السيد نصر الدين السيد - أكاديمي مصري مهتم بالشأن العام- حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: العلم والتنمية في الالفية الثالثة: منظور تطوري.


السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن - العدد: 4775 - 2015 / 4 / 12 - 22:04
المحور: مقابلات و حوارات     

 


من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -154 - سيكون مع الاستاذ السيد نصر الدين السيد - أكاديمي مصري مهتم بالشأن العام- حول: العلم والتنمية في الالفية الثالثة: منظور تطوري.

 

 

هل يعيد التاريخ نفسه؟

هل تشابه البدايات يعني بالضرورة تماثل النهايات؟

هل تؤثر الثقافة السائدة في المجتمع على عملية التنمية؟

هماهي اهم ملامح الثقافات الداعمة للتنمية؟

هل يمكن تغيير ثقافة مجتمع ما؟

لماذا تخلفنا وتقدم الآخرون؟

هذه بعض الأسئلة التي نطرحها على المشاركون في الحوار لنحاول سويا الإجابة عليها. الا اننا أيضا في انتظار أسئلتهم التي ستثري الحوار وستلقي الأضواء على ما غاب. والورقة التالية، بأقسامها الثلاث: الهدف والوسيلة والسياق، ما هي الا تمهيد وخلفية لحوارنا الذي نأمل ان يكون خلاق.

الهدف

"الرفاه" Wellbeing هو الهدف الرئيسي الذي يسعى لتحقيقه أي نظام سياسي يتولى إدارة شئون المجتمع أيا كانت مرجعيته. ومن ثم تتوقف شرعية أي نظام، وشرعية بقاءه في السلطة، على مدى نجاحه في تحقيق هذا الهدف في "عالم الشهادة" لا في "عالم الغيب".

و"الرفاه"، طبقا للمعاجم العربية كالمعجم الوسيط على سبيل المثال، هو "رغد العيش وسعة الرزق والخصب والنعيم". إلا أن مثل هذا التعريف، بكلماته الفضفاضة، لا يرضى "الفرنجة" من سكان الدول المتقدمة و"الكافرة" ...! ... سواء كانوا في أوروبا وأمريكا الشمالية أو كانوا من المتشبهين بهم والموالين لهم من سكان الدول الأسيوية الناهضة. فهؤلاء القوم تضبط أفعالهم "عقلانية الفعل" ويحكم ذهنيتهم منطق العلم ومبادئه وعلى رأسها مبدأ "مرجعية الواقع" لا "مرجعية النص". والمرجعية الأخيرة، "مرجعية النص"، هي تلك التي يتبناها تيار الإسلام السياسي بشتى طوائفه. وطبقا لهذه المرجعية تُقيَم الأفكار والأفعال بقدر موافقتها لتفسيرات وتخريجات الفقهاء لما جاءت به النصوص المقدسة لا طبقا لآثارها على الواقع الحي المعاش ومواءمتها له. ومن ناحية أخرى تتوقف صحة أي فكرة، طبقا لمبدأ "مرجعية الواقع"، على قدرتها على تفسير ما يدور في الواقع من أحداث، وعلى قدرتها على تغيير هذا الواقع لصالح الإنسان. وانطلاقا من هذا المبدأ فإن الحكم على صلاحية أي عقيدة، سياسية كانت أو غير سياسية، يقوم على قدر إسهامها في تعزيز رفاه الإنسان.

لذا شهد العقد الأخير ظهور العديد من تعريفات الرفاه التي تيسر من عملية قياسه مثل "المؤشر الكندي للرفاه" Canadian Index of Wellbeing، و"مؤشر الوحدة الأسترالية للرفاه"The Australian Unity Wellbeing Index، و"مؤشر حياة أفضل" Better Life Index الذي تبنته "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" (OECD) التي تضم 34 دولة أغلبها من الدول المتقدمة. وعلى الرغم من اختلاف العناصر المكونة لكل من هذه المؤشرات إلا أنها تتفق جميعا على أن قياس رفاه أي مجتمع لابد أن يأخذ في اعتباره كلا من مقوماته المادية (أو الاقتصادية) ومقوماته المعنوية (أو غير المادية).

الوسيلة

إذا كان "الرفاه" هو الهدف فان "التنمية" هي الوسيلة. و"التنمية"، طبقا لما جاء في اعلان الأمم المتحدة عن حق التنمية، الذي أعتمد ونشر في 4 يناير 1986م، هي: "عملية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية شاملة تستهدف التحسين المستمر لرفاهية السكان بأسرهم والأفراد جميعهم على أساس مشاركتهم، النشطة والحرة والهادفة في التنمية وفى التوزيع العادل للفوائد الناجمة عنها". وينطوي هذا التعريف على ثلاثة أبعاد يلقى فهمها الضوء على العلاقة المعقدة بين الثقافة والتنمية. وأولى هذه الأبعاد هو "الشمول" إذ أن للتنمية كـ "اسم" جوانب متعددة، اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، ومترابطة يؤثر كل منها على الجوانب الأخرى ويتأثر بها. أما البعد الثاني فهو "الديناميكية"، فالتنمية هي "فعل" دائم لا تشكل الأهداف التي حققتها في مرحلة سابقة نقطة النهاية لها بل تشكل نقطة البداية لفعل جديد يسعى لتحقيق أهداف جديدة. أما آخر هذه الأبعاد فيتعلق بخصائص العنصر الفاعل في عملية التنمية وهو كافة أفراد المجتمع اللذين يتوقف نجاح عملية التنمية على قدر قناعتهم بأهدافها وعلى قدر إسهاماتهم الفعالة في مختلف أنشطتها. وهنا تبرز أهمية الدور الذي تلعبه الثقافة، في تشكيل توجهات وسلوكيات وردود أفعال أفراد المجتمع الذي يتبناهما.

السياق

الثقافة

البعض يتعامل مع الثقافة من منظور ضيق فيعتبرها مجمل الإنتاج الأدبي والفني لأمة ما بشتى صوره من قصص وشعر وموسيقى ودراما وفنون تشكيلية. وهو منظور، بتركيزه على المنتجات الثقافية فقط وإغفاله لمرتكزاتها القيمية، يعتبر غير كاف لمن يرغب في إحداث نقلة نوعية في ثقافة مجتمع ما لتتواءم مع مستجدات العصر. ان أولئك الساعين للتغيير في حاجة إلى منظور أكثر شمولا وعمقا ينظر للثقافة بوصفها منظومة متكاملة تتشكل من ثلاثة مكونات. المكون الأول هو المنتجات الأدبية والفنية وكافة أنماط السلوك السائدة في المجتمع. وثاني هذه المكونات هي "منظومة القيم" التي تشكلها المعايير والأحكام التي يتبناها المجتمع وتحدد لأفراده ما ينبغي أن يكون، أو بعبارة أخرى السلوك القويم الذي يتوقعه المجتمع منهم. وآخر هذه المكونات هي "منظومة المسلمات" (او "الرؤية الكلية" Worldview)، التي تشكل الأساس الذي تقوم عليه وتنبثق منه المكونات الأخرى لمنظومة المجتمع الثقافية. وتتكون منظومة "الرؤية الكلية" من إجابات على مجموعات من الأسئلة الجوهرية المتعلقة بالعالم الذي يعيشون فيه (السيد, 2010). أسئلة من قبيل ماهي طبيعة العالم الذي نعيش فيه؟ كيف يعمل؟ ما طبيعة العلاقات بين الموجودات؟ من أين أتى العالم الذي نعيش فيه؟ لماذا اتخذ شكله الموجود عليه وليس شكلا آخر؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ أو ما مصيرنا؟ ما هو الخير؟ وما هو الشر؟ ماهي المعايير التي يمكن استخدامها لتحديد مدي "صدق" أحكامنا وتصوراتنا عن الواقع.

مصادر الرؤية الكلية

تستمد "الرؤى الكلية" لثقافات مجتمعات عالمنا المعاصر عناصرها من مصدرين رئيسيين هما "الدين" و"العلم". وعلى الرغم من الصعوبة الشديدة في إيجاد تعريف عام لمفهوم الدين إلا أن التعريف الذي قدمه دانيل دنيت Daniel Dennett، أستاذ الفلسفة بجامعة توفتس Tufts الأمريكية، يعتبر مناسبا لموضوع هذا الحوار. وطبقا لـ دنيت يعتبر الدين "منظومة اجتماعية يؤمن المنتمون إليها بوجود قوة، أو قوى، فوق طبيعية عليهم الالتزام بما تمليه عليهم" (Dennett, 2006) ص. 9). وفي العادة تتمثل إملاءات هذه القوة في نصوص أو أقوال يضفي عليها أصحاب الديانة صفة القداسة ويؤمنون بصحتها إيمانا مطلقا لا يقبل النقاش. وتتضمن هذه النصوص ردودا على كافة الأسئلة التي تحير الإنسان ولا يجد إجابة لها، وتقدم له توجيهات وأوامر صارمة لما ينبغي عليه القيام به من أفعال.

أما العلم، المصدر الرئيسي الثاني من مصادر الرؤية الشاملة، فتعرفه موسوعة ستانفورد للفلسفة بأنه "أي نشاط ممنهج ومنضبط يسعى وراء الحقائق المتعلقة بعالمنا ويتضمن قدرا كبيرا من الشواهد الإمبريقية" (Plantinga, 2008). ويقوم التفكير العلمي على ثلاثة ركائز هي:

1. الإمبريقية: وتعنى الاعتماد على الشواهد المحسوسة. فلا مكان في العلم للشواهد القائمة على السمع أو على العنعنات، ولا تلك القائمة على شهادة أفراد، ولا تلك القائمة على الإلهام أو العاطفة. بعبارة أخرى: "مرجعية الواقع".

2. العقلانية: وتعني استخدام العقل وملكاته وادواته، مثل أدوات التفكير المنطقي، في تحليل الشواهد الإمبريقية واستخلاص النتائج منها.

3. الشك: ويعنى خضوع المعرفة التي ينتجها العلم للنقد الدائم بهدف التأكد من صحتها ولتعديلها عند الضرورة. فالمعرفة العلمية هي تلك المعرفة القابلة لـ "التفنيد" Falsifiability وذلك طبقا لفيلسوف العلم الشهير كارل بوبر. ويكمن في هذه الركيزة سر قدرة منظومة العلم الدائمة على التطور والتنامي والتكيف وعلى التغلغل في شتى أمور حياة الإنسان.

العلم كمصدر

إن معدلات التغيرات غير المسبوقة التي يتميز بها واقعنا المعاصر (*) والتي يتعاظم ويتعمق تأثيرها على المجتمعات تتطلب منا، مجتمعا وأفراد، تبنى أداة ذهنية جديدة تساعدنا على التواكب معها. أداة ذهنية لا تعوق حركتها فروض مسبقة أو أحكام مقيدة، تستشعر الواقع المعاصر ومتغيراته وتسعى لإيجاد حلول لمشاكله مستمدة منه ومتوائمة مع ظروفه. أداة ذهنية تحترم عقل الإنسان وتقدس حريته في التفكير الخلاق. أداة ذهنية تتوفر لديها آلية للتصحيح الذاتي تجعلها قادرة عل المراجعة المستمرة لما تنتجه من معرفة والتكيف الدائم مع أحوال الواقع المتغيرة. ننظر حولنا فلا نجد منظومة ذهنية تتوفر فيها كل هذه الشروط سوى "منظومة العلم الحديث" بمرتكزاتها الثلاثة: "الإمبريقية"، "العقلانية" و"الشك". فمنذ ولادة منظومة العلم الحديث وهي تحقق إنجازات غير مسبوقة في تاريخ الإنسان. ولقد أثبتت هذه المنظومة فعاليتها في تغيير ظروف المجتمعات التي تبنتها كأساس لروئاها الكلية نحو الأفضل على كافة الأصعدة والمستويات.

وتوضح أية نظرة فاحصة لثقافات المجتمعات المتقدمة أن العلم هو المصدر الرئيسي لرؤاها الكلية، ومن ثم الأساس الذي ترتكز عليه منظومة القيم السائدة في تلك المجتمعات.

تطور منظومة العلم

تخضع منظومة العلم، شأنه في ذلك شأن أي منظومة بشرية، لقانون التطور. ولقد شهدت هذه المنظومة التي لم يتجاوز عمرها الخمسة قرون العديد من التحولات الجوهرية كان من أبرزهما وأبعدهما أثرا تحولان هما "التحول المنظومى" وظهور علوم المنظومات، و"التحول اللاخطى" وظهور علوم التعقد.

في البداية قامت منظومة العلم، في صورتها الأولى، على عدة مبادئ من أهمها "الاختزالية" Reductionism و"الحتمية" Determinism. وأول هذه المبادئ، "الاختزالية"، يقضى بأنه يمكن تبسيط دراسة أي شيء بـ "تفصيصهأو "تجزئتهإلى أجزاء منفصلة، أو مكونات، يسهل دراسة كل منها على حدة. وعلى الرغم من نجاح تطبيق هذا المبدأ في العديد من الحالات الا انه فشل في الكثير منها. ومن أبرز حالات فشل هذا المبدأ هو عجزه عن تفسير ظهور "الخصائص المستجَدة" Emergent Properties. و"الخصائص المستجَدة" هي تلك الصفات التي يتمتع بها الشيء ككل ولا تتمتع بها مكوناته. وخصائص جسم الإنسان كظاهرة بيولوجية لا يمكن فهمها باعتباره مكونا من 65% ماء و20% بروتين و12% دهون 3% مواد أخرى. وهنا ظهرت "المنظوماتية"System Approach بما جاءت به من مفاهيم ومناهج جديدة للنظر فى أحوال الواقع. وفي قلب هذه المفاهيم مفهوم "المنظومة" System، أو "الكل الذي تضيع منك خصائصه المميزة إن حاولت فهمه بتجزئته أو بتفصيصه". إنها هذا الشيء، أي شيء وبغض النظر عن طبيعة مكوناته، الذي يحقق المعادلة: "واحد زائد واحد أكبر من إثنين". وهكذا حدثت أولى التحولات الكبرى التي إنتقلت بالعلم من صورته الأولى إلى صورته الثانية "منظومة الفكر العلمى المنظومى" (او العلم الحديث فى صورته الثانية).

اما ثاني هذه المبادئ، "الحتمية"، فيعني إمكانية "التنبؤ" اليقيني بأحوال أي شيء طالما عرفنا أوضاعه الحالية (أو ما يعرف بالـ "الشروط الابتدائية" Initial Conditions) وبالقانون الحاكم لسلوكه. فالحالة الحاضرة (او الآنية) للشيء هي سبب حالته المستقبلية وهي نتيجة لحالته الماضية. او بعبارة أخرى يشبه تطبيق مبدا "الحتمية" انتاج فيلم سنيمائي عن أحوال الشيء إن أدرته للأمام انطلاقا من مشهد بعينه (الحاضر) تتوالى أمامك المشاهد اللاحقة للعمل الدرامي (المستقبل). أما إن أدرته للخلف ستتوالى أمامك الأحداث السابقة التي أدت إلى مشهد الانطلاق (الماضي). وهكذا تخضع الأشياء لمبدأ "التنبؤية الحتمية" Determined Predictability الذي يحولها الى مجرد اشياء آلية يمكن التحكم في سلوكها والتنبؤ بأفعالها وليس لها من خيار سوى ذلك الذي يسمح به القانون، قانون السبب والنتيجة، الذي يحكمها.

وقد جاءت أولى الضربات لمفهوم الحتمية هذا من ميكانيكا الكم وبالتحديد من "مبدأ اللاتيقن (أو الريبة)" Uncertainty Principle الذي اكتشفه العالم الألماني هيزنبرج (1901–1976) في عشرينات القرن العشرين. وهو المبدأ الذي يضع حدا أعلى لدقة ما يمكن للإنسان أن يلاحظه أو يقيسه وذلك بغض النظر عن مدى تعقد أو تقدم التكنولوجيات التي يستخدمها. فطبقا لهذا المبدأ أن مجرد عملية ملاحظة (أو مراقبة) الإنسان للواقع تؤثر على حالته ومن ثم على ما تتم مشاهدته وتسجيله. وهكذا يصبح التحديد الدقيق للأوضاع الحالية لأي شيء من الأمور المستبعدة ويخرج تنبؤنا بأحواله اللاحقة من خانة "اليقين" الى خانة "الاحتمالات". ويكتمل الهجوم على مبدأ "الحتمية" في الثلث الأخير من القرن العشرين باكتشاف العلماء لـ "المنظومات الكيوتية" Chaotic Systems. وهي المنظومات التي لا يمكن التنبؤ بأحوالها المستقبلية على الرغم من معرفتنا بالقانون الذي يحكم سلوكها وذلك مثل منظومة الأحوال الجوية. وعلى الرغم من العشوائية واللاترتيب اللذان قد يبدوان على سلوكها الظاهرى، إلا أنهما ينطويان على نظام، أو أنساق مرتبة، يمكن إكتشافها ووصفها بدقة. وهذا الإمتزاج بين العشوائية والنظام هو مايميز المنظومات الكيوتية عن المنظومات العشوائية التى لاتعرف أى نوع من أنواع الترتيب والنظام، وعن المنظومات المرتبة (أو المجبرة) التى يمكن التنبؤ اليقينى بسلوكها.

وقد لاحظ العلماء ان هناك مجموعة من الصفات التي تميز هذه المنظومات ومن اهمها "التوقف الحساس على الشروط الابتدائية" والـ "لا خطية" Nonlinearity. ويعنى "التوقف الحساس على الشروط الابتدائية" أن أي تغير طفيف في قيم الشروط الابتدائية، وأيا كان صغر قدره، سيؤدى إلى نتائج غير متوقعة وأن قدر الاختلاف بين ما هو متوقع وما هو غير متوقع هائل ولا يتناسب مع قدر التغير الطفيف في قيم الشروط الابتدائية. وترتبط هذا الخاصية بالخاصية الثانية، للا خطية"، التي تعني غيبة التناسب بين الأسباب والنتائج فتغير ضئيل في مقدار سبب ما قد تنشأ عنه نتائج غير مأخوذة في الحسبان. ولعل أبرز امثلة اللا خطية هي ما نعاني منه جمعيا من عدم تناسب الزيادة في المرتبات مع الزيادة في الأسعار.

وبتحجيم الدور الذي يلعبه تاثير كلا من مبدأي "الاختزالية" و"الحتمية" على الفكر العلمي تشكلت "منظومة الفكر العلمى اللاخطى" (أو العلم الحديث فى صورته الثالثة). وهي منظومة تقوم على نظرة علمية جديدة لأحوال كلا من الواقع الطبيعي والواقع الاجتماعي. نظرة تهتم باحوال المنظومات وهي في حالة الغليان والفوران والتغير والتبدل، أي بأحوالها وهي "بعيدة عن وضع الاتزان (أو الاستقرار)". ولقد انعكست هذه التحولات التي شهدتها منظومة العلم على "الرؤية الكلية" المرتكزة على العلم.

فعلى سبيل المثال بينت "نظرية النسبية الخاصة"، التي ظهرت سنة 1905م على أيدي العالم الألماني ألبرت اينشتين، ارتباط ما يشاهده انسان في لحظة معينة وفى مكان محدد ارتباطا وثيقا بحركة المشاهد نفسه. فما يشاهده الانسان وهو في حالة الحركة يختلف عما يراه وهو في حالة السكون، او "ذاتية المشاهدة". وهكذا وضع هذا اكتشاف الأساس العلمي لمبدأ "تعدد الرؤى الصحيحة لنفس الموضوع". وبهذا يكون كلا من "مبدأ اللاتيقن" مع مبدأ "ذاتية المشاهدة"، الذي جاءت به نظرية النسبية الخاصة، قد ألقيا شكوكا قوية على مدى صحة مبدأ "الموضوعية المطلقة"، او الفصل الصارم للذات المشاهِدة عن الموضوع المشَاهد. وهكذا حلت صورة "الإنسان المشارك" والمؤثر في أحداث الواقع محل صورة "الإنسان المشَاهد" الذي يقتصر دوره على مجرد المشاهدة والقياس.

كما أدى إنشاء علم "السيبرنيطيقا" Cybernetic، الذي يهتم بدراسة التحكم والاتصال في الكائنات الحية والكيانات الاجتماعية والآلات، في نهاية أربعينات القرن العشرين والقوانين التي اكتشفها وعلى رأسها "قانون آشبى للتنوع اللازم"، إلى التأكيد على أنه بقدر تنوع الأفكار التي ينتجها الإنسان وبقدر أصالتها وجدتها بقدر ما يتمكن هذا الإنسان من السيطرة على مقدرات واقعه ومن تطويع هذا الواقع لصالحه. وبالمثل أدى اكتشاف القوانين التي تحكم سلوك "المنظومات الفيزيائية ذاتية التنظيم" Physical Self-Organizing Systems، والتي يتخلق فيها الانتظام ذاتيا وبدون أي تدخل من خارجها، في سبعينات القرن العشرين إلى التأكيد على عدة أمور. وأول هذه الأمور تأكيدها على "استقلالية" المجتمع وأفراده كشرط من شروط التقدم بما يعنيه هذا الشرط من ضرورة تحرر المجتمع من كافة أشكال "الوصاية الخارجية" على سلوكها وسلوك أفراد المجتمع سواء تمثلت هذه الوصاية على هيئة نتاج فكرى لمرحلة تاريخية بعينها أو على هيئة مسلمات عامة جردت من السياق الذي أنتجها. أما الأمر الثاني فهو تأكيدها على الدور الذي تلعبه "اللامركزية"، المتمثلة في ضرورة إشراك كافة أفراد المجتمع في كل قرار وفعل متعلق بتنمية المجتمع، في تطوير المجتمعات. كما تعلمنا علوم "الانتظام الذاتي" أن "الغد هو الأفضل دائما" فقد بينت دراستها للمنظومات المعقدة، المادية والاجتماعية، أن تلك المنظومات تفرز بمرور الزمن أشكالا وبنى جديدة أكثر رقيا وحداثة من سابقتها وأن أحوالها ترتقي دوما من أوضاع بسيطة وساذجة إلى أوضاع أكثر تعقيدا وتطورا. ونكتفي بهذه الأمثلة لضيق المجال.

 

(*) إن معدلات التغيير خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين تبلغ خمسة أضعاف متوسط معدلات التغيير في القرن العشرين

المراجع

Dennett, D. 2006. Breaking the Spell: Religion as a Natural Phenomenon. New York: Penguin Books.

Plantinga, A. 2008. Religion and Science. In E. N. Zalta (Ed.), The Stanford Encyclopedia of Philosophy: http://plato.stanford.edu/archives/win2008/entries/religion-science.

السيد, ا. ن. 2010. ثقافتنا المعاصرة: التحديث أو الكارثة (قراءة نقدية لثقافة المصريين في القرن الواحد والعشرين). القاهرة: دار المحروسة.