عبد القادر أنيس - كاتب علماني من الجزائر - في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: الانسداد السياسي في الجزائر وعواقبه الوخيمة.


عبد القادر أنيس
الحوار المتمدن - العدد: 4910 - 2015 / 8 / 30 - 20:12
المحور: مقابلات و حوارات     

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -162 - سيكون مع الاستاذ عبد القادر أنيس - كاتب علماني من الجزائر -  حول: الانسداد السياسي في الجزائر وعواقبه الوخيمة .



كان ترشح وفوز الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بعهدة رابعة لمدة خمس سنوات أخرى (17 أفريل 2014) وهو في وضع صحي لا يؤهله لتولي هذا المنصب موقفا قد حير الكثيرين. لماذا؟ ألا يوجد حتى ضمن الطبقة السياسية الحاكمة بديلا آخر؟
ترشُّح بوتفليقة وإعادة انتخابه دلالة على أن هناك انسدادا سياسيا حقيقيا تعاني منه البلاد، خاصة في ظل حياد الجيش بعد التجربة المرة في مواجهة الحملة الإرهابية الإسلامية وما حصده من جحود خارجيا وداخل الطبقة السياسية وعلى رأسها الرئيس وداخل أوساط الشعب أيضا، رغم الاعتراف بدوره في هزيمة الإرهاب.

من الناحية الرمزية، ليس بوتفليقة هو المريض فقط، بل الوضع السياسي والاجتماعي والفكري برمته مريض. ولد مريضا منذ الاستقلال، أوصل البلاد إلى مأزق حضاري حقيقي وبيئة آسنة شكلت المرتع الملائم لازدهار الأصولية الإسلامية مفرخة الإرهاب.
لا يمكن فهم هذا الانسداد دون فهم العوامل الموضوعية التي أدت إليه.
الجزائر استقلت وهي حبلى بعيوب وتشوهات كثيرة شأنها شأن أغلب بلدان العالم الثالث (قرون من الانحطاط ثم الاستعمار العثماني والفرنسي وما رافقهما من تهميش حضاري). أهم هذه العيوب تمثلت في التخلف العام الذي كان السمة الغالبة على الحياة السياسية والفكرية والدينية والاجتماعية والثقافية لدى شعبنا. وهو وضع يستحيل معه بناء دولة وطنية حديثة ديمقراطية بسهولة. فنحن في الحقيقة لم نمر بما مرت به البلدان التي نطمح للالتحاق بها، ولا نحن كنا دائما مستعدين للتضحية بما يكفي من أجل الحرية والديمقراطية والعلمانية، ولا نحن حاولنا أن نحدث القطيعة الحقيقية بل قطائع كثيرة كانت ضرورية مع كل عوامل تخلفنا المزمن. وكان من تحصيل الحاصل أن يستولي فصيل من الجيش عام 1962 (جيش الحدود بالتحديد غير المنهك، الذي كان (خارج الحدود في الحقيقة) بعيدا عن أرض المعارك) باعتباره الفئة الأكثر تنظيما وتسليحا يومئذ، والذي كان يقوده بومدين بالتحالف مع بن بلة الذي (انتخب) رئيسا للجمهورية كمرشح وحيد، على مقاليد السلطة واستبعاد الآخرين سجنا ونفيا واغتيالا، قبل أن يقرر بومدين الانقلاب على بن بلة والاستفراد بالحكم (1965) (طبعا أغلب الطامحين أو الطامعين كانت برامجهم قائمة على استبعاد الآخر، يعني كما نقول في الجزائر: طاق على من طاق)، بعيدا عن الاحتكام للقيم التي كانت في أصل تأسيس الأمم الحديثة (وهي حالة مازالت ماثلة حتى اليوم للأسف).
في غياب نخبة مقتدرة وثقافة سياسية عامة ديمقراطية وعصرية في الجزائر متجذرة بين الناس، كان من المستحيل أن تسير البلاد في اتجاه آخر غير اتجاه الاستبداد أو الفوضى والمزيد من التفكك. الصراع، في الحقيقة كان فوقيا، بين النخب العسكرية والسياسية، أما الشعب فكان في عالم آخر تنهشه الأمية والفقر والبؤس، كانت قيم الحرية والمواطنة والديمقراطية والعلمانية آخر مطالبه أو هواجسه. الإرادة في إقصاء الآخر، يجب أن نعترف، من جهة أخرى، أنها بدأت باكرا في صفوف الحركة الوطنية قبل بداية حرب التحرير (1954) وتعمقت معها. كان حزب الشعب الجزائري الذي تخرجت منه أغلب النخب السياسية التي أطّرَت الشعب إبان الثورة وبعد الاستقلال حزبا قوميا إقصائيا رسخ زعيمه مصالي الحاج فكرة عبادة الزعيم وما نتج عنها من شقٍّ لصفوف حزبه الذي غرق في أزمات عميقة وعقيمة تواصلت سنين طويلة ومن تصلب في الحوار مع الشركاء الآخرين في الوطن، مما أدى إلى انسداد حقيقي هيمن على الحركة الوطنية فدفع مجموعة قليلة المناضلين من الشباب إلى القفز على الجميع والمبادرة بالحرب. مع بداية حرب التحرير وضعت جبهة التحرير شرط حل كل الأحزاب وانضمام مناضليها بشكل فردي إلى جبهة وجيش التحرير لكي يحق لهم المشاركة في الكفاح التحريري. بعد الاستقلال وَجَدَ النظام الحاكم في النموذج الاشتراكي للحكم والتنمية ضالته، خاصة معاداته لوجود قطاع خاص فاعل ووجود معارضة مهما كانت: سياسية، ثقافية، دينية، وهو ما دفع إلى مزيد من التضييق على الحريات وتخوين المنادين بالديمقراطية والتعددية والتداول على السلطة ديمقراطيا، بل جرى تخوين وإسكات المختصين المحايدين في التربية والتعليم والاقتصاد والسياسة الذين كانوا يحاولون لفت الأنظار نحو الأخطاء والمزالق. كانت هذه المطالب تضع أصحابها في معسكر الرجعية أو البرجوازية الملعونة، بل اعتبر بومدين الديمقراطية ترفا فكريا أبعد ما يكون عن التطلعات الشعبية التي كانت حاجاتها، حسب زعمه، تنحصر في محو الأمية والفقر والبطالة (طبعا هم زعم فيه قدر كبير من الوجاهة ولكنه اتخذ ذريعة لفرض الاستبداد).
تجذر الفكر الاستبدادي في ثقافاتنا المحلية المستندة إلى الموروث الديني والولاء لبُنَى رجعية دينية وقبلية وجهوية ساهم في إقناع هذه النخب بوجهات نظر أعداء الحريات والديمقراطية. بل إن التأييد الكاسح الذي يقترب من التقديس والذي راح يحظي به بومدين تدريجيا من طرف الشعب جعل المعارضين يتوقفون عن كل معارضة (تصريح بوضيف).

لكن النموذج الاشتراكي السوفييتي الاستبدادي لا يمكن تبرئة ساحته. كانت الدعاية الواردة من البلدان الاشتراكية حول التنمية المتسارعة وحول الإنجازات العلمية، بل وحول السبق المُحْرَز في غزو الفضاء قد بثت في النخبة السياسية والفكرية في الجزائر، وفي العالم الثالث أيضا، وَهْمَ إمكانية التغلب على التخلف عبر حرق المراحل وتجميع كل طاقات البلاد البشرية والاقتصادية بين أيدي سلطة واحدة وحيدة، قادرة، حسب زعمها، على الانتقال بالمجتمعات من البنى الاقتصادية والاجتماعية والفكرية المتخلفة إلى مجتمع الحرية والعدالة والتقدم والمساواة كما كان يروج لها اليساريون والقوميون في العالم. ولهذا كان يجري تصنيف كل نقد ومعارضة على أنهما تشويش وخيانة تعرقل هذه الطموحات (لفظ المشوشين كان شائعا جدا عندنا ويطال كل المعارضين). بل هناك من كان يوهم الناس بأنه من الممكن الانتقال من تشكيلات اجتماعية ما قبل رأسمالية (عبودية وإقطاعية وقبلية...) إلى تشكيلات اجتماعية ما بعد رأسمالية (اشتراكية، تعاونية، شيوعية...).

لهذا كان اليسار عنوان الثقافة والنضال لتلك الحقبة بلا منازع. كان أغلب المثقفين من اليسار، ساسة، نقابيين، كتاب، فنانين، مفكرين، رجال مسرح، سينما، جامعيين... بل حتى أهم حزب يساري سليل الحزب الشيوعي الجزائري الذي تأسس وناضل في العهد الاستعماري (قبل أن يتحول إلى حزب الطليعة الاشتراكية بعد الاستقلال)، كان لا يولي أي اهتمام للحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية وحقوق المرأة؛ كلها قضايا كان يجري تسويفها باعتبار حلها سيكون تحصيل حاصل لانتصار الاشتراكية. كان يمارس تأييدا مشروطا للنظام الحاكم على أساس مزيد من التوجه يسارا نحو التأميمات وهيمنة القطاع العام ومحاربة القطاع الخاص والتخويف من البرجوازية والرأسمالية والإمبريالية وتوثيق أكثر للعلاقات مع البلدان الاشتراكية، والسكوت وحتى التواطؤ إزاء ما كان يرتكب في حق المعارضين. (للأمانة يجب أن نقول أيضا بأنه كان من بين التشكيلات السياسية الأولى التي عدلت جذريا في توجهاتها اليسارية خاصة تحت قيادة الهاشمي الشريف، فنبهت، ولو متأخرة، إلى خطر الأصولية الإسلامية وحذرت منها وطالبت بحل أحزابها ومقاطعة الانتخابات التي يشاركون فيها، بعد أن شارك هذا الحزب نفسه في الانتخابات المحلية وفشل فشلا ذريعا، لأنه رغم قطيعته مع الفكر اليساري الاستبدادي والدعوة إلى نهج اقتصاد السوق والقطيعة مع النظام الريعي البيروقراطي، فقد نجح أعداؤه، تعميم صورة منفرة عنه، في نظر الناس، كحزب الشيوعيين الملحدين أعداء الدين).
الفشل كان بالمرصاد لهذه التجربة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في إدارة شؤون البلاد. كان نظام بومدين يعاني من عيوب كثيرة أهمها الاستبداد، طبعا، ثم اعتماده على حزب جبهة التحرير الوطني الذي تحول إلى تجمع رجعي للوصوليين والانتهازيين وعديمي الكفاءة والنزاهة والالتزام (شعارات بومدين الثلاثة) بعد أن غادره أو أبى الانضمام إليه كل الأكفاء والنزهاء في البلاد. كان استفحال البيروقراطية في دواليب الدولة عامل عرقلة كبيرة لكل المشاريع، حتى أنه كان يضطر من أجل تطبيق مخططات (ثوراته) إلى تشكيل لجان مستقلة حتى يلتف على سلبية حزبه وعراقيله.
فشل التجربة التنموية في الجزائر إذن لا ينحصر فقط في الجانب الاقتصادي حيث انهارت الثورة الصناعية والثورة الزراعية والثورة الثقافية وأفلست المصانع وتحولت إلى عبء ثقيل على الدولة بسبب ما كانت تستنزفه من دعم خزينة الدولة عاما بعد عام. وحينها برزت حلول كثيرة تدور كلها حول مزايا اللبرالية الاقتصادية والخصخصة والانخراط في العولمة... الخ، وضرورة تَخَفُّف الدولة من واجباتها الاجتماعية نحو الشعب. ثم ظهر الإسلاميون بحلولهم الإسلامية الوهمية ووجدوا الساحة مهيأة لهم: تركة سلبية في إدارة شؤون البلاد وغلبة عنصر الشباب، الذي أسِيئت تربيته وتعليمه، على سكان البلاد وخاصة مدى استعداد هذه الشريحة الطبيعي للانسياق وراء المغامرين وباعة الأوهام.

إذن كان أهم جانب فشلت فيه البلاد، هو جانب تكوين الإنسان (مقارنة بجارتنا تونس مثلا). السبب لا يعود إلى قلة الإمكانيات المادية التي رُصِدَت له. المؤسسات التربوية تضاعفت مئات المرات عما كانت عليه أيام الاستعمار. ميزانيات وزارة التربية كانت ضمن الميزانيات الأولى في البلاد. السبب أيضا لا يعود إلى تقصير الدولة في الإسكان والرعاية الصحية؛ فقد بنت الدولة الجزائرية منها الكثير، وساعدت الناس على البناء، بشكل نادر في العالم. مئات المدن برزت إلى الوجود بسرعة كالفطر وتوسعت بشكل بشع وأخطبوطي بسبب التسرع من أجل مواجهة الطلب المتزايد لشعب يتناسل بشدة. البلاد كلها ظلت ومازالت عبارة عن ورشة. الأشغال تجري في كل مكان.

رغم هذا يجب أن نعترف أن هناك فعلا فشلا ذريعا في تكوين الإنسان وهي الطامة الكبرى. السبب الرئيسي يعود إلى عدم تحكم الدولة في النمو السكاني الذي تضاعف خمس مرات في نصف قرن (عكس جارتنا تونس أيضا التي لم يتضاعف عدد سكانها في نفس الفترة مرة واحدة). (للعلم فقط، فإن النمو السكاني في أغلب البلدان الأوربية لم يتضاعف مرة واحدة منذ قرن، ما عدا بعض الاستثناءات). لعلي لا أجازف لو قلت بأن أغلب ما فشلنا فيه يعود إلى هذا العامل المدمر.
ولا يعقل والحالة هذه أن ينجح أي برنامج تربوي تعليمي أو سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي ضمن هذه الظروف القاهرة. السياسة الشعبوية التي لجأت إليها النخب السياسية في الجزائر (مهما كانت النوايا حسنة) كانت مدمرة في مجال التربية والتعليم والتكوين. كان توظيف المعلمين لمواجهة العجز يتم بأدنى الشروط لمواجهة الاكتظاظ المهول في الأقسام، وكان التساهل في الانتقال من طور إلى طور، وكان الضغط المتصاعد، وكان التعريب المتسرع لإحلال العربية محل الفرنسية. المضحك أن التعريب بدأ بأهم المواد التي تصنع العقول (أي العلوم الإنسانية والآداب) فأدى إلى تخريج جيل كامل من الشباب بأدنى شروط التكوين وفقر مهول على مستوى العقلانية والتحصيل المعرفي غير المشوه (بل إن طلبة العلوم الإنسانية والآداب كانوا أقل قيمة من حيث المنح مقارنة بغيرهم من طلبة العلوم الدقيقة، توهما بأن البلاد في حاجة أكثر إليهم). ثم اشتدت البطالة الترفية (Chômage de Luxe) بين خريجي الجامعات ضعيفي التكوين (صرح رئيس الوزراء مؤخرا أن عدد خريجي الجامعات العاطلين عن العمل يفوق سبعمائة ألف)، واشتد الضغط على التشغيل وتم التوظيف في المؤسسات الحكومية بدون حاجة اقتصادية إليه، مما أتعب القطاع العام وساهم في خنقه مع ما كان يعانيه من بيروقراطية وتوجيهات فوقية لا علاقة لها بالتسيير العلمي.

كانت نتيجة الانتخابات المحلية (1990) قد دقت ناقوس الخطر عندما مَكَّنَ الناس الجبهة الإسلامية للإنقاذ من الفوز بأغلبية مجالس البلديات والولايات، والتي راحت تضاعف من مظاهر الأسلمة إلى غاية فتح (أسواق إسلامية) تباع فيها السلع بأسعار زهيدة تقل عن تكلفتها الحقيقية لإيهام الناس بتفوق الحلول الإسلامية. لكن أصداء هذا الناقوس لم تصل إلى مقرات أغلب الأحزاب السياسية، التي واصلت توجيه حملاتها المسعورة نحو إسقاط النظام القائم مهما كان من يخلفه من السوء والتخلف والرجعية شأن الإسلاميين. في هذه الظروف كان الخطاب الإسلامي يشتد ضراوة وتطرفا ضد الجميع، سلطة ومعارضة كان يجري تكفيرهما صراحة، ويستهوي أفئدة مزيد من الناس بمن فيهم يساريون وقعوا صرعى هذه الجماهيرية المغشوشة.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=228975
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=229410

ثم كان تصويت الناس بالأغلبية الساحقة، عام 1991، في الانتخابات التشريعية، لأحزاب إسلامية على رأسها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، مع أن هذا الحزب الأخير كان لا يتحرج في التصريح بأن الديمقراطية كفر، وأن الانتخابات بيعة، والبيعة مرة واحدة في الإسلام؛ كان هذا التصويت قد انتهى إلى يقظة أحزاب ونقابات وجمعيات كثيرة شعرت بالخطر على وجودها وعلى وجود البلاد برمتها، فراحت تطالب الجيش بالتدخل لوقف المسار الانتخابي، واستجاب الجيش، ولكن بعد أن اكتسب الإسلاميون شرعية دستورية ظلوا ومازالوا يرفعون مظلوميتها كقميص عثمان. تدخل الجيش، إذن، بعد أن اشتدت استفزازات الإسلاميين تجاهه وتجاه المعارضة وبعد أن تعرضت ثكنة عسكرية لهجوم إرهابي وتذبيح جنودها من طرف إرهابيين ثبت أنهم كانوا (مناضلين) في الجبهة الإسلامية من العائدين من أفغانستان.
نعم قد يكون التساهل مع اعتماد أحزاب دينية جريمة نكراء في حق الديمقراطية وفي حق البلاد تتحملها الدولة بنفس القدر مع الطبقة السياسية (الديمقراطية) المعارضة التي تعاملت مع الإسلاميين كشريك طبيعي وكأننا في بلد استقرت فيه الممارسة الديمقراطية منذ أجيال، وقد يكون هدف جهات في السلطة الانقلاب على الديمقراطية من خلال إخراج الجن من القمقم لتخويف الناس ودفعهم للالتفاف حولها كأكبر قوة قادرة على الوقوف في وجه الإسلاميين، ولكن، هذا لا يفسر انسياق شعبنا بهذه الصورة المخجلة وجبانة وراء أحزاب دينية تكفر قيم الحداثة وتدعو إلى العودة بالمجتمعات إلى عصور الظلام، وكأن الساحة السياسية كانت خالية من أية معارضة سوى الإسلاميين. كانت نتيجة الانتخاب رمزا يعبر عن رغبة الناس الدفينة في الانتقال من هيمنة أبوية مريحة مثلها الحزب الواحد إلى هيمنة حزب آخر واحد وحيد يعفيهم شر النضال واليقظة الدائمة كما هو حال كل المجتمعات الحية، مع كون الأب الأخير لا يقبل غيره في الساحة بمن فيهم إخوته الآخرون في الدين أي الأحزاب الإسلامية الأخرى. وهذا من جانب آخر هو نتيجة طبيعية لتجذر أوهام المهدي المنتظر أو بتعبير عصري، المستبد العادل، بين الناس.
المأساة التي تلت وقف المسار الانتخابي وتواصلت حتى أيامنا (أكثر من عشرين سنة) لم تفرز وعيا ديمقراطيا علمانيا حقيقيا، حتى الآن، سواء في أوساط الشعب أم في أوساط النخب السياسية في المعارضة وفي السلطة. كانت هذه التجربة وما تلاها من حرب أهلية قد جعلت الناس يجرّمون الديمقراطية بالذات التي أفرزت لنا كل هذه الفوضى، حسب تقديرهم، فراحوا يحلمون بقدوم وصي مستبد آخر، ولسان حالهم يقول مع فقهاء الإسلام (ظلم غشوم غير من فتنة تدوم) . بينما الطبقة السياسية أصيبت بالتفسخ والتحلل وانهارت الأحزاب وسقطت في أوحال الانشقاقات والتحالفات المشبوهة وإغراءات السلطة. ومازالت المعارضة ترى في النظام القائم عدوها اللدود والمسؤول الأول عن هذا الانسداد، بحيث تقوم الآن تحالفات لقيطة ضمت تيارات وشخصيات محسوبة على الديمقراطية جنبا إلى مع تيارات وشخصيات إسلامية بعضها ساهم في توريط البلاد في وحل الإرهاب ومازال على العهد باقيا، بل كان ضمن هذا التحالف المشبوه إسلاميون كانوا ومازالوا يوجهون أسلحة وخناجر الإرهابيين نحو هؤلاء الديمقراطيين (العلمانيين) أنفسهم عبر تشويه الحقائق والتنكر لدورهم الإرهابي بل وتبرير الإرهاب!!!
https://www.youtube.com/watch?v=X0YLHY4Snbs

لم تتمكن القوى الديمقراطية من توحيد صفوفها وتشكيل بديل قوي مقنع، بل العكس هو ما حدث ويحدث. وهذا ما يفسر إحجام الكثيرين عن المشاركة في الحياة السياسية ومن ضمنها الانتخابات، بينما يفضل البعض (الاستقرار)، مهما كان سيئا، بدل المغامرة في تجربة أخرى غير مضمونة النتائج (كما بينته نتيجة الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي انتُخِب فيها بوتفليقة، مهما كان حجم التزوير والمقاطعة).
طبعا لا أزعم أنني أحطت بكل جوانب الموضوع. ما قدمت عبارة عن مداخلة في حاجة إلى مداخلات القراء وأسئلتهم من أجل مزيد من الفهم.