بهاءالدين نوري - سياسي وكاتب واحد ابرز وأقدم قادة الحركة الشيوعية في العراق - في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: الوضع في العراق، ومسألة انفصال الشعب الكردي، واليسار وافاقه.


بهاءالدين نوري
الحوار المتمدن - العدد: 4594 - 2014 / 10 / 5 - 17:04
المحور: مقابلات و حوارات     

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -140 - سيكون مع الأستاذ بهاءالدين نوري - سياسي وكاتب واحد ابرز واقدم قادة الحركة الشيوعية في العراق - حول:  الوضع في العراق، ومسألة انفصال الشعب الكردي، واليسار وافاقه.



الاوضاع في العراق

اصبح الوضع في العراق بالغ التعقيد في السنوات الخمس والثلاثين الاخيرة من حكم صدام الدكتاتوري الفردي الطائفي – القبلي.
وازداد التعقيد عندما وقع الشيوعيون في فخ ما سمي بالجبهة الوطنية بين صدام والشيوعيين الذين زعموا بأن صدام سيصبح كاسترو العراق.
وتعقد اكثر عندما تشتت القوى الرئيسية الفاعلة في الساحة وهي الحركة القومية الكردية التحررية والحزب الشيوعي الذي تمكن صدام من تحطيمه عبر التحالف معه، فيما حطم الصراع الدموي الداخلي بين الحزبين الكرديين الرئيسيين القوى الكردية وشل قدراتهما على خوض النضال ضد النظام البعثي، والتدخل المستمر للدول المجاورة هو الآخر زاد من تعقيدات المسألة.
* * *
كان مجيء القوات الاميركية وحلفائها لاسقاط صدام انفراجا للعراقيين، وتنفيذا لمهمة لم تكن المعارضة العراقية قادرة على تنفيذها. حرر ذلك العراق من اكبر كابوس في تاريخ هذا البلد. لكن تطورات ما بعد الاسقاط عقدت الوضع اكثر: فالاميركيون تصرفوا بشكل خاطئ ورفضوا كل دعم للقوى الديمقراطية ولم يساعدوهم حتى في اصدار جريدة. انهم اكدوا مرة اخرى ما قاله تشرشل قبل اكثر من سبعين عاما: "لم يهتد الاميركيون الى طريق الصواب الا بعد ان يجربوا جميع الطرق الخاطئة". وبقيت الساحة خالية من تواجد القوى الديمقراطية وظلت القوى الاسلامية والقومية الطائفية هي المسيطرة. ولم يفلح اياد علاوي في تكوين معارضة برلمانية ديمقراطية حقيقية، بل لم يرد ذلك اصلا.
* * *
اساء نوري المالكي كثيرا الى العراق في السنوات التسع من رئاسته للحكومة العراقية، ومارس سياسة طائفية دكتاتورية. وهو المسؤول الاول عن تمزق العراق وانتصار ارهابيي داعش، وبدلا من المحاكمة والمعاقبة يتربع الآن في منصب نائب رئيس الجمهورية. وهذا مؤشر سيء يضع اكثر من علامة استفهام على وضع العراق الذي لايزال يحكمه الاسلاميون - الطائفيون من الشيعة والسنة.
لابد من الاشارة هنا الى ان زعماء السنة العرب، وهم الذين تعودوا على ان يكونوا في المركز القيادي من التشكيلة الحاكمة عبر القرون المتعاقبة من تاريخ هذه البلاد رغم انهم كانوا اقلية السكان، لم يكونوا عنصر الانسجام في الساحة العراقية لانهم ظلوا يحلمون بالعودة الى مكانتهم السابقة ويسعون لنيلها.
على ان نقطة الضعف الرئيسية في البلاد كانت غياب الديمقراطية، ومن هذه الثغرة بالذات بدأت المشاكل تمتد وتستفحل، ولا اتوقع حلا سريعا للمشاكل الناجمة عن غياب الديمقراطية، لأن الاحزاب الاسلامية الحاكمة من الشيعة والسنة أُسست منذ البداية على اساس قومي – طائفي، وهي لا تؤمن بالديمقراطية وان اضطرت على تقبل هوامش منها على مضض بسبب لون من التواجد الاميركي في العراق. والدعم الايراني للاحزاب الاسلامية الشيعية والدعم الخليجي للاحزاب السنية، وعلاقات ايران وتركيا كل مع احد الحزبين الحاكمين في الاقليم لم يبشر بخير، يضاف الى ذلك ان العراق لا يملك تاريخيا تقاليد ديمقراطية في حياته السياسية، بل ورث العنف من نبوخذ نصر وحتى صدام.
ورغم ان كردستان العراق اعتبرت واحة من الديمقراطية مقارنة مع القسم العربي الخاضع لسيطرة صدام، الا ان الديمقراطية الحقيقية ظلت مؤفلجة في هذا الاقليم ايضا بسبب استمرار اقتتال الاخوة حتى بعد انتفاضة 1991 وتخلص الاقليم من ربقة الدكتاتورية. وقسم الحزبان الحاكمان، الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة السيد جلال الطالباني والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة السيد مسعود البارزاني، الاقليم الى دويلتين جغرافيا وعسكريا وسياسيا وماليا واداريا، كان لكل منهما رئيس وزرائه وقوته المسلحة وماليته الخاصة. والتوحيد الذي جرى بعد سقوط صدام في 2003 كان صوريا وشمل القشور وليس المحتوى، وبقي حتى الآن لون من الحرب والصراع العنيف السري والعلني، الأمر الذي اثر تأثيرا سلبيا كبيرا على دور الاقليم في التأثير على العراق، بل على قضية الشعب الكردي نفسه. ومن الصعب ان يتصور المرء ان الجيل الحالي من المتخاصمين يتوصل الى مصالحة حقيقية مستقرة تزيل الآثار السلبية المخلفة من الاقتتال والانقسام.
ودول الجوار كانت على الدوام مصدرا لتعقيد الاوضاع والمشاكل في العراق، لأنها ترى من مصلحتها ان تجعل من وضع العراق، وبالاخص وضع اقليم كردستان، ورقة تمسك بها في اللعبة السياسية، وهي تجد على الدوام وفي كلا القسمين الكردي والعربي اناسا مستعدين للاستجابة والتعاون معها.
ان العراق تخلص من كابوس نوري المالكي شخصيا، ولكنه لم يتخلص للآن من التركة الثقيلة التي خلفها المالكي. والطريق امام رئيس الوزراء الجديد، العبادي، ليس معبدا. وهو معرض للفشل اذا لم يتفهم تعقيدات الوضع وتقاسم السلطة بشكل صحيح على الشيعة والسنة والكرد، اي مراعاة المحاصصة الطائفية التي بني عليها النظام الحاكم بسبب غياب الديمقراطية. ان سياسة العبادي تواجه امتحانا صعبا وسوف تنتهي الى الاخفاق اذا لم يفلح في ايجاد الحد الادنى الضروري من الانسجام بين الاطراف الرئيسية من اللاعبين في الساحة السياسية لتحرير العراق من الارهابيين ولارضاء الاطراف الرئيسية بالاستجابة لحقوقها المشروعة، وارضاء الاقليات القومية والدينية والطائفية. وليس من المطلوب من اي حكومة ان تدخل في نزاعات ومشاكل مع الدول المجاورة، بل المطلوب هو اقامة علاقات التعاون الاخوي من مختلف النواحي، بما في ذلك التضامن ضد الارهاب. لكن من المطلوب ومن الواجب الوطني ان ترفض الحكومة العراقية، ايا كان رئيسها، كل اشكال التدخل من الدول الاخرى، مجاورة كانت او غير مجاورة.
امام العبادي فرصة للنجاح في مهمته اذا رفض الضغوطات الطائفية والاجنبية التي تمارس عليه وتصرف بتعقل ودراية، فهل سيكون كذلك؟ لننتظر

.
* * *
هل من مصلحة الكرد ان ينفصلوا عن العراق؟


منذ 2012 شهدت العلاقات بين بغداد واربيل توترا شديدا ومناكدة اعلامية ولونا من التهديدات المتبادلة بين السيدين رئيس الوزراء العراقي المالكي ورئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني، وعرض الاخير مسألة اجراء استفتاء في الاقليم لغرض الانفصال عن العراق واقامة دولة كردية مستقلة كهدف آني مطروح على جدول العمل. وتراءى لكثيرين ان هذا الاستفتاء سيجرى في غضون اسابيع أو اشهر قليلة، خاصة بعد تكرار الحديث حوله مرارا. ثم بردت الاعصاب تدريجيا واختفى الحديث عن الاستفتاء. لكن المسألة لاتزال باقية في اذهان الكثيرين خصوصا من الشباب ذوي الميول القومية، الذين كانوا وسيظلون يحلمون بالدولة الكردية. فما الذي يمنع قيام دولة كردية مستقلة في حدود كردستان العراق؟ أليس هذا المطلب عادلا ومتوافقا مع ميثاق الامم المتحدة؟ أليس الكرد هنا امة ولها وطنها وحقها في اقامة كيان قومي خاص بها؟
نعم ان مطلب الانفصال والاستقلال عادل وحلال شأن حليب الام لرضيعها، لكن العراقيل تأتي من الظروف الجيوبوليتيكية لكردستان، أي انقسام الاكراد شعبا وارضا بين دول اربع لا ترحم بالشعب الكردي عندما يطالب بحقه في تقرير المصير. فالظروف الجيوبوليتيكية هذه اوجدت خللا كبيرا في توازن القوى لصالح المسيطرين على كردستان وجمعت بين مصالحهم المشتركة ضد اي محاولة يقوم بها الكرد للحصول على حقوقهم القومية المشروعة.
فالسؤال هنا ليس عن عدالة هذه الحقوق او عدم عدالتها، بل عن الطريق الذي يؤدي الى نيل هذه الحقوق: هل يمكن استحصالها بنضال سلمي ديمقراطي وعبر استفتاء نزيه يقبل الجميع نتائجه كما حدث في سلوفاكيا بعد انهيار النظام السوفيتي وفي الجبل الاسود بعد انهيار النظام اليوغوسلافي وفي مقاطعة كيوبيك بكندا وفي جنوب السودان وفي اسكتلندة ببريطانيا.. الخ. ففي هذه البلدان (وكلها انظمة ديمقراطية باستثناء السودان التي تصرف حاكمها عمر البشير بتعقل) انظمة ديمقراطية وأُخذ فيها بنتائج الاستفتاء، لكن الوضع في البلدان الاربع المقسمة بينها كردستان يختلف عن ذلك، فالشوفينية والتنكر لحقوق الكرد هي السمة المميزة لحكام هذه البلدان. ففي سوريا تتربع على كرسي الحكم زمرة طائفية فاشية استولت على السلطة عبر انقلاب عسكري منذ نصف قرن، وهي تنكرت لأبسط الحقوق الديمقراطية لكل السوريين، بمن فيهم العرب، وهي لاتزال تتعامل مع ابناء سوريا كلهم بالقاء البراميل المتفجرة يوميا على حشود المسالمين في المدن والقصبات.. فهل يمكن الحديث مع دمشق عن الطريق السلمي والاستفتاء النزيه للحصول على تقرير المصير؟ وفي ايران فُرضت الاقامة الجبرية على زعماء الحركة الاسلامية من التيار الاصلاحي منذ اعوام لمجرد انهم جازفوا بترشيح انفسهم في الانتخابات دون ان يكونوا قد ارتكبوا جريمة. وفي العراق يعرف الجميع ما فعله المالكي بالبلاد ابان سني حكمه واية نزعة كانت لديه نحو الدكتاتورية الفردية! واذا كان النظام الاسلامي في تركيا قد هجر النهج الكمالي الشوفيني او خفف منه وغير اسلوب التعامل مع الاكراد بأمل تعزيز شعبية الحزب الحاكم وتسهيل الانضمام الى الاتحاد الاوروبي، فإن ذلك لم يتجاوز حدود الوعود ولم يعط اردوغان للشعب الكردي شيئا جديا من حقوقه القومية حتى الآن ولم يطلق سراح عبدالله اوجلان.
فعن اي استفتاء يمكن الحديث حاليا واية حكومة من الحكومات الاربع تقبل الاستفتاء؟ أليس الاستفتاء دون اتفاق الطرفين اعلانا للحرب؟ وهل الظرف مؤات لمثل هذا الاعلان؟
امامنا تجارب الثورات الكردية المتعاقبة، ثورة شيخ سعيد بيران وثورة الشيخ الحفيد وحكومته في السليمانية، وثورة بارزان وثورة جمهورية مهاباد، واخيرا ثورة ايلول في كردستان العراق ومن ثم ثورة جديدة بعد انتكاسة 1975 وثورة جديدة في كردستان ايران بعد سقوط الشاه. بماذا انتهت هذه الثورات؟ ألم تنته كلها الى الاخفاق باستثناء ثورة كردستان العراق التي حققت لونا من الانتصار بفضل حماقة الطاغية التكريتي واحتلاله للكويت بعد توقف الحرب مع ايران، وبعد ان آلت الثورة الى نكسة جديدة عميقة في 1988 ولم تنبعث فيها الحياة الا بعد تحرير الكويت. يضاف الى ذلك ان الدنيا قد تغيرت في ظروف تقدم العولمة الى هذه الدرجة الكبيرة.
ولنتحدث بصراحة اكثر، حق الانفصال واقامة الدولة المستقلة لا غبار عليه بالطبع، فالشعب الكردي يستحق هذا الحق وليس من حق الاخوة العرب أن يتوتروا بمجرد الاستماع الى كلمة "الانفصال". عليهم ان يتخذوا موقفا حضاريا ويتصرفوا بروح العصر، ويفكروا مليا في مطالبة اخوتهم الكرد بتقرير المصير، وأن يتساءلوا: لماذا يحق للعرب ان يطالبوا بحق تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني ولا يحق للأكراد ان يطالبوا بهذا الحق لأنفسهم؟ لماذا يحق للبحرين البالغة مساحتها 600 كم2 نفوسها – قبل سنوات – 250 الف فقط، ولجيبوتي ودويلات اخرى كثيرة ان تقيم لنفسها كيانات مستقلة ولا يحق لاكراد العراق بملايينهم من البشر ومساحتهم الشاسعة ان يؤسسوا لأنفسهم دولة مستقلة؟
لاشك في عدالة حق الانفصال، ولكن متى يمكن الانفصال؟ عندما كان البارزاني يكرر التصريح وراء التصريح عن تصميمه على الاستفتاء، وفي ظروف التوتر الشديد مع المالكي، وفي غياب اي اتفاق مع الطرف المقابل (العربي) فإن ذلك كان يوحي بأن هذه التصريحات تأتي من منطلق القوة ومن الاعتماد على التشكيلات المسلحة لدى البارتي. لكن الاحداث كشفت عن شيء مغاير. فالقوات المعتمد عليها في حماية سنجار وزمار ومخمور وكوير وتلكيف وتلسقف.. الخ اصيبوا بالذعر وهربوا جميعا من مواقعهم دون اطلاق رصاصة واحدة تاركين اعدادا كبيرة من الاكراد وغير الاكراد في بيوتهم تحت رحمة الارهابيين. ومضت مدة طويلة وانطلقت طائرات التحالف في غارات متواصلة وقدمت اسلحة جديدة الى البيشمركه، وسنجار لاتزال تحت ايدي الارهابيين.. أبالاعتماد على هذه القوات كنتم تريدون الانفصال، ايها الاخوة!!؟
ان زمن اللجوء الى العنف والقتال في العراق لاستحصال حق تقرير المصير للكرد قد ولى وحل زمن الحوار والتفاوض واللجوء الى الامم المتحدة والى محكمة العدل الدولية والتحكيم. وعن هذا الطريق، ليس طريق العودة الى العنف وسفك الدماء وتكرار مآسي السلاح الكيمياوي والانفال واشاعة الدمار والمقابر الجماعية. يمكن في ظروف العولمة الحصول على حق تقرير المصير عبر الحوار والتفاوض بين الاطراف المعنية، بل ان ذلك ممكن ومحتم لأن المطلب عادل تدعمه UN والرأي العام الدولي والقانون الدولي. واذا لم يكن الوضع في العراق ملائما اليوم لنيل هذا الحق، فإن المسألة هي مسألة وقت لا أكثر، مسألة قدر اوفر من التطور الديمقراطي، ففي ظل الديمقراطية لن يكون هناك عائق في طريق الاستفتاء النزيه، كما جرى في الامس القريب في اسكتلندة.
وليس الانفصال وحده تقريرا للمصير، ومن المحتمل ان يختار الشعب الكردي الاتحاد الاخوي مع الشعب العربي في العراق كما اتحدت امم ثلاث في دولة فيدرالية بسويسرا، ويتوقف ذلك على سلوك ومواقف الطرف الآخر، العربي، تجاه الكرد، منذ الآن وفي الفترة اللاحقة.
 

* * *
الموضوع الثالث المطروح في الحوار: اليسار
انني نشرت قبل ايام مقالا طويلا او بحثا موجزا في موقع (الحوار المتمدن)، واكتفي بما نشرت ولا انشر هنا شيئا آخر، وانا على استعداد لمناقشة ما نشرته.
وشكرا لمن يقرأ هذه الكلمات ويساهم في الحوار.
وشكرا للحوار المتمدن الذي اتاح لنا فرصة النشر والحوار في صحيفته الالكترونية.