جواد بشارة - كاتب وباحث اكاديمي - في حوار مفتوح مع القراء والقارئات حول: نمط التفكير الموزع بين العقل العلمي والعقل الخرافي عند المواطن العربي


جواد بشارة
الحوار المتمدن - العدد: 5129 - 2016 / 4 / 10 - 22:26
المحور: مقابلات و حوارات     

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -178- سيكون مع الأستاذ د.جواد بشارة - كاتب وباحث أكاديمي -  حول: نمط التفكير الموزع بين العقل العلمي والعقل الخرافي عند المواطن العربي.

 


قد يبدو هذا الموضوع ذو حساسية مفرطة ومثير للجدل أيضا في كل مفصل من مفاصله. لكنه يطمح لأن يكون طرحاً علمياً موضوعياً متجرداً من النزعة العاطفية والتحيز الشخصي قابل للرد والمناقشة حتى لو أيدته أو اختلفت معه، أو وجدت مبررا لنقده. فتلك هي طبيعة العلم، على أي حال، في موضوع ما تزال البحوث بشأنه في بداياتها.
فالمواطن العربي الذي يعيش بجسده في القرن الواحد والعشرين لكنه، متقهقر في تفكيره ومعتقداته ومقيد بمفاهيم ورؤى القرون الماضية، وبالتالي فهو يعيش اليوم وسط النظريات والافتراضات والأساطير والخرافات والنصوص الدينية التي عالجت موضوع الكون والله والحياة والأصل والمصير وما قبل الحياة وما بعد الموت، في مقاربته العلمية والثيولجية وفهم لها دينياً أو علمياً.
إن أغلب الناس يعيشون أيامهم، ويقضون أعمارهم دون أن يفهموا العالم الذي يعيشون فيه. فمن النادر أن يفكر أحد بآلية تكون ضوء الشمس وأسبابه، في حين أن هذا الضوء هو العنصر الأساس للحياة على الأرض. ولا يفكر بالجاذبية التي تجعلنا ملتصقين بالأرض ولا نطير في السماء، ولا بالجسيمات الأولية التي تتألف منها المادة والتي نتكون نحن البشر منها أيضاً والتي يغدو استقرارها سبباً في وجودنا. ولا ينتبه أحد عادة إلى الطبيعة ولا يتساءل دائماً لماذا هي على هذا الحال، وهل يمكن للزمن أن يعود القهقرى، وهل يمكن للنتيجة أن تسبق السبب والمعلول يتقدم العلة، وهل هناك حدود للوعي البشري والإدراك الإنساني والمعرفة البشرية؟ ناهيك عن التفكير بالثقوب السوداء وجغرافية الكون وهندسته وطبيعة مكوناته، وما هو أصغر مكون مكتشف للمادة وهل هناك ما هو أصغر منه، ولماذا نتذكر الماضي وليس المستقبل، وكيف نفسر النظام الكوني القائم والعلم يقول أنه نشأ من الفوضى والعدم أو من لا شيء أو من شيء آخر لا نعرفه الآن، وأخيراً وليس آخراً لماذا يوجد الكون،ولماذا وجدت الأديان؟ وهنا يقتحم المرء نطاق الماورائيات ومجال الميتافيزيقيا، ويلج المنطقة المحرمة التي تتحدث عن الله أو غيابه، ومحاولة الإجابة على تساؤل آينشتين: هل كان لدى الله الخيار في خلق الكون؟ وحاول العلماء من بعده سبر فكر الله وسر تفكيره.
لنبدأ من طرح الأسئلة من أولها: ما المقصود بالكون؟
ان موضوع ولادة الكون أو بدايته كانت موضع نقاشات عديدة ومعمقة، وكان هذا الموضوع حكراً على الأديان، لاسيما الأديان السماوية المنزلة التي تتفق فيما بينها على صيغة أن الكون ولد في لحظة محددة في ماضي ليس بالبعيد، يحسب ببضعة آلاف من السنين، ويترتب على ذلك ضرورة وجود "العلة الأولى أو السبب الأول" الذي يفسر وجود الكون. وقد قدرت الكنيسة الرسمية، استناداً إلى ما ورد في الكتب المقدسة، أن الكون ولد قبل خمسة آلاف سنة من ميلاد السيد المسيح كما جاء في سفر التكوين في العهد القديم، وهو الأمر الذي يختلف جوهرياً وكلياً مع التواريخ التي يقدمها علماء الآثار إلا إذا لجأنا إلى ما يسمى برمزية الأرقام والتواريخ واعتبرنا أن اليوم لا يعني بالضرورة اليوم الأرضي الذي نعرفه. سبق لفلاسفة كبار أن تصدوا لموضوع الكون مثل أرسطو وبطليموس وعمانويل كانط في كتابه "نقد العقل المحض" المنشور سنة 1781.وقد أشار عمانويل كانط إلى أنه قد يكون للكون لحظة بداية إلا أن هناك زمن لا نهائي سبقه وكان موجوداً قبله ومستقلاً عنه سماه بالزمن المطلق، أما زمن الكون منذ لحظة ولادته فهو الزمن النسبي. وقد علق القديس أوغسطين على تساؤل طرح عليه بهذا الصدد وهو: "ماذا كان يفعل الله قبل خلق الكون؟" فرد بسخرية: "ربما كان يحضر الجحيم لمن يطرحون مثل هذا السؤال".
وجاءت نظريات الفيزياء الحديثة لتقدم أجوبة تقريبية ونسبية ونظرية للبت في أصل الكون وعمره ومصيره منذ بدايات القرن العشرين أشهرها نظرية النسبية لآينشتين وما تلاها. وحدثت انعطافة تاريخية سنة 1929 عندما اكتشف العالم إدوين هيوبل Edwin Hubble ظاهرة توسع وتمدد الكون مما يعني أن محتويات الكون كانت قريبة لبعضها البعض في الماضي السحيق الذي يعود إلى 14 أو 20 مليار سنة وكانت كثافة الكون لامحدودة الأمر الذي أعاد موضوع عمر الكون وولادته إلى طاولة البحث العلمي البحت. ومن هنا برز مفهوم أو مصطلح الانفجار العظيم Big Bang، عندما كان الكون لا متناه في صغره ولا متناه في كثافته وسخونته. وإذا قبلنا وجود "حالة" ما قبل الانفجار العظيم، ثابتة ومستقرة للكون، فهذا يعني بنظر القديس أوغسطين أن هناك كائنا خارج الكون هو الذي فرض عملية التغيير والحركة التي نشأت أياً كان شكلها وتسميتها لأنه لم تكن توجد أية ضرورة فيزيائية للتغيير بدون محفز أو حافز عملي نسبه أوغسطين إلى الله. ثم جاءت النظريات العلمية في الفيزياء الفلكية لتقدم البديل العلمي للطرح والتفسير الثيولوجي أو الديني.
ومنذ فجر الحياة البشرية، يعيش الإنسان موزعاً بين أمرين " الخير والشر"، الخوف والطمأنينة. يخاف من قوة أقوى منه، أياً كان شكلها أو جوهرها أو طبيعتها أو ماهيتها، ويحتمي بقوة أقوى منه بالضرورة ليجد في ظلها الأمان والطمأنينة، حتى لو كان ذلك بثمن قبوله بالعبودية والخضوع والتخلي عن الحرية. وهاتان القوتان غير موجودتان في حقيقة الأمر، بل أوجدهما عقل البشر ذاته ورمز لهما بالإله والشيطان. فكلما وضع الإنسان في هذا الإله، المختلق من مخيلته، من أشياء وتصورات ، كلما فقد ما يحتويه في ذاته، والأهم والأكثر قيمة، ألا وهو حريته، أو اختياره الحر. وفي الحالتين يخوض الإنسان معركته الخاسرة في إطار صيرورة آيديولوجية سماها " الدين" وبالتالي فإن البؤس الديني ما هو إلا انعكاس لبؤس الواقع الذي يعيش فيه الإنسان، ومن هذه المقاربة قال كارل ماركس مقولته الشهيرة " الدين أفيون الشعوب" لأنه مصدر التخدير والتغييب عن الواقع الحقيقي الذي يعيش فيه البشر ويعانون منه.
ماهي حقيقة الدين؟ وكيف نشأ في المجتمعات البدائية وكبلها، ومن ثم تطور في المجتمعات المتحضرة وسيطر عليها، عندما تحول إلى آيديولوجية للطبقة المهيمنة؟ يقدم الدين نفسه للكائن الذي اختلقه من عقله الباطن، وكأنه مملكة الأفكار المستقلة عنه، والموجود بعيداً في الأعالي ، فوق مملكة الأرض، الخانعة والضعيفة، والعاجزة عن البقاء والديمومة بدون إذن وموافقة ومساعدة المملكة السماوية. وكل الأديان التوحيدية أو السماوية تدعم وترسخ هذا الوهم وهذه الأطروحة في أذهان الناس بمختلف مشاربهم وأجناسهم وأعراقهم. وغالبا ما كانت الهيئات والمؤسسات الدينية المهيمنة على مصير البشر تلجأ للكذب والخديعة وتشويه التاريخ للاستحكام أو التحكم بعقول البشر وسلوكهم.
لذا يوجد هناك منهجان للتعاطي مع العقل البشري ومخاطبته لتقديم صورة عن العالم والكون وتفسيرهما: الطريقة التي تقدمها الأديان بكل أنواعها ومسمياتها، مع ما يرافقها من خرافات وأساطير وغيبيات، والطريقة التي يقترحها العلم الحديث.
هذه وغيرها من الموضوعات هي التي سنناقشها معاً ونحاول تفكيكها وشرحها من خلال النقاش والسؤال والجواب لكي نبين الفرق بين نمط التفكير بالوجود وما يحتويه، والذي يمكن أن يكون علمياً صرفاً مستنداً على نظريات العلم والحديث وإنجازاته ، كما نلاحظ عموماً في العالم المتقدم، أو على العكس يمكن أن يكون خرافياً يتقبل بسهولة الأساطير والخرافات والشعوذات والغيبيات وكأنها حقائق لاتقبل الجدل أو النقد بل تتسم بقدسية تمنع المس بها أو حتى الجرأة في التطرق إليها.