تقلص المكان وانضغاط الزمان


السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن - العدد: 5850 - 2018 / 4 / 19 - 11:22
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

تتعدد تعريفات مفهوم "التكنولوجيا" فالبعض ينظر لها كـ "منتج" يلبي احتياجات الانسان ويعمل تيسير حياته. والامثلة عديدة بدءا وسائل النقل وإنتهاءا بالأدوات المنزلية. والبعض الآخر ينظر للتكنولوجيا كـ "عملية" ترتكز على أسس علمية ويستخدمها الانسان لتطويع الطبيعة وتعديلها لتفي باحتياجاته. والتكنولوجيا، سواء اعتبرتها منتج أو اعتبرتها عملية، هي في النهاية من صنع الانسان الا انها أيضا تؤثر على صانعها. فشيوع استخدامها يؤثر على سلوكيات مستخدميها وعلى أفكارهم وعلى تنظيماتهم الاجتماعية. ولعل أثر التكنولوجيا على طبيعة إدراك وإحساس الإنسان بكلا من "المكان" و"الزمان" يعتبر واحدا من أهم هذه الآثار.

و"المكان" هو ذلك الحيز من الفضاء الجغرافي الذي يعيش الانسان فيه ويمارس أنشطته. ويتوقف إدراك الانسان وإحساسه بخصائص المكان، سواء كانت هذه الخصائص تتعلق باتساعه أو تتعلق بتقارب الأمكنة، على سرعة وسائل الموصلات المتاحة. فعلى سبيل المثال أدت زيادة سرعة وسائل المواصلات من حوالي 18 كم/س (متوسط سرعة العربات التي تجرها الخيول أو القوارب الشراعية) سنة 1500 إلى 1126 كم/س (متوسط سرعة الطائرات) في الستينات إلى تقليص الحجم الظاهري للعالم كما يستشعره الإنسان حوالي السبعين مرة، أو "تقلص المكان". وهكذا لم يعد تباعد الأمكنة يشكل عقبة أمام تدفق البشر أو السلع نتيجة لتطور وسائل النقل وزيادة سرعتها. وهو التطور الذي قلل من زمن الانتقال من مكان لآخر بشكل غير مسبوق في تاريخ الإنسان.

أما إدراك وإحساس الإنسان بـ "الزمن" فهو أكثر تعقيدا من إحساسه بـ "المكان" لتوقفه على العديد من العوامل المتداخلة. فهو من ناحية يتوقف على ما يشاهده الإنسان من تعاقب للأحداث، سواء كانت طبيعية كشروق وغروب الشمس، أو إنسانية كالتقدم في العمر وما يصاحب هذا التقدم من تغيرات في هيئة جسمه. وهو من ناحية أخرى يتوقف على الثقافة السائدة في المجتمع الذي يعيش فيه. كما يتوقف إدراك الإنسان لسرعة أو إيقاع الزمن على عدد ما يشهده من أحداث ومستجدات خلال فترة زمنية محددة.

وكما تتوقف طبيعة إحساس الإنسان بالمكان على سرعة وسائل المواصلات السائدة يتوقف إحساسه بـ "الزمن" على التكنولوجيات المستخدمة في قياسه. فعلى سبيل المثال قبل ظهور الساعات الميكانيكية في منتصف القرن الرابع عشر كان قياس الوقت يعتمد على الظواهر الطبيعية كحركة الشمس في السماء ويقوم على استخدام تقنية بسيطة تمثلت في الساعة الشمسية. وقد أدى اختراع الساعة الميكانيكية إلى انفصال تحديد الوقت عن الظواهر الطبيعية من ناحية، وإلى ميلاد وحدات صغيرة لقياسه كالدقيقة والثانية التي لم يكن لهما وجود قبل ذلك من ناحية أخرى. ولم يتوقف أثر هذه التكنولوجيا الجديدة، الساعة الميكانيكية، على هذا فقط بل امتد أثرها إلى كيفية تنظيم المجتمع الإنساني ذاته. وبالمثل أدت "تكنولوجيا المعلومات والاتصالات"، بما قدمته من قدرة على تشبيك الكمبيوترات أيا كان موقعها عبر شبكة الإنترنت، إلى تغيرات جوهرية في طبيعة إحساس الإنسان بالزمن. ولزمن الشبكة، شبكة الإنترنت، خصائص تختلف اختلافا جوهريا عن الزمن الذي تحكم إيقاعاته الساعات الميكانيكية بشتى صورها. وأول هذه الخصائص هو النتيجة الطبيعية لكون الشبكة لا تتوقف عن العمل في أي لحظة مما أدى إلى تلاشى إحساس الإنسان بفروق التوقيت. كما أدت السرعة الفائقة لمكوناتها، التي تقاس بالـ "نانو" والـ "بيكو" ثانية (*)، إلى تقليص "الفترة" Duration اللازمة لأداء الأعمال ومن ثم إلى تزايد إحساس الإنسان بـ "آنية" وقوع الأحداث. أي أن زمن الشبكة يمكن النظر إليه بوصفه زمن الساعة "المضغوط"، أو "انضغاط الزمان".

وهكذا ظهر مصطلح "انضغاط الزمان والمكان" Time-Space Compression الذي سكه عالم الجغرافيا دافيد هارفى ليعني به الآثار التي أحدثتها تكنولوجيات الاتصالات (تليفون، فاكس، كومبيوتر، إنترنت) والمواصلات (قطارات، سيارات، طائرات نفاثة) في تسريع إيقاع الأحداث وفى تقليص المسافات زمنية كانت أو مكانية وأسفرت عن ظاهرة التكاثر غير المسبوق لعدد الأحداث التي يشهدها الإنسان في حياته، بالمقارنة مع أسلافه.

ومعدل "انضغاط الزمان والمكان" هو امر يمكن حسابه بطريقة بسيطة. فعلى سبيل المثال تستغرق رحلة الطائرة من القاهرة الي مكة حوالي ساعتين و23 دقيقة. وفي أوائل القرن العشرين وبالتحديد سنة 1900 كانت هذه الرحلة تستغرق 166 ساعة موزعة كالاتي:
 7 ساعات رحلة القطار من القاهرة الى السويس
 67 ساعة رحلة الباخرة من السويس الى جدة
 46 ساعة من جدة الى المدينة على ظهور الإبل (سرعة الإبل 9.6 كم/س)
 46 ساعة من المدينة الى مكة على ظهور الإبل
أي ان قدر النقص في زمن الرحلة يساوي 164 ساعة (زمن الرحلة سنة 1900 – زمن الرحلة سنة 2016). وبقسمة هذا الرقم على عدد السنوات بين الرحلتين (116 سنة) نحصل على معدل الانضغاط وهو 1.4 ساعة في السنة.

وقد اسهمت هذه الظاهرة في تعزيز العديد من التوجهات الاقتصادية مثل سعى الكيانات الاقتصادية إلى تخطى الحواجز المكانية والعمل على مد أنشطتها خارج دولة المنشأ، وتسريع دورة إنتاج السلع المستحدثة، واختصار دورة رأس المال.