سنديانة حمراء: الدكتور يعقوب زيَّادين - الأمين العامّ الأسبق للحزب الشيوعيّ الأردني - في حوار مفتوح مع قارئات وقراء الحوار المتمدن


يعقوب زيادين
الحوار المتمدن - العدد: 4707 - 2015 / 2 / 1 - 20:45
المحور: مقابلات و حوارات     

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -149 - سيكون مع الاستاذ الدكتور يعقوب زيَّادين - الأمين العامّ الأسبق للحزب الشيوعيّ الأردني  -
 

سنديانة حمراء:


وأنا أكتبُ هذه «الافتتاحيَّة» لحوار المناضل الوطنيّ والأمميّ الفذّ الدكتور يعقوب زيَّادين (الأمين العامّ الأسبق للحزب الشيوعيّ الأردنيّ)، مع قرّاء «الحوار المتمدّن»، أتساءل عمَّ إذا كان بوسعي أن أقدم لهم، في سطورٍ معدوداتٍ، «قيمةً مضافة»، في التعريف بهذه الشخصيَّة الكفاحيَّة البارزة، أكثر ممَّا عرفته عنها أجيالٌ عدَّة متعاقبة في بلادنا.. منذ الأربعينيَّات من القرن المنصرم وحتَّى اليوم، وأكثر ممّا قاله هو في كتب السيرة الكفاحيَّة الأربعة التي كتبها تحت العناوين التالية: «البدايات»، و«ليست النهايات»، و«شاهد على العصر» (الذي اعتمد فيه على الحوارات المطوَّلة التي أجراها معه الإعلاميّ أحمد منصور لفضائيَّة «الجزيرة»)، و«لو عادت بي الأيَّام»، والمقابلات الصحفيَّة العديدة التي أُجرِيَت معه.. إلخ.
على أيَّة حال..
إنَّه يعقوب زيَّادين «أبو خليل» (كما يخاطبه الناس في بلادنا)، الذي شهدت خيوط شمس قرية «السماكيَّة» في جنوب الأردن ولادته عبر كوَّة طينيَّة في أحد صباحات العام 1921 على الأرجح، عمره من عمر الدولة الأردنيَّة التي وُلد فيها وأحبَّها حتَّى العذاب؛ أخلص لها فخانته، وأعزَّها فجارتْ عليه، وحمل آمال شعبها فحملت الآلام إليه.
يعقوب زيَّادين ابن «السماكيَّة» البسيط الذي أكل خبز شعيرها ورعى أغنامها وهالَه أن يرى أهلها وهم «يغمِّسون» الخبز بدواء الملاريا المحلَّى، ما سيقوده لاحقاً إلى الانحياز للفقراء والكادحين ثمَّ الانضمام إلى حزبهم ليتبنَّى مطالبهم ويدافع عن حقوقهم.
يعقوب زيَّادين طبيب العمال والفلاحين والفقراء في القدس وعمَّان، ومُداوي الجنود والسجانين في معتقل الجفر الصحراوي الرهيب؛ فهم بشر مثله وأبناء لشعبه، أولاً، ومن واجبه الإنساني والمهني كطبيب أن يعالجهم، وهم مقطوعون مثله عن العالم الخارجي ويشاطرونه وحشة الصحراء نفسَها وشظفَ العيش نفسَه، ويتنفسون الهواءَ نفسه.
يعقوب زيَّادين المناضلُ الشيوعي العنيد الذي تعرَّض لشتى صنوف التعذيب في مختلف السجون والزنازين وظلَّ وفياً لمبادئه وقابضاً على جمرها.
يعقوب زيَّادين البدويّ المسيحيّ الأردنيّ، الذي دخل البرلمان في عهد حكومة سليمان النابلسيّ الوطنيَّة عام 1957 بأصوات الفلسطينيين في القدس.. لأنه كان يمثل أحلامَ وطموحاتِ ومصالحَ الأردنيين والفلسطينيين معاً وبلا تمييز، حتى أن الدكتور أنيس صايغ حسِبه فلسطينياً من القدس، وأدخَله الموسوعة الفلسطينية الشهيرة.. بناء على ذلك.
يعقوب زيَّادين، صاحب الوجدان الحيّ والضمير الصافي، الذي دأب على قول كلّ ما كان يعتقد في لحظة البوح أنه حق وعدل، وعلى فعل ما كان يرى في خضم مسيرة الكفاح أنه صحيح وضروري، ولم يكن يخشى أحداً أو سلطة، بل لم يحاول إرضاء أحد أو سلطة، فجاءت مواقفه أقربَ إلى الشِعر في لحظة التجلي منها إلى السياسة وفن الممكن.
ولقد عُرف عنه حرصه الشديد على العمل الوطنيّ المشترك، فسعى طوال مسيرته الحزبية والسياسية المديدة إلى العمل مع جميع القوى والأحزاب والتيارات والفئات الوطنية، من أجل إنشاء جبهة وطنية تقدمية عريضة، بغضّ النظر عن الأيديولوجيا أو العلاقات الشخصية أو المصالح الحزبية.
ويُسجُّل له، بينما أُخِذَ عليه مِنْ قبل البعض، عدم إيمانه بتقاطع المصالح وبمبدأ «عدوّ عدوّي صديقي»، مع أن ذلك أمر شائعٌ ومقبول في العمل السياسي؛ فلم يساوم مع طرف على حساب آخر حتى لو كان ذلك الآخر خصماً سياسياً في مرحلة ما، وحتَّى لو كانت الصفقة المقترح عقدها تخدم مصلحته الشخصيَّة أو مصلحة حزبه.
ولأنَّه كان دائماً يتحلَّى بالشجاعة في مواجهة الذات، الفردية والجمعية، لم يتردد يوماً أو يتلعثم في إجراء المراجعات النقدية الضروريَّة لنفسه ولرفاقه ولعمل ومواقف حزبه (ذلك الحزب الذي انتمى إليه يافعاً وقاده شيخاً).. لغايات استخلاص العبر وتصحيح الأخطاء وتعديل المسارات كلّما لزم الأمر. وكان في كل مراجعاته يفترض احتمال الخطأ في رأيه والصواب في الرأي الآخر.
في شيخوخته المهيبة والأنيقة لم يتوقف يوماً عن الانشغال بآلام الناس والقلق على مآل البلاد ومصير الأجيال المقبلة. فكلما نظر إلى أبراج الخصخصة المتطاولة في العاصمة عمَّان وعلمَ بما يفعله النيو- ليبراليون في بلدنا، أرَّقه السؤال عمَّ إذا كان هؤلاء سيتركون لأحفادنا هواءً يستنشقونه أو أرضاً يقيمون عليها أو شمساً تطلع عليهم كلّ صباح.
بيد أن المآل الصادم والمفجع لحلم بدايات النضال بإنجاز الاستقلال الوطني وإسقاط الأحلاف المعادية للشعوب العربية، وتحقيق الحرية والديمقراطية والاشتراكية والوحدة وتحرير الأراضي المحتلة وإنهاء جميع اشكال استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، الذي كرَّس يعقوب زيادين حياته من أجل تحقيقه، والذي عبَّر عنه في كتابه الأول «البدايات»، لم ينجح في دفعه إلى اليأس من مشروعه التحرريّ الاشتراكيّ، أو التسليم بهزيمته والإقرار بـ «نهاية التاريخ» (أيقونة الدين النيو- ليبرالي). بل إنَّ حلم البدايات لا يزال يراوده كل ليلة، رافضاً أنْ تكون هذه المآلات الخائبة هي نهاياته. ومن هنا بالذات انتقى لكتابه الثاني عنوان «ليست النهايات».
ومن الجدير بالتنويه أن الجانب الوجداني والإنساني في شخصية يعقوب زيادين يشغل مساحة فسيحة في رحلة كفاحه المديدة والمريرة: فالإنسان المتحفز، المفعم بالكرامة والصدق فيه، ليس مِنْ طبعه أن يتوارى خلف المناضل لإخفاء هنة إنسانية أو خطأ سياسي أو نظري، كما أنَّ الوجدان الذي تفيض به نفسه يسبق السياسة والأيديولوجيا في العديد من مواقفه.
وما انفك يعقوب زيادين، بعد مرور كل هذه السنين وكلما نظر خلفه إلى الطريق البعيد الذي قطعه، يتساءل غير مصدًّق: كيف نشأ، أصلاً، حزب شيوعي في مجتمع فلاحي- بدوي في بلد صغير ليس فيه صناعة أو طبقة عاملة تُذكر؟ وكيف استمر هذا الحزب في ظل الكولونيالية البريطانية ثم الامبريالية الأميركيَّة وتحت قانون الأحكام العرفية، ولا سيما قانون مكافحة الشيوعية؟
لقد عاش يعقوب زيَّادين، كما ورد في التمهيد لكتابه الأخير «لو عادت بي الأيام»، حياة حافلة بالمفارقات، أخطأ فيها وأصاب، أخفق ونجح، أكل خبز الشعير الحاف والكافيار الطازج، نام على الحصير الوضيع في بيت الشعر وعلى السرير الوثير في الفنادق المنجَّمة، وحفرتْ الزنازين والسجون أخاديد في لحمه وعظمه، ولامَسَ هواءُ الحرية ونورُها هامَتَه. ومع ذلك، لو عادت به الأيام لسار على الطريق نفسه: «إن عادت عدنا» قال. ولكنه يعلم أن الأيام لن تعود به ولن يعود بها، اللهم إلا في شكل خبرة أو عبرة، فهذا من سنن الحياة ونواميس الكون وتصاريف الدهر، والتاريخ لا يعيد نفسه إلا كمهزلة لا يريدها؛ فيدعو إلى إفساح الطريق لخطى الشباب الواثقة ويحدوه الأمل نفسه، الذي وضع خطواته الأولى على ذلك الطريق قبل نحو سبعين عاماً، في أن يحملوا راية الحرية والتحرر الوطني والديمقراطية والاشتراكية ويمضوا بها إلى غايتها برؤى خلاقة وأساليب مبتكرة ومقاربات جديدة تلائم عصرهم المختلف، بغية اجتراح الحلول المختلفة لمعضلاته المختلفة.

وختاماً، آمل أن أكون قد وفيتُ، في هذه السطور، ببعض ما يستحقه المناضل الكبير الدكتور يعقوب زيادين وما يقتضيه تقديمه لقراء الحوار المتمدن بما يليق. ويجدر التنويه، هنا، بأنه نظراً لظروفه الصحية، فقد تطوَّعت الكاتبة والناشطة السياسيَّة الأردنية الدكتورة هدى فاخوري، مشكورةً، بإدارة الحوار بينه وبين القرّاء، وتفريغ إجاباته وتعليقاته الصوتية بعد تسجيلها.

أحمد جردات