رحيل جونتر جراس .. يستأهل الحزن البليغ


فؤاد قنديل
الحوار المتمدن - العدد: 4780 - 2015 / 4 / 17 - 12:56
المحور: الادب والفن     


جونتر جراس أبرز كتاب ألمانيا في نصف القرن الفائت والذي رحل يوم الثالث عشر من هذا العام لن يرحل من الذاكرة الأدبية سريعا لأنه نموذج خاص من الكتاب والمثقفين الذين شغلهم الفن وقضايا العالم في الوقت ذاته ، اجتذبه الإبداع الأدبي كما اجتذبته الإنسانية .. من الكتاب من يبدع الروايات الفاتنة فيستحق التقدير ويحظي بالاهتمام ، لكن الكاتب والفنان الذي لا يكتفي بالإبداع الجمالي وحده ويحرص على تأمل الوجود والبشر ويعمل على البحث عن نافذة جديدة لرؤية الغد الأفضل أو طريق الخلاص يحصل على العلامة الكاملة ويستحق مقعدا مرموقا في حديقة الخالدين .
لفتت رواية " الطبلة الصفيح " التي كتبها جراس عام 1959 الأنظار إليه وكانت تحكي قصة طفل لا يكبر ويحتفظ ببراءته ويتابع كل ما يجري في القرية ويمكن قراءة بعض مواقفه على أنها إشارات ذات دلالة ، وكان يحمل طبلة يدق عليها كلما لاحظ ما لا يرضيه ، ومن أهم المشاهد في الرواية جلوس " أوسكار " الطفل صاحب الطبلة خلف جدار ورؤيته من خلال أحد الشقوق عددا من الجنود يضربون البسطاء ويقتلون بعضهم بشراسة غير محتملة فيظل يدق الطبلة وكأنه ينبه الناس إلى الخطر الشديد الذي يحيق بالأبرياء . .. لابد أن جونتر كان هو ذلك الطفل إلى نهاية عمره كما سنرى.
ولد جونتر في السادس عشر من أكتوبر عام 1927 أنهي تعليمه المتوسط والتحق إبان الحرب العالمية الثانية كمساعد طيار، وبعد عامين وقع في أيدي القوات الأمريكية أسيرا ، ولما أطلق سراحه التحق بمجمع الفنون ليدرس الرسم والكتابة المسرحية والنحت ، ووجه أغلب اهتمامه لرصد مظاهر الحياة المختلفة وحاول أن ينقل ذلك في لوحاته ، حتى عرف كرسام ونحات ومصمم جرافيك ثم شاعر وروائي ومفكر وكاتب مسرحي وكاتب للمقال بوصفه ابن الوجود الجمالي والإنساني المهموم بقضاياه والمعبر عن ألامه وأمانيه.
في المسرح نشر عملين هما : " الطهاة الأشرار" 1956، ثم " الفيضان " 1957 ، واجتذبته الرواية فقدم للمكتبة الأدبية مجموعة لافتة من الروايات منها : " ثلاثية دانتسيج" التي تتكون من روايته الشهيرة " الطبلة الصفيح" 59 بالإضافة إلى " القط والفأر" 61 ، والجزء الثالث بعنوان " سنوات الكلاب " عام 1963.
في عام 1969 أصدر روايته الرابعة وهي بعنوان " تخدير جزئي" وبعد عشر سنوات أصدر روايته الخامسة " لقاء في تلكتى"ومال للشعر فأصدر خمسة دواوين ولعل هذا ما غيبه عن الرواية عشرين عاما كاملة إلى أن عاد إليها مجددا ليصدر روايته " مئويتي " عام 1999 الذي نال فيه جائزة نوبل، ثم " مشية السرطان " 2002وآخر رواياته " الرقصات الأخيرة " عام 2003

ومن أمثلة طرقه على الطبلة تلك القصيدة النثرية التي نشرتها له احدي الصحف الألمانية أوائل إبريل عام 2012، بعنوان " ما يجب أن يقال "وجاء فيها
كيف يقبل العالم أن تكون بمنطقة الشرق الأوسط دولة تمتلك مئات القنابل النووية المدمرة.. لقد سئمت نفاق الغرب لهذه الدولة
لماذا أمنع نفسي من الإعلان عن اسم ذلك البلد
حيث تمنع الدول الكبرى إجراء أية مراقبة على تحركاته وتجهيزه
إن صمتي الذي يرزح تحت حالة السكوت العام عن هذا الواقع
أحسه الآن كذبة تثقل كاهلي وتدفعني لضرورة التعامل معها
في الأفق تلوح عقوبة لمن يحاول التعبير عن الوضع بصراحة؛
الحكم المألوف: معاداة السامية
إن بلدي للأسف يعتبر تزويد إسرائيل بالغواصات التي تحمل رؤوسا نووية مجرد تجارة وأنا أرفض هذا بشدة
ولهذا أقول ما ينبغي أن يُقال.
لماذا الصمتُ حتى الآن؟
لماذا لا أعلن عن هذا الواقع كحقيقة واضحة،
أشعر بالأسف لأني
أقول هذا الآن فقط
بعد أن كبرت في السن، وبآخر قطرة حبر :
إن القوة النووية لإسرائيل خطر على السلام العالمي
الهش بطبيعته؟
ينبغي أن يُقال،
قبل أن يفوت أوان قوله غداً
وكذلك لأننا- نحن - الألمان مثقلون بما يكفي
من الجرائم بسبب دعمنا لهذا البلد ..لهذا قد لا يمكن التكفير
عن اشتراكنا في الذنب ساعتها
بكل الأعذار المعتادة
لهذا ينبغي أن يقال الآن ما طال صمتنا حياله
(...)
عندئذ أسرعت وسائل الإعلام الإسرائيلية بالتنديد بجراس واتهامه كالعادة بمعادة السامية ، ولذلك فهو شخص غير مرغوب فيه ، في حين خرجت سبعون مسيرة في عيد الفصح في مدن عديدة بألمانيا مثل شتوتجارت وليبزج وميونيخ وبرلين تؤيد الكاتب وتعلن رفضها للتهديدات الإسرائيلية ، وعندما هاجمته بعض الشخصيات الألمانية المسئولة لم يتراجع ، بل قال : إن أهوال النازية ليست ذريعة للصمت إزاء التجاوزات .
وكان جراس قد سبق أن طرق طبلته في مسرحيته " الطهاة الأشرار " وفي روايته " مشية السرطان " مما يقتضي إعادة قراءته وتقديمه للقراء من زاوية البنية الفنية والدلالات الفكرية التي تكشف عنها رواياته التي تجاوزت الحكاية إلى غضب الكلمة وثورتها وتسليطها الضوء الساطع على الأوجاع والمآزق ، وإلا فما معني أن يقال على الكتب : إنه ضمير الأمة .
إن رحيل جراس يجدد الدعوة إلى كل الأصوات الرشيدة والمخلصة للإنسانية خاصة الأدباء وشتى المثقفين كي يطلقوا أقلامهم وحناجرهم منددة ببؤر الشر المدججة بالأسلحة وتهدد الحياة الإنسانية و يعوق مسيرة البشر ويسحق أمانيهم في حياة عادلة وآمنة ، وقد آن لكتابنا في العالم العربي أن تعلو أصواتهم ضد كل ما يرتكب في المنطقة ضد البسطاء والأبرياء والمطحونين.