من اين بدأت الثورة المصرية والى اين تسير؟


بهاءالدين نوري
الحوار المتمدن - العدد: 3972 - 2013 / 1 / 14 - 22:00
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

اذا ما رجعنا الى سنة 1952، فإن ما حدث في يوليو كان خليطا من الثورة ومن الانقلاب العسكري، اذ فريق من العسكريين الى الحكم عن طريق انقلاب عسكري فوقاني وليس عن طريق انتفاضة شعبية، ولا عن طريق حركة ثورية شعبية مسلحة، ولا عن طريق ديمقراطي سلمي عبر صناديق الانتخابات. ولكن الانقلاب ازاح النظام الملكي الذي كان على ارتباط وثيق بالدول الاستعمارية وبالقوى الرجعية العائقة امام تقدم مصر وتحرره من السيطرة الاستعمارية. وتجلى ذلك بوضوح في اقدام حكومة عبدالناصر على تأميم قناة السويس، الذي كان في 1956 عملا وطنيا جريئا وغير مسبوق في العالم العربي واثار غضب الدول الاستعمارية لدرجة دفعت الدولتين الاستعماريتين بريطانيا وفرنسا مع حكام اسرائيل على شن العدوان الثلاثي ضد النظام الناصري. واقترن ذلك بنهوض عارم لحركة التحرر الوطني الجماهيرية في العالم العربي، مما اكد الدور الريادي لمصر.
بيد ان نكسة عبدالناصر في حرب حزيران 1967 ومن ثم وفاته، كانت نهاية لذلك الدور الريادي واقترن تسلم السادات لرئاسة مصر بعودة الوضع الى الوراء. وخلال ثلاثين عاما من حكم حسني مبارك لم يشاهد المصريون في ظل حكم الضابط مبارك سوى نظام روتيني بيروقراطي غارق في الفساد والتخلف ورافض لمنح الحرية والديمقراطية للناس وعاجز عن توفير الحد الادنى من مقومات العيش الكريم لمواطنيه.. الخ في عصرالعولمة والانترنت وغزو الفضاء الخارجي وتنامي وعي الشبيبة. كان مبارك منهمكا في العمل، لا على حل مشاكل شعبه، بل على ضمان توريث الرئاسة لأبنائه، لاقامة جمهورية – ملكية! فكان من الطبيعي ان يقتدي الشبان المصريون بشبان جارتهم تونس ويثوروا كما ثار هؤلاء في البلد الجار.
وفي ظروف انعدام الديمقراطية والحرية السياسية طوال العهود المتلاحقة، لم يكن هناك، عند بدء الثورة الشبابية، تنظيم سياسي حائز على ثقة الجماهير وقادر على الاضطلاع بقيادة وتوجيه العملية الثورية، ولم يكن لدى الشبيبة الثائرة تنظيمهم الخاص، حتى ولا التنظيم النقابي، وكانوا يفتقرون الى التجربة السياسية، الأمر الذي كان يشكل نقطة ضعف بارزة في ثورتهم. وقد امكن لحركة الاخوان المسلمين في كل من تونس ومصر أن تتسلل عبر نقطة الضعف هذه وتسرق الثورة التي لم تكن من صنعها، بل لم تكن هي مشاركة فيها الا بعد بدئها بأيام. وكان من المحتمل ان يحدث الشيء نفسه في ليبيا لو لم يتشكل مجلس قيادي ابان الاحتجاجات بزعامة مصطفى عبدالجليل ولو لم ينشط في الوقت المناسب عدد من السياسيين العلمانيين من امثال محمود جبريل لتدارك الوضع.
ان حركة الاخوان المسلمين في مصر حركة دينية سياسية عريقة يعود تأسيسها الى عشرينيات القرن الماضي، وهي تملك خبرة سياسية وافرة وقدرة على المناورات، وكسبت العطف والتأييد الشعبي الكبير خلال عقود من السنين مستفيدة من كونها معارضة لنظام كرهه الشعب، من جهة، ومن تخلف الوعي السياسي بين فئات واسعة من الجماهير المصرية، من جهة اخرى. وقد تعرض رجالها دوما للملاحقات والاضطهاد على ايدي الاجهزة القمعية لنظام مبارك، الامر الذي كسب لها العطف بين الجماهير الشعبية، سيما الفئات المتخلفة التي لم تملك من الوعي ما يمكنها من ادراك حقيقة ان هذه الحركة ليست سوى الوجه الآخر من ذات العملة المباركية. فلم يكن من المستغرب، والحالة هذه، ان تصوت غالبية المصريين لصالح مرشحي حركة الاسلام السياسي بمختلف تياراتها. فيما صوتت الاغلبية في المناطق الاكثر وعيا – كالعاصمة المصرية – لصالح العلمانيين، وحصل الاسلاميون على اصوات اقل. واضح ان الشعب المصري عانى على ايدي حكام اعتبروا علمانيين الامرين، سواء في العهد الملكي ام عهد ما بعد الملكية، فأخذ يبحث عن "منقذ" جديد من غير العلمانيين. ولئن كان الكثيرون من المصريين غير مقتنعين بأن هذا المنقذ لن يأتي من الحركات الدينية الاسلامية، الا ان فئات واسعة عقدت آمالها على الاسلاميين، الذين لم تجربهم على ارض الواقع، بل سمعت فقط شعاراتهم من قبيل شعار اخوان المسلمين "الحل في الاسلام".
وتصور الكثيرون من المصريين بأن في ايدي هؤلاء الاسلاميين عصا سحرية لحل جميع المشاكل فيما لو وصلوا الى دست الحكم. فالعلمانيون قد جُربوا ولم يقدموا شيئا للشعب وبقي ان يجرب الاسلاميون لعلهم سيفلحون في تحقيق طموحات الشعب. وايا كان الأمر فالثورة الشبابية، التي قامت في مصر، غيرت الوضع واوجدت معادلات سياسية جديدة ونقلت الصراع بالدرجة الاولى من ميادينه السابقة الى ميادين جديدة، الى صراع محتدم بين انصار التيار السياسي العلماني من جهة، والتيار السياسي الديني – الاسلامي من جهة اخرى. واكدت الوقائع في الفترة الاخيرة ان المجتمع المصري قد انقسم على نفسه وان اغلبية المصريين صوتوا في الانتخابات لصالح الحركات الاسلامية السياسية. هذه هي الحقيقة، ولو لم تكن سارة للساسة العلمانيين.
لكن ما حدث للآن ليس بمشكلة خطيرة، بل ظاهرة طبيعية في مجتمعات عربية اليوم ولا داعي لتخوف العلمانيين او الاسلاميين منها مادام الحكم كان صندوق الاقتراع. والمسألة الاهم، التي يجب تركيز انتباه الجميع اليها، علمانيين واسلاميين، في هذه المرحلة هي ان يحرص الجميع على الطابع السلمي للصراع، بعيدا عن استخدام العنف الذي يشكل المخاطر الكبرى على مصر. ان ما حدث من انتصار للحركة الاسلامية، وبالاخص لتيار الاخوان المسلمين الذي يشكل التيار الرئيس بين التيارات الاسلامية، ليس نهاية المطاف، بل نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة من مراحل قادمة. هذه لعبة انتهت جولة من جولاتها وفازت فيها الحركة الاسلامية، وهي ستبذل قصارى جهدها لكي تثبت فيها النصر المحرز وتوطد بقاءها حاكما. وهذه مسألة طبيعية والصراع سيستمر ومن حق الجبهة العلمانية ان تستغل نقاط ضعف الخصم لكي تعزلها، باسلوب سلمي، عن الجماهير وتلحق بها الهزيمة في الانتخابات اللاحقة. المهم جدا للمجتمع المصري هو ان يتعلم الطرفان المتخاصمان، العلماني والاسلامي، الصراع السلمي الديمقراطي، ويحتكما الى صناديق الاقتراع وان يثبت مبدأ تداول السلطة عن طريق صناديق الاقتراع بعيدا عن التزوير والتحايل وسائر الامراض الملازمة عادة للانتخابات في اغلب البلدان النامية (المتخلفة).
على القوى السياسية العلمانية ان تدرك بأن الصراع السياسي والتنافس السياسي – الانتخابي مع القوى السياسية الاسلامية ظاهرة طبيعية وصحية طالما يجري بالسبل السلمية الديمقراطية. هذا الصراع هو طريق التقدم الى امام، هو لون من الوان الصراع الابدي بين القديم البالي، الذي يمثله ويدافع عنه الاسلاميون اليوم وبين الجديد النامي الذي يمثله العلمانيون. ويمكن ان نشبه ما يجري اليوم في مصر وبعض البلدان العربية من صراع بين الطرفين بما كان يجري في اوروبا قبل قرون – مع الفارق – حيث كانت الكنيسة المسيحية تعدم الناس حرقا لمجرد انهم كانوا يقولون ان الارض كروية. وقد كانت نتيجة ذلك ان ابعدت الكنيسة عن عالم السياسة وهمشت كما نراها اليوم. والظرف السياسي العالمي لا يسمح للحركات الاسلامية بأن تتصرف كما تصرفت الكنيسة الاوروبية في القرون الوسطى. لكن التيارات الاسلامية المتطرفة لاتزال تمارس نفس الاسلوب عن طريق الارهاب والتفجير في الاسواق والشوارع العامة وحيثما تستطيع كوسيلة (فاشلة في النهاية بكل تأكيد) للتغلب على خصومها وللسيطرة على السلطة السياسية، لكي تحكم كما حكمت حركة طالبان في افغانستان وكما فعلت منظمة القاعدة بقيادة بن لادن.
ان نتيجة هذا الصراع النهائية محسومة على وجه التأكيد. فالهزيمة الساحقة للاسلام السياسي مسألة حتمية، كما كانت في اوروبا. لكن هذا الصراع سيستغرق الوقت ويمر عبر كر وفر وبخط حلزوني، لأنه مرتبط بنمو الوعي لدى فئات واسعة من الشعب المصري. والوعي ينمو على الدوام ببطء شديد.
بديهي ان الاخوان المسلمين سوف لن يدخروا جهدا في الدفاع عن كرسي الحكم الذي ظفروا به، وهذا حق مشروع لهم طالما يسود القانون ويحافظ على الطابع السلمي الديمقراطي للصراع الدائر. وهم سيوجهون الوان الاتهام الى الساسة العلمانيين ويستغلون كل نقطة ضعف يجدونها لدى خصومهم – وهم يجدون بكل تأكيد نقاط الضعف هنا وهناك. ويضربون أكثر من كل شيء على وتر الدين الحساس بين بسطاء الناس، فينصبون أنفسهم حماة للدين ووكلاء لله على الارض، ويحاولون ادخال ذلك في الدساتير والتشريعات، وهم اقتدوا ببعض التغييرات التي اتى بها اردوغان في تركيا، ولكنهم لم يتخلوا عن جوهر اهدافهم وشعاراتهم السابقة. وعلى سبيل المثال اختفى في دعايتهم شعارهم الرئيس (الاسلام هو الحل)، ولكنهم خرجوا من الباب ليدخلوا من الشباك، تركوا جانبا شعار (الاسلام هو الحل) وضمنوا الدستور المصري ذات الفكرة التضليلية، فكرة ان الاسلام يظل مصدرا اساسيا لجميع التشريعات. واذا اخذنا بنظرالاعتبار حقيقة اننا نعيش في عصر العولمة، عصر غزو الفضاء والانترنت، لأدركنا بسهولة الا مجال للتوفيق بين وثائق دينية ظهرت قبل 14 قرنا وبين ما يتطلبه الوضع المعاصر، ولن يستطيع الرئيس المرسي تحقيق ذلك حتى ولو عمل بمنتهى الاخلاص لتحقيقه. ان الادعاء باقامة دولة ديمقراطية يسودها القانون وترتكز على اسس ديمقراطية لا تنسجم ابدا مع فكرة ان تكون الشريعة الاسلامية مصدرا اساسيا للتشريعات. نعم ان اي مس بالدين الاسلامي خطأ وحماقة ما بعدها حماقة. غير ان اقامة علاقة عضوية وثيقة بين الدساتير والاحكام التي يعود تأريخها الى ما قبل 14 قرنا وبين الدساتير والتشريعات المعاصرة لا يدل الا على التخلف الواضح وتبني المفاهيم التي لا تستجيب لمتطلبات العصر.
ان الاصلاح الجوهري الذي قام به زعيم حزب العدالة والتنمية في تركيا رجب طيب اردوغان هو انه اقترب من مستوى الاحزاب المسيحية الديمقراطية التي كيفت وضعها مع مستويات التطورالمعاصر في البلدان الاوروبية. وقد قلد مرسي وغنوشي جماعة اردوغان في تركيا، ولكن في نواح محدودة وحسب، او من ناحية الشكل دون المحتوى. فالادارة الحكومية في كلا البلدين لاتزال خاضعة لارادة الحزب: حركة الاخوان المسلمين، والتوجيه الحزبي لايزال يصدر من قيادة الاخوان المسلمين الى مرسي والجبالي – كما كان حزب حسني مبارك وبن علي وعلي عبدالله صالح..الخ.
ويجدر بالذكر ان تنامي نفوذ وامكانات حركة الاخوان المسلمين ونجاحاتها في مصر وتونس وسائر البلدان العربية لم يأت بمعزل عن الدعم المالي السخي الذي قدمه اليهم امراء دولة قطر. وقد دعموا بشكل فعال حركة الاخوان في ليبيا ايضا لكي يستلموا السلطة بعد سقوط القذافي. لكن قيادة الثورة الليبية تصدت لهم ودخلت في مشادات معهم ولم يتوفقوا في تحقيق ما ارادوا، ولم يكتف هؤلاء الامراء في تقديم العون المادي وتزويدهم حيثما امكن بالاسلحة والتجهيزات، بل وضعوا فضائيتهم الفعالة – فضائية الجزيرة – في خدمتهم. وقد كرست هذه الفضائية قسطا وافرا من برامجها الاذاعية ونشاطها الاعلامي لخدمة هؤلاء. ذلكم في وقت نجد علاقات الاخوان المسلمين مع دولتي السعودية والامارات بتوتر حاد، الامر الذي يلفت النظر الى السبب وراء هذه العلاقة الخاصة الوثيقة بين الاخوان وبين امراء قطر. وفي حقيقة الامر اتخذ هؤلاء الامراء في قطر موقفا مشرفا من الثورات العربية بوجه عام. لكن ذلك لا يلغي التساؤل عما وراء هذا الدعم السخي للاخوان المسلمين، سواء كان في الحكم (كحماس في غزة والاخوان في مصر وتونس) او كانوا في المعارضة كحركة الاخوان المحظية بدعم قطري خاص في سوريا. وليس سرا ان قطر قدمت 2.5 مليار دولار الى حكومة مرسي مؤخرا فيما امتنعت عن دعم السلطة الفلسطينية التي قطعت عنها اسرائيل مستحقاتها وعجزت عن تسديد رواتب المعلمين والموظفين! بعكس ما فعلت مع حماس في غزة.
ان الاخوان المسلمين وصلوا الى الحكم في اعقاب ثورة لم يكونوا من اهلها، وهم لا يريدون انتصار الثورة الحقيقية في مصر او تونس، بل كانوا يريدون شيئا آخر معاكسا. غير ان ما حدث هز ضمير الشعب وغير المفاهيم والاعتبارات السابقة، وجعل من المستحيل ان يحكم اي حاكم جديد باسلوب حسني مبارك او بن علي. ولا يمكن لمرسي او لمرشده رئيس حركة الاخوان في اي بلد ان يحكم كما يروق له، بل يضطر رغم انفه على مسايرة رغبات الجماهير ولو الى حد.
والانتصار الذي حققوه الآن في مصر وتونس لا يمكن أن يؤدي الى البقاء في الحكم كما يشاؤون، لأن الشعب المصري لم يعد يرضى اليوم بما كان قبل الخامس والعشرين من يناير 2011، فالمصريون قطعوا الشوط الاكبر نحو الديمقراطية على النمط الاوروبي، والحفاظ على وحدة الصف بين الاحزاب والتيارات السياسية العلمانية ستختزل لهم الطريق وتقرب الانتصار المؤكد، الذي سيكون له تأثير كبير على جميع الدول العربية وحتى الافريقية.

كردستان العراق
كانون الثاني 2013