فؤاد قنديل -الكاتب والروائي المصري - في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: لماذا لا ترتقى الآداب والفنون بالمجتمعات العربية؟


فؤاد قنديل
الحوار المتمدن - العدد: 4553 - 2014 / 8 / 24 - 18:47
المحور: مقابلات و حوارات     

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -137 - سيكون مع الأستاذ فؤاد قنديل -الكاتب والروائي المصري - حول: لماذا لا ترتقى الآداب والفنون بالمجتمعات العربية؟ .


الأدب والفن صياغة لغوية وتشكيلية متنوعة ومتجددة تعتمد على الخيال والفكر والوقائع الإنسانية وتطالعنا في إبداعات لغوية مثل الشعر والرواية والمسرح والقصة القصيرة وفي الفنون نستمتع بالموسيقى والغناء والسينما والفنون التشكيلية كالرسم والتصوير والنحت وغيرها، ويهدف مبدعها التعبير عن ذاته وطرح رؤيته للواقع المحيط به ، مع نقل تجربته الفكرية والجمالية إلى الآخرين ، وعادة ما تكون تلك التجارب مؤثرة في عقول المتلقين ووجدانهم ، وقد عرف الإنسان تلك الفنون منذ أقدم العصور ، بل منذ وعى الحياة بملامحها البدائية التى تصطخب من حوله في حركة الطبيعة الوديعة كالأنهار والكواكب والغابات والنباتات والطيور مرورا بالكائنات البرية وصولا إلى الحركة العارمة لمتغيرات صادمة مثل الرياح العاصفة والبراكين وهياج البحار والزلازل ، على أن المؤكد أن الإنسان لم يهتد إلى الفن والأدب إلا بعد أن انتقلت حياته وأفكاره من حالة الضرورة التى تقتضيها غريزة البقاء بتوفير الغذاء والكساء والمأوى والأمن إلى حالة الحرية حيث يستطيع أن يتأمل الوجود بينما يعيش فترة من الدعة بعيدا عن كل تهديد .


وقد حظى الأدب والفن على مر الحقب الزمنية باهتمام النخبة سواء الملوك والأمراء والساسة والقواد وشيوخ القبائل والفلاسفة وعلية القوم من الأثرياء والنبلاء ، كما أولته فئات مختلفة من الجماهير التفاتا وفرحا وشملته بالإعجاب والتقدير لما له من تأثير وما يتضمنه من خيال ووقائع باهرة وطرح لنماذج الأبطال ووصف للمعارك وأحوال الحروب وقصص الحب والمجاعات والأهوال والأساطير بما يُسَري عن القلوب المحملة بالهموم وينقل إلى العقول الخبرات والعظات والعبر وألوان الحكمة . وقد أفضي هذا إلى سمو مكانة الكتاب والشعراء لدي الشعوب ودفع الحكام والوجهاء إلى تكريم أصحاب الكلمة بالجوائز والمنح لأنهم ثروة من ثروات الأمم حتى لقد كانوا في أزمنة كثيرة ومازالوا موضع الفخر والتباهى لأن منتجى الفن والأدب أصحاب المواهب المميزة نماذج رفيعة من البشر ويستوجب ذلك عدم التقصير في حقوقهم أو تجاهل أفكارهم ورؤاهم التي تضيء الطريق أمام العامة والخاصة ، وقد تناهت إلينا أخبار السلف التي تؤكد حرص الملوك على اللجوء إليهم لمعرفة أسرار النفس البشرية والاستعانة بهم في كشف المجهول من المواقف والغامض من شئون الحياة والناس.
وقد اعتبر كثير من المؤرخين والمفكرين أن الفنون والآداب المؤسسة الأولى للحضارات التي ازدهرت قبل آلاف السنين في مصر والعراق والصين والهند ثم اليونان وفارس و الرومان والحضارة الإسلامية في الجزيرة العربية والشام وشمال أفريقيا والأندلس ثم أوروبا ، ولعل من تحصيل الحاصل الاعتراف بأن الحضارة التي ظهرت واستقرت في أوربا منذ ستة قرون بعد أن تخلصت من هيمنة محاكم التفتيش والتسلط القهري باسم الدين وحتى الآن هي من نتاج الآداب والفنون التشكيلية التى أبدعها شيكسبير ودانتي وسرفانتس وكوكبة كبيرة من الشعراء والكتاب والفنانين الإيطاليين والروس والإنجليز والألمان والفرنسيين ، ولا يخفي على الكثيرين أن روايات ديكنز دفعت الحكومات البريطانية للاهتمام بأحوال السجون كما حفزتها على رعاية الطفولة المشردة وقاومت استغلال الأطفال في ارتكاب الجرائم ، وروايات فيكتور هوجو كشفت أحوال البؤساء فتحركت الإدارة الفرنسية والقوي السياسية لبذل كل الجهود للقضاء على البطالة والجوع والفقر ، وأدت الأعمال الروائية والشعرية الأمريكية إلى حشد الجهود لمقاومة التفرقة العنصرية حتى وصل أحد الملونين إلى رئاسة كل الولايات الأمريكية وسكن البيت الأبيض ليقود العالم أجمع.
ولعل وعى الجماهير العربية الذي نما تدريجيا و الثورات التى اندلعت في عدد من الدول العربية منذ منتصف القرن 19 وإلى الآن ليست إلا نتيجة طبيعية لإبداعات الشعراء و الأدباء والمسرحيين ومن بعد بفضل الفنون التشكيلية و الأغنية والسينما والرسوم الكاريكاتورية وغيرها مع تزايد الإقبال على الصحافة التى نقلت كل ما يمور به الواقع واهتمت بكونها منابر النشر للفنون والآداب .
ولابد ألا نتجاهل أن مسألة الارتقاء بالمجتمعات تبدأ في الأساس من تربية الوعى ونضجه وتعدد آفاقه ، وما كان لوعى الشعوب العربية أن يتصاعد لولا أبيات شعرية عديدة لعبد الله النديم وحافظ إبراهيم و مثل بيت شوقي :


وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق
وبيت الشابي الشهير
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر
وقول كامل الشناوي :
كنت في صمتك مرغم كنت في صبرك مكره
فتكلم ... وتألم وتعلم كيف تكره
وقول الشاعر :
إذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا
وقول الشاعر :
بالعلم والمال يبنى الناس ملكهم لم يُبن مجد على جهل وإقلال


تؤكد الناقدة الفرنسية سوزان سونتاج قيمة الأدب بشكل عام وفن الرواية بشكل خاص إذ تقول : والرواية الجديرة بالقراءة هي في جوهرها تعليم وهي توسع فهم القارئ للقدرات البشرية وتعرفه معنى الإنسانية ، وما يضطرب في الدنيا من الأحداث ويكشف أسرارها وكذلك المسكوت عنه.
وقد آن الآوان كي نطل بنظرة طائر على العالم المعاصر لنكتشف مدى التطور في جميع مناحى الحياة الذي شمل معظم دول المعمورة إلا دولا كثيرة من العالم العربي وهي من ذوات التاريخ والحضارة والدين والأخلاق والإمكانيات المادية ، لنتلقى صدمة تؤرقنا وتسخطنا على أحوالنا في كل مناسبة خاصة إذا رحل عربي وزار بلادا في الشرق والغرب لم تكن على الخريطة أصلا قبل عقود ، عندئذ يتذكر بوضوح كم التخلف الضارب في كثير من البقاع العربية سواء في مجالات الإدارة والعلم والصحة وحقوق الإنسان والنقل والصناعة والتعليم والتكنولوجيا والرياضة واستثمار الموارد والقوي البشرية ، بل إنها لتبدو صادمة حالتنا السياسية والدينية في ظل تهميش العقل وكراهيته وافتقادنا للتسامح ولغة الحوار المتحضر والترابط واحترام الآخر وقبول الاختلاف مع التأكيد على أن أي حديث عن الديموقراطية على أي مستوى وهم حقيقى ولا علاقة لنا بالعمل كفريق .. طبعا لا يتضمن الحديث تعميما ، ولكنه ينبع من تغلب النسبة السلبية التى نود أن تدفعنا للتغيير.
صحيح أن إبداعنا الأدبي والفنى بالمقاييس العالمية والتنافسية الدولية ليس في المقدمة ولا يحظى بتقدير يلفت الأنظار إلا في حالات متباعدة ، ولكنه دون أدنى شك منجز مهم في كل المجالات وإن لم يصل في نظري بشكل أمين وكامل إلى الجماهير وهى المستفيد الأول من هذه الإبداعات ، وهنا نصل إلى صلب الموضوع وهدف الحوار الذين تبلورا في السؤال .. لماذا لا ترتقى الآداب والفنون بالمجتمعات العربية ؟
أحسب أن لديّ بعض الإجابات ، لكن المطلوب بالقطع أن تتولوا أنتم بخبراتكم وفكركم قيادة الحوار وفتح الآفاق خاصة أننى ممن يؤمنون بأن من يتصورون أنهم نخبة ليسوا أصحاب الحقيقة المطلقة ، أولا لأن الحقيقة المطلقة اعتقاد زائف وثانيا لأن أي وعاء محكم لابد له من متن وغطاء ، وأنتم المتن أو أصحاب الدور الحقيقى في الإحساس والتشكيل ونقل أية تجربة إلى الأرض وبدون الجماهير لا شيء اسمه النخبة . أهلا بكم .

فماذا يا تري أسباب ما صرنا إليه ؟..


أظن الجميع يعرف أن هناك أسبابا عديدة ، منها :

1 - تراجع المدارس والجامعات عن القيام بمهمتها التعليمية والتربوية على أي وجه ، فالمناهج منفرة من القراءة ومن اللغة العربية ، ومعظم المدرسين يفتقدون الكفاءة ، وهم في الأغلب مشغولون بجمع الأموال من الدروس الخصوصية التي رفعت عن كاهل التلاميذ عبء المذاكرة وكرست للتلقين بدلا عن الفهم ، بل لم يعد الطالب حتى حريصا على الحفظ لأن المدرس في سنوات النقل سيتولي النتيجة.

2 – تقاعس وزارة الثقافة عن القيام بمهامها الأساسية وهي التثقيف والانشغال بالمهرجانات والأضواء والجري وراء وسائل الإعلام .

3 – تجنب وسائل الإعلام الحديث أو تناول الشخصيات المرموقة المميزة بالوطنية والإخلاص والنابغين في العلم والأدب والفلسفة والتاريخ والاقتصاد وكذلك أصحاب البطولات في المجالات العسكرية والإنسانية وأصحاب المنجزات الدولية بما يمثل قدوة يحتذيها الصغار والشباب وفي المقابل هناك حرص على تقديم حياة الراقصات والحوار مع لاعبي الكرة واستضافة الخارجين عن القانون والنماذج المنحرفة أو ذات الصوت العالي التي تجيد الجعجعة واتهام الآخرين حتى أصبح الكل في دائرة الشبهات .

4 – إهمال مراكز الشباب لكل ما ينتمى للأدب والثقافة أو التعليم والتربية وخلق عقول ناضجة متطلعة للمستقبل وموهوبة ، وصاحبة فكر وابتكار وحس تنافسي في المجالات العالمية المعاصرة .

5 – عجز المساجد عن القيام بمسئولياتها التربوية بسبب نقص الثقافة والجمود الفكري وتقليدية الخطاب الذي ينفر المستمعين ولا يجذبهم إلا في حالات نادرة
وتجنب الأفكار المعاصرة والقضايا الملحة.

6 – انتهاج سياسة الانفتاح الإقتصادي دون دراسة

7 – تخلى الآباء عن دورهم في تربية الأبناء وعجز الالأمهات والجدالت عن حكى القصص والحكايات التي تعلم الصغار الحمة والأمانة والعفو والمحبة والتعاون والتضحية وحب الوطن
لقد أصبح الإنسان المصري بحاجة إلى روح جديدة تتشكل من عبير الأدب وأصدائه التي تعمل على الارتقاء بالذوق والسمو بالغرائز وحب الجمال وقبول الآخر وتأمل الوجود والتمسك بالصبر والرضا والتسامح والحرص على العدل والأمانة والسلام والمحبة . روح الأدب التي تبتعد عن الوعظ والمباشرة وتسمح للقيم النبيلة أن تتسلل إلى القلوب والعقول لترسخ تقديس الوطن والدفاع عن الحقوق والتوجه دوما نحو كل ما هو خير ، والانتماء إلى الإنسانية وتجلياتها بأرحب المعاني.
أصبح الإنسان المصري بحاجة إلى أن يدرك قيمة العقل بوصفه السلاح الأول للعيش وتدبير شئون الحياة ، وآن أن يتعلم النشء أهمية معرفة معنى الحرية والكرامة والتكافل وقبول الاختلاف والرفق بالإنسان والحيوان بل والجماد ذاته بوصف كل ما ذكر من مبادئ الحياة التي تسبق أي علم ، فما قيمة العلم دون كرامة وإخلاص ؟ وما قيمة أي دين دون رحمة ودون عدل أو دون ضمير ؟، وما قيمة الأدب دون حس مرهف وحب للجمال ودون عطف على الناس ومراعاة حقوق الإنسان ؟
لقد كان اتجاه القيادة المصرية في منتصف السبعينيات من القرن الماضي نحو الأخذ بسياسة الانفتاح الاقتصادي دون دراسات كافية ودون تدرج ودون ضوابط خاصة بعد عقدين من الاقتصاد الموجه وامتلاك الدولة لكل أدوات الإنتاج سببا رئيسيا في انطلاق الكوامن الجشعة والأطماع والرغبات المحمومة للثراء بكل السبل بما دفع أعدادا كبيرة من الشعب لاقتحام العمل الحر والحصول على المكاسب الشرعية وغير الشرعية ومن ثم التخلي عن كل القيم الاجتماعية والأخلاقية لصالح الهوس بالمال . وقد تفاقم الوضع وأضيفت إليه ملامح سلبية جديدة بعد ثورة بناير 2011 بما ينذر بتصدع أبنية الدولة ككيان إداري وسياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي ،الأمر الذي يتكشف في المشاهد اليومية الصادمة ، حيث تطالعنا والعالم عمليات القتل والتدمير والهجمات المتلاحقة من البلطجية على الممتلكات العامة والخاصة ، وحوادث الخطف والسطو والحرق والتعدي على الكنائس والمساجد والبنوك وأقسام الشرطة والمستشفيات والمتاحف بما يهدد الحياة بشتى صورها ، فضلا عن سوءات وسائل الإعلام والتدني في طرح القضايا وعدم مراعاة الحرمات والولع بالفضائح وانتشار الألفاظ البذيئة التي لحقت السينما والمسرح وصدّرت للجماهير لغة متدنية سرعان ما التقطتها كل الألسنة كما يلتقط الحطب والبنزين شرارات عابرة فتندلع نيران يصعب إخمادها.

المشهد على كافة الأصعدة يدل على التفسخ والتفكك والانفلات في ظل غياب حكام يتكئون على ثقافة ودين وتربية رفيعة ووطنية راسخة ، وفي ظل غياب مؤسسات تعليمية وثقافية مسئولة ، ومع وجود آباء استسلموا تماما لغواية الأبناء وعجزوا عن التوجيه والحوار ، ومع تحلل كامل لكيان معنوي اسمه الضمير ، كان دائما وبكفاءة مشهودة يتولي حماية المصريين من كل التجاوزات ويقوي مسيرتهم في خدمة الحق والعدل والأمانة ، وحافظ عليهم رغم التحديات وأشكال العدوان على مدي آلاف السنين ، لكن الضمير لاحظ أن هذا المناخ لا يلائمه فأسرع بالاختفاء ولا وسيلة لاستعادته بغير الأدب والدين المستنير.