول: نمط انتاج رأسمالي في مفترق الطرق: الاشتراكية أم البربرية؟ .


 

مقدمة عامة
طلب مني اقتراح مقدمة لطرح النقاش مع قراء وكاتبات وكتاب الحوار المتمدن، وكنت في تلك الاثناء في جدل مع بعض الرفاق حول موضوع مؤلف نهاية التاريخ لفوكو ياما الصادر في بداية عقد التسعينات. حيث دار جدل كبير حول ماذا كان يقصد فوكو ياما حقيقة ومجازا من موضوعه ذلك. فهل أوحى انهيار سور برلين في المانيا سنة 1989 وانهيار الاتحاد السوفياتي سنة 1991 لفوكو ياما بأن نمط الانتاج الرأسمالي قد ضمن لنفسه الاستمرار الأبدي وبان البشرية استطاعت ان تجد لنفسها أخيرا نمطا انتاجيا قابلا لضمان الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي؟ أم أن مجريات الاحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية العالمية بدأت توحي بنهاية تاريخ نمط الانتاج الرأسمالي لكونه أصبح غير قابل لضمان استقرار حياة الانسان، بل أنه بلغ مرحلة انحطاطه واحتضاره القصوى، والتي اصبحت تطرح بالفعل ما العمل؟ للانتقال نحو الاشتراكية كبديل وحيد لنمط الانتاج الرأسمالي؟

تلك اذن هي اشكالية العنوان الذي أقترحه على قراء وكتاب الحوار المتمدن للتمعن فيها ومناقشتها، على ضوء ثلاث محاور سأحاول اختصارها ما أمكن توضح وجهة نظري من الموضوع. تتناول هذه المحاور الثلاثة، أولا التاريخ المقتضب للرأسمالية في المغرب ثم ثانيا نظرية كارل ماركس حول انحطاط الرأسمالية، ثم ثالثا، المخاض العسير المصاحب للانتقال من نمط الانتاج الرأسمالي نحو المجتمع الاشتراكي.
 


أولا: تاريخ مقتضب للرأسمالية في المغرب

من شأن استعراض سيرورة اعتماد نمط الانتاج الرأسمالي في المغرب، التأكيد على أن هذا النمط أفاد قوى امبريالية معينة ونخب سياسية محلية مهيمنة على حساب الطبقات الشعبية العاملة والوسطى. لكن سيرورة نمط الانتاج الرأسمالي في المغرب بلغت اليوم مرحلة الانحطاط حيث أصبحت القوى المهيمنة لا تستفيد من نمط الانتاج السائد بدون تدمير الاسس المادية للطبقات الشعبية الشيء الذي أجج الصراع الطبقي وعمق من حدة الازمتين الاقتصادية والسياسية.

1 – قابلية المغرب للتوسع الامبريالي
ففي القرن التاسع عشر كان المغرب قد بلغ مرحلة من التفكك والانحطاط الاقتصادي والسياسي حيث كان مقسما بين ما كان يسمى ببلاد المخزن وهي منطقة الحكم السلطاني في المناطق السهلية على الخصوص وبلاد السيبة بجبال الاطلس ومنطقة الريف والصحراء حيث كانت تلجأ اليها القبائل الامازيغية هربا من بطش بلاد المخزن. وقد عمق هذا الانقسام السياسي والصراع المتولد عنه من الهشاشة الاقتصادية والسياسية. ويكفي هنا أن نذكر بالمجاعات الدورية التي كانت تفتك بالمغاربة ما بين القرن 17 والقرن 19 وأيضا انتشار الأوبئة الفتاكة كمرض الطاعون مثلا. وقد كان من نتائج ذلك تراجع عدد سكان المغرب من حوالي عشرة ملايين نسمة في القرن السادس عشر الى حوالي خمسة ملايين نسمة في القرن التاسع عشر.
الخلاصة وهي أن القوى الرأسمالية الصاعدة في أوروبا والتي كانت في حاجة إلى التوسع الاستعماري لمعالجة أزماتها الدورية وايجاد اسواق جديدة ويد عاملة رخيصة وموارد طبيعية تستند عليها من أجل المزيد من التوسع والتراكم الرأسمالي، وجدت في شعوب ومناطق شمال افريقيا مجالا لهذا التوسع، وفي هذا الاطار ثمت الهيمنة الاستعمارية على كل من الجزائر أولا ثم تونس والمغرب ثانيا.
ومع اخضاع المغرب لمعاهدة الحماية سنة 1912، بدأت الامبريالية الفرنسية في ادخال نمط الانتاج الرأسمالي سواء في مجال الزراعة أو في مجالات الصناعة والتجارة، وبذلك بدأت تتشكل تدريجيا داخل المدن البروليتاريا الصناعية خاصة بمدينة الدار البيضاء وذلك في علاقة وثيقة مع اصولها البدوية التي كانت تعاني من الاستغلال الاستعماري. لذلك فمباشرة مع خفوت المقاومة المسلحة في مناطق الريف والاطلس والشرق والصحراء، بدأت تتشكل المقاومة السياسية في المدن والبوادي من خلال تنظيمات سياسية سرية واخرى علنية ثم ظهور مقاومة مسلحة في خمسينات القرن العشرين في اطار جيش التحرير.
ونظرا لان الاستعمار الفرنسي كان يعلم ان هذه المقاومة الشرسة ستؤدي حتما الى اندحاره، فقد بدأ يحضر لمعاهدة ايكس ليبان مع القوى التي ستضمن تبعية المغرب الاقتصادية والسياسية لفرنسا بعد سنة 1956. هذا الاستقلال الشكلي سيدخل المغرب في صراع طبقي من نوع جديد، بعدما كان في ظل الحماية بين الطبقات الشعبية والمستعمر.
فالتحالف الطبقي الذي استولى على الحكم بمقتضى معاهدة ايكس ليبان سيعمل تدريجيا على اعتماد نمط الانتاج الرأسمالي كسبيل لما يسمى بالتراكم البدائي لرأس المال للارتقاء بنموذج التنمية الرأسمالي. عملية التراكم الرأسمالي كانت تتم سواء في مجال الزراعة أو الصناعة أو التجارة على الاستغلال المفرط للساكنة دون مقابل يذكر على مستوى التنمية الاجتماعية خصوصا في البوادي المغربية مما أدى إلى تراكم العجز والهشاشة الاجتماعية.
 
2 – الدخول في دوامة الازمة انطلاقا من عقد الثمانينات من القرن العشرين
لقد كان عقدي الستينات والسبعينات كافيان لابراز محدودية نمط الانتاج الرأسمالي المعتمد والقائم على الاستغلال الاقتصادي المفرط في ظل اختلال اجتماعي عميق سيعمق من التناقضات الاجتماعية ومن حدة الصراع الطبقي وهو ما سيقود بشكل بديهي الى تقوية الاستبداد السياسي للدولة في اطار ما يسمى بسنوات الرصاص وما خلفه ذلك من الآلاف من ضحايا القمع والمآسي الاجتماعية.
سيعرف نمط الانتاج الرأسمالي في المغرب مع مطلع عقد الثمانينات من القرن العشرين نتيجة تعمق الازمة الاقتصادية والمالية وخاصة تفاقم المديونية الخارجية تحولا نوعيا حاول التحالف الطبقي الحاكم بمعية المؤسسات المالية الدولية اعادة تكييف الطبقات الشعبية مع عمق الازمة ومع ضرورات سداد استحقاقات المديونية الخارجية فتم اعتماد ما عرف بسياسات التقويم الهيكلي والتي اخرجت الملايين من المغاربة من نموذج التنمية المعتمد اما عن طريق التسريحات الجماعية والفردية أو عن طريق تجميد التوظيف في الوظيفة العمومية أو عن طريق تجميد الاجور وأيضا عن طريق توقيف او رفع اسعار الولوج الى المرافق العمومية وهذا عدا تقليص تدريجي وعنيف من الاعتمادات الاجتماعية خاصة في مجالات التعليم والصحة.
لقد كان من شأن هذا التكييف للطبقات الشعبية مع عمق الازمة وارتفاع المديونية تحقيق فائض من الارباح المالية دون تنمية اقتصادية تذكر بل ودون حدوث تراكم رأسمالي. فمعدل تراكم الارباح لم يعد يقابله ارتفاع في معدل التراكم الرأسمالي، وهو ما سيرفع من هامش المضاربات المالية والعقارية على حساب الانتاج واعادة الانتاج الرأسمالي. كما أن اخراج الملايين من المغاربة من تحقيق الكسب الطبيعي لقدراتهم الشرائية سينعكس سلبا على قدرة السوق الداخلي على امتصاص الانتاج الزائد وإذن الى المزيد من انخفاض معدل الربح ومعدل التراكم الرأسمالي.

3 – تعمق مؤشرات الازمة منذ سنة 2008
منذ بداية عقد الثمانينات من القرن العشرين ونتيجة استراتيجية تدبير ازمة نمط الانتاج الرأسمالي في المغرب القائمة على تعميق الاستغلال والحرمان وانعكاس ذلك على انحسار السوق الداخلي وتفاقم ازمة الانتاج الزائد والتدهور المستمر للميزان التجاري ولميزان الأداءات، أصبحت معدلات نمو الناتج الداخلي الاجمالي متدنية باستمرار، وهو التدني الي يعمق من الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية ويرفع من حدة الصراع الطبقي. فقد شهد عقد الثمانينات ثلاث انتفاضات شعبية قوية سنوات 1981 و1984 و1990، كما عرفت الحركات الاحتجاجية أوج صعودها خلال عقد التسعينات والعقد الاول من الالفية الثالثة خصوصا مع تأسيس الجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين سنة 1989، وهي الجمعية التي فتحت الشارع العمومي لخروج المئات من الحركات الاحتجاجية الأخرى والمعبرة عن تضررها من تفاقم الازمة الاقتصادية والاجتماعية. كما ظهرت ابتداء من سنة 2006 حركة اجتماعية قوية لمناهضة الغلاء وتدهور الخدمات العمومية جمعت مختلف الشرائح الاجتماعية والفصائل السياسية اليسارية.
ومع انفجار الحلقة الاخيرة من الازمة الاقتصادية والمالية لسنة 2008 ولجوء التحالف الطبقي الحاكم نحو حلوله السهلة لمعالجة الازمة الجديدة على كاهل الملايين من الطبقات الشعبية العاملة والوسطى، حدث اقصاء جديد للملايين من الطبقات الشعبية من ثمار نموذج التنمية القائم على نمط الانتاج الرأسمالي، وحيث عمق هذا الاقصاء بحد ذاته من الازمة الاقتصادية والاجتماعية وزادت معها التوثرات الاجتماعية وعمق من حدة الصراع الطبقي حيث ارتفعت حدة الاضرابات القطاعية وعدد المظاهرات الاحتجاجية وكان من بين أبرز التعبيرات المناهضة للأزمة حركة 20 فبراير لسنة 2011 والتي لا زالت مستمرة في تظاهراتها الدورية والتي تعرفها جل المدن المغربية.

4 – الانعكاسات الاجتماعية والسياسية للأزمة
ان هذا التفاقم المتعاظم للأزمة الاقتصادية والاجتماعية منذ بداية عقد الثمانينات يؤكد أطروحة انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي المعتمد في المغرب وأنه أصبح لا يخدم سوى مصالح التحالف الطبقي الحاكم بينما يعمق في المقابل من بؤس وهشاشة الطبقات الشعبية ويجعلها دائما تسدد فاتورات ازمة نمط الانتاج القائم.
وإذا كان النظام السياسي قد استطاع عبر القمع المادي والاختطاف والتعذيب والاحكام المفبركة وأيضا عبر التخدير الديني الذي انطلق مع ضرب الفلسفة وعلم الاجتماع في المدارس والجامعات منذ أواخر عقد السبعينات والتركيز في المقابل على الفكر الاسلامي مع تقوية دور وزارة الاوقاف وسياسة بناء المساجد والاحاديث الحسنية، وأن يحقق خنوع جل الاحزاب السياسية والمركزيات النقابية لكي تصبح شريكة ومساهمة في تخدير الطبقات الشعبية لضمان قبولها بسياسات تكييفها الهيكلي مع شروط معالجة الازمة على كاهلها، فإن ردود الافعال الشعبية لم تكن في مستوى الهجوم البرجوازي على شروط معيشتها.
لقد استطاع النظام منذ انهيار سور برلين سنة 1989 وانهيار الاتحاد السوفياتي سنة 1991 ان يكسب الى جانبه في الدفاع عن نمط الانتاج الرأسمالي المنهار عددا من الفعاليات اليسارية والاسلاموية الانتهازية من بينها ما كان محسوبا على الحركة الماركسية اللينينية وعلى الحركة الاتحادية وعلى حركة الاسلام السياسي، وهكذا شهدنا منذ سنة 1992 انعقاد ندوات ما يسمى بتجميع فصائل من الحركة الماركسية اللينينية المغربية، وهرولة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية نحو ما يسمى بالتناوب والتحاق شخصيات كانت محسوبة على اقصى اليسار بخدمة اجندة النظام كإدريس بنزكري واحمد احرزني وابراهام السرفاتي ومحمد الفقيه البصري، ثم بعد فشل حكومة التناوب تم اللجوء الى خدمة احد مكونات الاسلام السياسي وهو حزب العدالة والتنمية، والذي استطاع منذ 25 نونبر 2011 أن يحقق أهداف التحالف الطبقي الحاكم وشروط المؤسسات الامبريالية في معالجة ازمته المزمنة والتخفيف من تناقضات نمط الانتاج الرأسمالي القائم عبر تشديد استغلال الطبقة العاملة وتحميل الطبقات الشعبية فاتورة انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي القائم.
 


ثانيا: كارل ماركس ونظرية انحطاط الرأسمالية


انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي في المغرب كما قدمنا له في المحور الأول ليس مقتصرا على بلادنا بل أن هذا الانحطاط هو جزء من انحطاط عام لنمط الانتاج الرأسمالي والذي نشهده منذ بداية القرن العشرين وعلى الخصوص منذ الحرب الامبريالية الأولى سنة 1914.
فتعميم نمط الانتاج الرأسمالي على كامل الكوكب انتهى مع بداية القرن العشرين حينما أصبحت جميع القارات مقسمة فيما بين الامبرياليات، وهي المرحلة التي عبر عنها لينين بان الامبريالية هي أعلى مراحل الرأسمالية، وكلمة أعلى تعني اقصى نقطة تقدم أمكن للرأسمالية الوصول اليها، فعند هذه النقطة الامبريالية ابتدأ عصر انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي لان هذا النمط لا يمكنه ان يتطور ويتوسع بدون استغلال مفرط للانسان لاخيه الانسان وبدون ايجاد اسواق جديدة غير رأسمالية لتحقيق ارباح الانتاج الرأسمالي. إذن فأمام استحالة امكانية الرأسمالية التوسع نحو آفاق غير رأس مالية جديدة، أصبحت أزمة نمط الانتاج هيكلية لا يمكن علاجها الا بواسطة التدمير العنيف لوسائل الانتاج القائمة. لذلك شهدنا مباشرة عقب ازمة 1913 – 1914 التدمير الكبير للحرب الامبريالية الأولى والتي ذهبت بارواح حوالي  24 مليون نسمة من القتلى والتي لم تكن كافية من حيث تدمير قوى الانتاج اذ سرعان ما انفجرت ازمة كونية جديدة لنمط الانتاج الرأسمالي سنة 1929 دفعت اساليب تدبيرها جميع البلدان الى الدخول في حرب امبريالية ثانية ما بين 1939 و1945 والتي ادت الى حوالي 60 مليون نسمة من القتلى. من خلال الحربين العالميتين الاولى والثانية تم اخراج حوالي 84 مليون نسمة من نموذج التنمية الرأسمالي كما تم تدمير كامل لقوى الانتاج التي تم تطويرها منذ بداية القرن التاسع عشر، بينما عرفت الولايات المتحدة الامريكية توسعا رأسماليا سريعا بفضل هذين الحربين العالميتين. أما الفترة اللاحقة للحرب العالمية الثانية فتميزت بفترة قصيرة جدا من النمو الاقتصادي لنمط الانتاج الرأسمالي بفضل اعادة بناء ما حطمته الحرب العالمية الثانية سرعان ما ستنتهي أواخر عقد الستينات لتبدأ مرحلة طويلة من الازمة والمتسمة بانتشار الكساد والتضخم مع خلق بؤر مصطنعة من الحروب هنا وهناك وتغذية ما يسمى بالارهاب الدولي لضمان استمرار انتاج الاسلحة والمعدات الامنية واشعال فتيل الحروب.
وكما رأينا على المستوى الوطني، فان اساليب تدبير ازمة نمط الانتاج الرأسمالي تشابهت في كافة الدول والتي تتلخص في الضغط على الاجور وتفكيك الخدمات العمومية وتدمير نظام الاعانات الاجتماعية والتقاعد ودفع الطبقات الشعبية لسداد فاتورة الازمة. وقد أدت هذه الاساليب في تدبير الازمة الى استرداد تعسفي لهامش كبير من الارباح لكن دون تراكم رأسمالي، مع استمرار حالة كساد الاسواق والانتاج الزائد غير القابل للتصريف. كما عرفت نفس الفترة تحولا راديكاليا نحو تمييل الاقتصاد العالمي وهيمنة المضاربات المالية على الانتاج الفعلي.
ان انفجار الحلقة الاخيرة من ازمة نمط الانتاج الرأسمالي سنة 2008، كان نتيجة هذا التناقض الهائل بين الانتاج والتسويق، بين القدرة الهائلة على الانتاج وعدم القدرة الهائلة على تحويل هذه المنتجات الى ارباح بسبب الضيق المتزايد للاسواق، بين عملية انتاجية تقوم على سداد أجور زهيدة للمنتجين الحقيقيين المتناقصين نتيجة البطالة الواسعة نتيجة ادخال الآلة واسواق تفيض بالمنتجات الزائدة ولا تجد لها مشترون قادرون على تحويل تلك السلع الى ارباح رأسمالية حقيقية.
لا يختلف انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي عن انحطاط باقي انماط الانتاج السابقة. وقد سبق لكل من كارل ماركس وفردريك انجلز أن درسا في اطار المادية التاريخية تطور مختلف انماط الانتاج السابقة على نمط الانتاج الرأسمالي، واستخلصا أن كل نمط انتاج اقتصادي اعتمدته البشرية بدون وعي للحفاض على بقائها عرف مراحل ولادته ثم مرحلة شبابه وكهولته ثم مرحلة شيخوخته وانحطاطه. وكما هو الشأن بالنسبة لولادة نمط الانتاج الاقتصادي والتي تعرف مخاضا عسيرا تم قد يقضي نمط الانتاج قرونا من التطور والازدهار، فإن نفس نمط الانتاج عند وصوله الى نقطة معينة تبدأ معها مرحلة طويلة قد تمتد قرونا من التدهور والانحطاط. وقبل أن ينتهي نمط الانتاج القائم الى التلاشي يظهر نمط انتاج جديد يقوم على أنقاض نمط الانتاج القديم بل يساهم في محاربته واقباره.
من خلال خلاصات كارل ماركس وفردريك انجلز تعرفنا الى درجة جد متقدمة من الدقة على القوس الذي قطعه نمط الانتاج البدائي ثم على القوس الذي قطعه نمط الانتاج الآسيوي ثم على القوس الذي قطعه نمط الانتاج العبودي وعلى القوس الذي قطعه نمط الانتاج الاقطاعي واخيرا على القوس الذي يقطعه نمط الانتاج الرأسمالي الحالي والذي يوجد في مرحلة انحطاطه المتقدمة.


1 – نظرية انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي في قلب الفكر الماركسي اللينيني:
في سنة 1859 وبعد قضاء كارل ماركس وفردريك انجلز حوالي 20 سنة من الدراسة والبحث الفلسفي والتاريخي والسوسيولوجي والاقتصادي اضافة الى تجاربهما في خضم الصراع الطبقي الذي كانت تخوضه الحركة العمالية العالمية التي ساهما في نشأتها كعصبة الشيوعيين سنة 1842 فمن خلال كل ذلك اصدر مؤلفه حول نقد الاقتصاد السياسي وفي مقدمة هذا المؤلف يشير كارل ماركس لأهم نظرياته حول القوس الذي يقطعه كل نمط انتاجي على حدة. وقد عمل كارل ماركس على تضمين مختلف كتاباته لخلاصات هذه النظرية والتي تظهر واضحة من خلال هذه المقدمة. فمن أجل التأمل في هذه النظرية أدرج فيما يلي مقولة كارل ماركس:
"الخلاصة العامة التي توصلت اليها، والتي، حالما استوعبتها، أفادتني كخيط قائد في دراساتي، يمكن صياغتها باختصار على الشكل التالي: في اطار انتاجهم الاجتماعي لوجودهم، يرتبط الناس فيما بينهم بعلاقات محددة، ضرورية، مستقلة عن ارادتهم؛ وتتطابق علاقات الانتاج هذه مع درجة معينة من تطور قوى الانتاج المادية لديهم. تشكل مجموع هذه العلاقات البنية الاقتصادية للمجتمع، وهي القاعدة الملموسة التي يرتفع على أساسها، البناء القانوني والسياسي، الذي يتطابق مع أشكال محددة من الوعي الاجتماعي. نمط انتاج الحياة المادية يكيف سيرورة الحياة الاجتماعية، السياسية والثقافية بشكل عام. فليس وعي الناس هو ما يحدد وجودهم، بل على العكس من ذلك وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم.
 
عند درجة معينة من تطورها، تدخل قوى الانتاج المادية للمجتمع في تناقض مع علاقات الانتاج الموجودة، أو مع علاقات الملكية التي تطورت في اطارها الى ذلك الحين، والتي ليست سوى تعبيرها القانوني. وعلى أساس أشكال تطور قوى الانتاج، فإن هذه العلاقات تضع العراقيل أمامها. وهنا تنفتح حقبة من الثورة الاجتماعية.
 
فالتغير الذي يحدث في القاعدة الاقتصادية تحدث انقلابات، قد تزيد سرعتها أو تنقص، في كامل ذلك الصرح العلوي.
 
وعندما نتمعن في هذه الانقلابات، فيجب أن نميز دائما بين الانقلاب المادي – والذي يمكن أن نكتشفه بشكل علمي صارمة – الذي يطال شروط الانتاج الاقتصادي، والأشكال القانونية والسياسية والدينية والفنية أو الفلسفية، وباختصار الأشكال الايديولوجية، والتي يستوعب الناس في اطارها هذا النزاع ويدفعونه حتى نهايته.
 
وكما لا يمكن أن نحكم على شخص انطلاقا من الفكرة التي يكونها عن نفسه، لا يمكن أن نحكم على مثل هذه الحقبة من الثورة الاجتماعية انطلاقا من الوعي الذي تكونه عن نفسها. بل يجب على العكس من ذلك، أن نفسر هذا الوعي من خلال التناقضات المادية، ومن خلال النزاع الموجود بين قوى الانتاج الاجتماعي وعلاقات الانتاج.
 
ولا ينتهي أبدا أي مجتمع قبل أن تتطور جميع قوى الانتاج  وتصبح واسعة بشكل كافي لاحتوائه؛ وأبدا لا تستبدل علاقات انتاج جديدة ومتقدمة العلاقات القديمة قبل أن تتبلور الشروط المادية لوجودها في صلب المجتمع القديم نفسه. لذلك السبب لا تطرح الانسانية أبدا سوى المشاكل التي يمكنها معالجتها، ذلك لأنه  عندما ننظر إليها عن قرب، فلا توجد دائما سوى المشكلة نفسها والتي لا تبرز سوى في المكان الذي تتواجد فيه مسبقا الشروط المادية لمعالجتها، أو أنها على الأقل في طريقها لأن تصبح كذلك.
 
وكخطوط كبرى، فإن أنماط الانتاج الآسيوية، والقديمة، والاقطاعية والبرجوازية الحديثة يمكن وصفها على أنها حقب قد تطورت تدريجيا في تشكيلها الاقتصادي للمجتمع. وتعتبر علاقات الانتاج البرجوازية آخر الأشكال المتناقضة في السيرورة الاجتماعية للإنتاج، التناقض ليس بمفهوم التناقض الفردي، وانما تناقض ناشئ عن الشروط الاجتماعية لوجود الأفراد؛ ومع ذلك فإن قوى الانتاج التي تتطور في قلب المجتمع البرجوازي تخلق في نفس الوقت الشروط المادية الخاصة لمعالجة هذا التناقض. ومع انتهاء هذا النظام الاجتماعي، ينتهي إذن عصر ما قبل التاريخ للمجتمع الانساني".
ويؤكد كارل ماركس هذه النظرية أيضا في كتابه رأس المال عندما يتطرق إلى السوق العالمي ونظام الحاجات:
"العالمية التي يتوجه نحوها رأس المال دون توقف تعترضها حدود متلازمة مع طبيعته، تجعله، عند درجة معينة من تطوره، يظهر معها كأكبر معرقل لهذا الاتجاه وتدفعه الى الدخول في مرحلة تدميره الذاتي".( Marx, Grundrisse, “Le capital : marché mondial et système des besoins)
كما يؤكد فردريك انجلز على نفس الخلاصة في كتابه ضد دوهرينغ حينما يؤكد على أن "نمط الانتاج الرأسمالي (...) في اطار تطوره الخاص، يتجه نحو نقطة يصبح معها هو نفسه مستحيلا".( Engels, Anti-Dühring, partie II, “Objet et méthode”).
مرحلة التناقض الحاد التي ستصل اليها الرأسمالية التاريخية مع بداية القرن العشرين ستجد في لينين أكبر معبر عن المرحلة الجديدة التي دخلتها الرأسمالية وهي مرحلة الامبريالية والتي تتطابق مع مرحلة انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي. ورغم أن لينين لم يستعمل مصطلحات من قبيل صعود وانحطاط الرأسمالية، فانه استعمل مصطلحات وتعبيرات مشابهة مثل "حقبة الرأسمالية التقدمية"، و"العامل القديم للتقدم" و"حقبة البرجوازية التقدمية" وذلك لتمييز مرحلة صعود الرأسمالية، ثم "حقبة الرأسمالية الرجعية"، "وأن الرأسمالية أصبحت رجعية" و"الرأسمالية المحتضرة" و"حقبة الرأسمالية التي أدركت نضجها" وذلك لتمييز مرحلة انحطاط الرأسمالية. فلينين استعمل نظرية ماركس حول مرحلة انحطاط الرأسمالية بكاملها ووصف انعكاساتها الاساسية، خصوصا من أجل تحليل صحيح لطبيعة الحرب العالمية الأولى.
وهكذا وعلى عكس أولئك الديموقراطيين الاجتماعيين الخونة الذين ارتكزوا على التحليلات المقدمة من طرف كارل ماركس خلال مرحلة صعود الرأسمالية، ليستمروا في تمجيدهم ودعمهم غير المشروط لبعض الفصائل البرجوازية ودعم نضالاتها من أجل التحرر الوطني لبناء الكيان البرجوازي الطبقي، فان لينين استطاع أن يستخلص خلال الحرب العالمية الأولى ما يعبر على أن النظام الرأسمالي قد أنهى مهمته التاريخية، وأصبح من الضروري تجاوزه عن طريق الثورة محليا وعالميا.
من هنا فإن لينين استخلص أن الحرب الامبريالية تعتبر رجعية بالكامل وأنه يجب مواجهتها بواسطة الأممية البروليتارية والثورة: "بعد تجاوز دور الرأسمالية كمحررة للشعوب خلال صراعها ضد الاقطاع، أصبحت الرأسمالية اليوم أكبر مضطهد لهذه الشعوب. وبعدما كانت الرأسمالية تعتبر عنصرا تقدميا، أصبحت اليوم تعتبر رجعية؛ فقد طورت قوى الانتاج نحو نقطة لم يعد أمام الانسانية سوى المرور نحو الاشتراكية، أو التعرض خلال عقود أو حتى عشرات العقود، لصراع مسلح بين القوى "العظمى" من أجل المحافظة بشكل مصطنع على الرأسمالية بواسطة المستعمرات، والاحتكارات، والامتيازات والاضطهاد الوطني من كل الأشكال". (مبادئ الاشتراكية وحرب 1914 – 1918 – "الحرب الحالية عبارة عن حرب امبريالية").
"حقبة الامبريالية الرأسمالية هي حقبة الرأسمالية التي بلغت مرحلة نضجها وتجاوزت مرحلة هذا النضج، وأشرفت على حافة افلاسها، فقد أصبحت ناضجة لكي تترك المكان للاشتراكية. ان مرحلة 1789 إلى 1871 كانت قد شكلت مرحلة الرأسمالية التقدمية: وحيث برز في جدول أعمالها اسقاط نظام الاقطاع، والملكيات المطلقة، والتحرر من نير الهيمنة الخارجية ..." (الانتهازية وافلاس الأممية الثانية، يناير 1916)؛
"كل ما قيل أعلاه عن الامبريالية، نستخلص منه أنه يجب علينا أن نعتبر الرأسمالية كرأسمالية انتقالية أو، أكثر تدقيقا، كرأسمالية محتضرة. (...) إن السلوك الطفيلي والمتعفن  أصبحا يطبعان المرحلة التاريخية العليا للرأسمالية بمعنى الامبريالية  (...) فالامبريالية هي مقدمة الثورة الاجتماعية للبروليتاريا. وقد تأكد ذلك منذ سنة 1917، على الصعيد العالمي". (Lénine, L impérialisme, stade suprême du capitalisme, Ed. de Moscou 1971, p. 716).
 
إن المواقف التي اتخذها الحزب البلشفي في مواجهة الحرب وعند الثورة شكلت دائما خطوطا لترسيم الحدود بشكل واضح في قلب الحركة العمالية. كما أن قدرة لينين على  تحديد الدينامية التاريخية للرأسمالية، وعلى التعرف على نهاية "مرحلة الرأسمالية التقدمية" وبأن "الرأسمالية أصبحت رجعية"، مكنته، ليس فقط، من تمييز واضح للحرب العالمية الأولى وإنما أيضا  تمييز طبيعة ومدى القدرة على نجاح الثورة في روسيا. وهكذا، عندما نضجت الأزمة الثورية في هذه البلاد، مكن الفهم الذي توفر للبلاشفة حول المهام التي تفرضها المرحلة الجديدة من نضالهم ضد النظريات الميكانيكية والوطنية للمناشفة. وعندما حاول هؤلاء التقليل من أهمية الموجة الثورية تحت ذريعة "التخلف الكبير لروسيا مقارنة بالاشتراكية"، فإن البلاشفة أكدوا على الطابع العالمي للحرب الامبريالية والتي تؤكد على أن الرأسمالية العالمية قد بلغت مرحلة النضج الضروري للثورة الاشتراكية. ونتيجة لذلك، ناضلوا من أجل استيلاء الطبقة العاملة على السلطة، معتبرين هذه المهمة كمقدمة للثورة البروليتارية العالمية.
 
2 – حتمية انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي تقابلها حتمية الثورة البروليتارية:
إن قانون اتجاه معدل الربح نحو الانخفاض، الذي اكتشفه كارل ماركس (أنظر الفصل الثالث من الكتاب الثالث من رأس المال لكارل ماركس)، يترجم التناقض بين واقعة كون البرجوازية لا تستطيع ان تحقق أرباحها سوى من خلال عمل العامل، أي من العمل "الحي" (الرأسمال المتغير)، بينما تتقلص حصة هذا العمل الحي في دورة الانتاج، مع تطور الرأسمالية بشكل منهجي، لفائدة حصة "العمل الميت"(الرأسمال الثابت)، أي الآلات والمواد الأولية. ويعتبر هذا التناقض مكونا عضويا أساسيا كامنا في الرأسمالية، لكن هذه النظرية ليست هي النظرية الماركسية الوحيدة للازمات، فهناك أيضا نظرية انسداد الأسواق أمام تصريف المنتجات الرأسمالية بسبب اختفاء مناطق جغرافية غير رأسمالية مما ينتج عنه نقص هائل في مستوى استهلاك الانتاج الزائد، وهو ما سماه ماركس "بالسبب النهائي لكافة الأزمات" والمتمثل في الفقر والقدرة المحدودة لدى الجماهير للاستهلاك ("la raison ultime de toutes les crises réelles est toujours la pauvreté et la consommation restreinte des masses" (Le Capital, Volume III, chapitre 30, Ed. La Pléiade, Tome 2, chapitre XVII, page 1206)).
فنظرية اتجاه معدل الربح نحو الانخفاض لا تتناقض مع نظرية عدم قدرة البرجوازية على خلق أسواقها الذاتية لتصريف منتجاتها فهما نظريتان متكاملتان:
 
-          فمن جهة أولى، لان المنافسة بين البرجوازيين حول الأسواق يجبرهم بشكل حتمي على الاستمرار في الزيادة في انتاجيتهم، وهو ما يؤدي حتما الى قلب حتمي للتكوين العضوي لرأس المال، بمعنى أرجحية حصة العمل الميت (الرأسمال الثابت) مقارنة مع حصة رأس المال الحي (الرأسمال المتغير).
-          ومن جهة ثانية، تتمكن البرجوازية من خلال تمديد مستوى الانتاج عالميا وغزو أسواق جديدة التي تبقى مع ذلك محدودة من:
1)      – تعويض انخفاض معدل الربح عن طريق تعظيم كتلة الأرباح؛
2)      – احتواء هذا الانخفاض عن طريق الزيادة في الاستغلال الذي يتحقق عن طريق اقطاع أكبر فائض قيمة نسبي (من خلال تمديد مستوى الانتاج يتحقق تقليص تكاليف انتاج السلع الضرورية لحياة العامل وإذن القيمة الحقيقية لأجره).
 
كخلاصة لما سبق نؤكد من جديد على أن نظرية انحطاط الرأسمالية توجد في قلب النظرية الماركسية اللينينية، وأن تطبيق هذه النظرية على المرحلة الامبريالية الحالية تحدد طبيعة التنظيم العمالي الثوري المطلوب بناؤه كما تحدد استراتيجيته وبرامجه، وتقطع في المقابل مع أي برنامج حد أدنى اصلاحي، ببساطة لاستحالة ادخال أي شكل من أشكال الاصلاح على الرأسمالية المنحطة، وتحول كافة الكيانات السياسية المراهنة على اصلاح نمط الانتاج الرأسمالي الى مجرد كيانات انتهازية مضادة للثورة.
 
3 – بعض مؤشرات انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي:

جميع مؤشرات انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي يمكن تلخيصها في حالة من الازمة العامة التي تطال جميع المجالات وجميع قطاعات الحياة الاجتماعية.
1 – فعلى المستوى الاقتصادي (أي البنيات التحتية للمجتمع) يصطدم الانتاج بشكل متزايد بتناقضات هيكلية والتي ليست شيئا آخر سوى علاقات الانتاج الاجتماعية نفسها. فوتيرة تطور قوى الانتاج تصبح بطيئة، ان لم تتوقف تماما. كما يتعرض المجتمع باستمرار لأزمات اقتصادية تتضاعف خطورتها وامتداداتها عند كل أزمة جديدة.
2 – على مستوى البنيات الفوقية: أصبحت شروط المعيشة المادية تشكل في جميع المجتمعات الى غاية اليوم المشكل الاجتماعي الأول، وينتج عن ذلك ان علاقات الانتاج تبقى هي المحدد النهائي لشكل ومضمون مختلف البنيات الاجتماعية. وعندما تنهار هذه العلاقات، فانها تجر معها في حركة انحطاطها كامل الصرح القائم فوقها. وعندما تتطور مثل هذه الحالة من الأزمة على المستوى الاقتصادي، فإن جميع مجالات الحياة الاجتماعية تتأثر بالضرورة سلبا.
وانطلاقا من هنا علينا أن  نبحث عن الجذور الحقيقية لما يسمى بأزمة الحضارة. فالتحليل المثالي يتيه وراء البحث في أسباب  الانهيار الاخلاقي، وحول التأثيرات السلبية للوفرة، وحول التأثير السلبي أو الايجابي لهذه الفلسفة أو ذلك الدين أو العقيدة (أطروحة صراع الحضارات عند هنتنغتن)، باختصار، انها تبحث في مجال الأفكار، والفكر السائد، عن سبب حدوث هذه الأزمات. ودون تجاهل تأثير بعض هذه الأفكار على سياق الاحداث ، فمن الأكيد مع ذلك، كما قال ماركس:
"لا نحكم على الفرد انطلاقا من الأفكار التي يحملها عن نفسه. ولا نحكم على حقبة ثورية انطلاقا من الوعي الذي تكونها حول حركتها. فهذا الوعي يفسر بدلا من ذلك باكراهات الحياة المادية، وبالتنازع الذي تتواجه فيه قوى الانتاج الاجتماعي وعلاقات الانتاج"(مقدمة كارل ماركس لكتابه نقد الاقتصاد السياسي).
في المجال الايديولوجي: تسعى البرجوازية الى المحافظة على نمط انتاج رأسمالي أصبح غير منطقي بشكل متزايد وأمام انهيار يومي متواصل للاديولوجية التي تبرره. فالايديولوجية البرجوازية في تفكك مستمر، كما أن القيم القديمة تتهاوى، وأن الابداع الفني يصاب بالجمود أو يتخذ أشكالا احتجاجية، في ظل تطور الفلسفات الظلامية والتشاؤمية.
في مجال العلاقات الاجتماعية، يتمظهر الانحطاط من خلال:

1 – تطور الصراع بين مختلف فصائل الطبقة البرجوازية المهيمنة. صعوبة الحفاظ على شروط تحقيق الارباح وكميتها؛ سعي الفقراء لضمان معيشهم (عندما يتخلون عن امكانية تعاونهم) الى القيام بذلك على حساب باقي مكوناتهم أو فصائل طبقتهم، مما يؤدي الى التفكك وانهيار جماعي.
2 – تطور الصراع بين الطبقات المتناحرة:
-          صراع الطبقات المضطهدة، التي تشعر بأن الطبقة المستغلة قد عمقت بؤسها ووصلت به الى مستوى لا يحتمل.
-          صراع الطبقة البروليتاريا الحاملة للمجتمع الشيوعي الجديد مع كامل الفصائل السياسية القديمة  الانتهازية والتحريفية والظلامية والشوفينية التي تتحول الى أدوات عدوانية اتجاهها وتشكل ادوات طيعة بيد البرجوازية المهيمنة التي تسعى الى تأبيد هيمنتها على الوضع المنحط القائم.
في المجال السياسي: وفي مواجهة تعمق ازمة انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي، لا تتمكن الطبقة المهيمنة من ضمان مستمر لسلطتها السياسية الا بواسطة التخذير الايديولوجي والديني وبواسطة القمع الوحشي والاختطاف والتعذيب والتصفيات الجسدية كما كان الشأن دائما في ظل انحطاط انماط الانتاج السابقة، مع تقوية مفرطة لجهاز النظام، الدولة،  التي تعمل اساسا على المحافظة على مصالح الطبقة المهيمنة على حساب باقي الطبقات حيث يترجم ذلك بشكل واضح في السياسات الاقتصادية والمالية كضرب المكتسبات الاجتماعية للطبقات الشعبية ومحاولة تفريغ الازمة على كاهلها، ويؤذي ذلك الى تعزيز سيطرة الدولة الطبقية وتمديد هيمنتها على مختلف مجالات الحياة الاجتماعية.
 
 
ثالثا: مخاض عسير للانتقال من نمط الانتاج الرأسمالي نحو المجتمع الاشتراكي


من خلال ما سبق نستخلص أن الأزمة العميقة لنمط الانتاج الرأسمالي جعلته في مفترق الطرق بين الانتقال نحو الاشتراكية أو السقوط في البربرية، غير أن الامر لا يحدث بتلك السهولة التي قد نعتقدها أو نختارها فالصراع الطبقي هو المحرك الفعلي للتاريخ كما قال كارل ماركس، ثم ان البرجوازية المهيمنة لن تتخلى بسهولة عن سلطتها ونمط انتاجها، بل ستلجأ الى كافة الوسائل الممكنة لتصفية أعدائها. لذلك نجدها تتبع استراتيجيات معينة منذ مطلع القرن العشرين للحفاض على استمرارية هيمنتها. بينما تخضع القوى البروليتارية لنوع من التذبذب بين الاصلاحية والثورية، حيث تحاول عدد من القوى اليسارية البرجوازية الصغرى دفع الطبقة العاملة الى نوع من التوافق مع البرجوازية المهيمنة عبر العديد من الآليات الايديولوجية التخديرية وهي من خلال ذلك تعمل أكثر على تثبيت ذاتها أكثر مما تعمل على قيادة الثورة السياسية والاجتماعية على نمط الانتاج الرأسمالي، بينما تحاول العديد من القوى الثورية على تعميق نضالاتها الميدانية لفضح مستوى انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي.

1 – استراتيجية الرأسمالية لضمان استمراريتها
من بين العناصر الاستراتيجية التي تلجأ اليها البرجوازية المهيمنة عالميا للحفاض على استمرارية نمط الانتاج الرأسمالي هناك الحروب والتسلح والمديونية والتخدير الايديولوجي:
أ – الحروب:
لقد بات من المؤكد أن نمط الانتاج الرأسمالي في مرحلة انحطاطه أصبح يعيش بفضل دورة مصطنعة تتمثل في أزمة حرب اعادة البناء ثم الأزمة فالحرب فاعادة البناء ومع انتهاء كل مرحلة اعادة البناء تنفجر الازمة من جديد. فالحروب أصبحت تشكل بديلا عن المستعمرات غير الرأسمالية القديمة والتي اصبحت منعدمة. فالرأسمالية تلجأ الى الحروب لتدمير هائل لقوى الانتاج من أجل الشروع بعد انتهاء هذه الحروب في عملية اعادة البناء، وبذلك تضمن البرجوازية عودة الروح مؤقتا لنمط الانتاج الرأسمالي خلال هذه المرحلة الاخيرة.
ب – التسلح:
منذ بداية القرن العشرين أصبحت صناعة الاسلحة تشكل مكونا هيكليا في استمرارية نمط الانتاج الرأسمالي، حيث تنفق الملايير من الدولارات المتأتية خاصة من الضرائب لانتاج الاسلحة في جو مشحون بالتهديد بالحرب. ونظرا لان انتاج الاسلحة التي تعتبر منتجات غير منتجة ويتم تخزينها وبيعها لا يمكن ان تتجاوز سقفا معينا فان أي توقف في انتاج الاسلحة الا ويهدد نمط الانتاج الرأسمالي من جديد، مما يدفع البرجوازية الى التسبب في الحروب من أجل تدمير هذه الاسلحة واعادة انتاجها.
ج – المديونية:
شكلت المديونية منذ الحرب العالمية الثانية احدى وسائل اختلاق اسواق افتراضية لامتصاص الانتاج الزائد وبالتالي التخفيف من الازمة الهيكلية لنمط الانتاج الرأسمالي. لكن المديونية بطبيعتها تعمق أزمة نمط الانتاج الرأسمالي ولا تخففها، فمختلف القروض الممنوحة لبلدان العالم الثالث خلال عقدي الستينات والسبعينات جعلت هذه الدول عاجزة تماما أواخر عقد السبعينات ومن بينها المغرب على سداد مستحقات المديونية بل وجعلتها غير قابلة لامتصاص الانتاج الزائد المتراكم باستمرار وبالتالي الدخول في ازمة اقتصادية عالمية من الكساد والتضخم.
د – التخدير الايديولوجي:
ضلت البرجوازية المهيمنة منذ بداية القرن العشرين على ممارسة التخدير الايديولوجي للحفاض على خنوعها سواء من خلال اعتماد الدولة البرجوازية على هيمنتها على تشكيل الاحزاب السياسية اليمينية واليسراوية والاسلاموية كما يحدث في بلادنا أو عن طريق فرض بيروقراطياتها داخل المركزيات النقابية التي تعمل على جر الطبقة العاملة الى نوع من التعاون الطبقي. وعبر هذا التخدير الايديولوجي تتمكن البرجوازية من جر البروليتارية الى حروبها الاجرامية والى دفعها للقبول بمختلف الاجراءات التي يتم عبرها نقل تكاليف الازمة الاقتصادية والاجتماعية على كاهل الطبقة العاملة.

2 – استراتيجية القوى الاصلاحية والثورية في مواجهة انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي
كما اشرنا اعلاه تتمكن الدولة البرجوازية من الهيمنة عبر عدة آليات على الاحزاب السياسية بمختلف اتجاهاتها عن طريق الاغراء والتمويل والاكراه، ومن بين هذه القوى التي أصبحت تشكل آلية برجوازية بامتياز عددا من الاحزاب المسمات باليسارية حيث تستعمل الخطاب اليساري والاشتراكي بل والشيوعي لاغراء الطبقة العاملة بأنها تعمل على خدمتها وليس على استخدامها، لكنها في الواقع تصبح اداة لخداع الطبقة العاملة وجرها الى نوع من التعاون الطبقي والحفاض على استمرارية نمط الانتاج الرأسمالي.
أما بالنسبة للقوى اليسارية الثورية فغالبا ما تكون محاربة من طرف مختلف الفصائل البرجوازية بما فيها اليسارية. ورغم كون الخطاب اليساري الثوري له جاذبيته وسط الطبقة العاملة الا ان ضعف البنيات التحتية لهذه القوى وصعوبة تواصلها الدائم مع الطبقة العاملة اضافة الى تعرضها في الغالب الى القمع الوحشي للنظام البرجوازي القائم فيتعذر عليها تبليغ رسالتها والمساهمة في رفع مستوى الوعي الطبقي في افق المواجهة الطبقية الحاسمة.
ومن خلال دراسة الخطوط العريضة لعدد من القوى اليسارية الثورية يتبين توافقها على تحديد نقاط مركزية تميزها عن المعسكر البرجوازي وخدامه التحريفيين والاصلاحيين والانتهازيين:


-         الاعتراف بانحطاط الكلي لنمط الانتاج الرأسمالي؛
-         الاعتراف بالطبقة العاملة كموضوع للثورة؛
-         رفض النقابات كواجهات للصراع السياسي (عبر تتويرها أو النضال من خارجها)؛
-         رفض البرلمانية وكل معارضة انتخابوية؛
-         رفض كل نوع من التحالف مع أي فصيل برجوازي أو اصلاحي أو تحريفي؛
-         رفض ما يسمى بالجبهات الشعبية وبحركات التحرر الوطني البرجوازية؛
-         الاعتراف بأن الثورة الشيوعية سيكون لها طابعا بالضرورة محليا وعالميا في نفس الوقت؛
-         الاعتراف بأن الاشتراكية لن تنجح الا بالغاء العلاقات الرأسمالية لنمط الانتاج الرأسمالي(الانتاج، الملكية الخاصة، العمل المأجور، قانون القيمة الرأسمالي)؛
-         الاعتراف بضرورة بناء الحزب البروليتاري، والذي يصبح له بعد محلي وآخر عالمي.
 
بدلا من الخاتمة
انطلقت في مقدمة هذا الموضوع المقترح للنقاش من مقولة فوكو ياما حول نهاية التاريخ، وتساءلت هل هو نهاية تاريخ الانتقال من نمط انتاج الى آخر أم هو نهاية تاريخ نمط الانتاج الرأسمالي. وقد حاولت التأكيد على أن نمط الانتاج الرأسمالي مثله مثل انماط الانتاج السابقة يعيش مرحلة انحطاطه وان مسألة سقوطه على يد البروليتاريا لم تعد تشكل سوى مسألة وعي طبقي بخطورة هذا النمط الانتاجي على الحياة الانسانية، وأدوات سياسية ثورية للطبقة العاملة لكونها الطبقة الوحيدة التي تحمل مشروع اشتراكي انساني.
كتبت هذا التقديم وانا في حالة سفر، أتمنى أن اتفاعل مع نقاشات القراء والكتاب كلما اتيحت لي الفرصة.