أفنان القاسم بين التنوير والتجهيل


عبد القادر أنيس
الحوار المتمدن - العدد: 4895 - 2015 / 8 / 13 - 23:10
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

أفنان القاسم: بين التنوير والتجهيل
مقالات أفنان القاسم ينطبق عليه المثل الشعبي عندنا: جا يكحلها عماها
سأبدأ بآخر مقال له: "الحريات7: الجزائر".
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=480126

كتب أفنان القاسم: "يقوم النظام السياسي في أمريكا على النظام الاقتصادي، يرفد أحدهما الآخر لدرجة أن إستراتيجيتهما تصبح واحدة، فالطبيعة الأمريكية التي وصفتها هي من الطبيعة الليبرالية الجديدة للإمبراطورية الرأسمالية، الإمبراطورية الإجمالية (Empire Global)وهذه الإمبراطورية الإجمالية هي التي تدير في الواقع شئون العالم، أو تدار شئون العالم بالطرق التي تخدم مصالحها، فقط مصالحها، ما يدر عليها من مكاسب، والنتائج، لا بأسَ، أيًا كانت النتائج، كما هي حال الجزائر خلال الحرب الأهلية المفبركة في التسعينات من القرن الماضي".
رغم أنني لا أشاطره فكرة "الإمبراطورية الإجمالية" التي "تدار شئون العالم بالطرق التي تخدم مصالحها"، ولكن لن أسترسل في هذه النقطة بالذات هذه المرة وقد أعود إليها في مقال آخر.
سأركز فقط على ما أختلف معه فيه وهو كثير جدا حول الجزائر، قد يستغرق مني مقالات عديدة. وبعض الأخطاء ترقى إلى المغالطات التي تكفي لتحويل جهد الكاتب التنويري (إذا كانت هذه هي نيته) إلى جهد تجهيلي، خاصة تلك التي يتبنى فيها تفسيرات أعداء الحرية والتنوير في بلداننا.
كتب في نهاية الفقرة السابقة: "... كما هي حال الجزائر خلال الحرب الأهلية المفبركة في التسعينات من القرن الماضي".
حسب الكاتب كانت الحرب الأهلية في الجزائر مفبركة. وطبعا قام بفبركتها الجنرالات خدمة لمصالح أمريكا. هل هذا الكلام معقول وتنويري أيضا؟
إذا كان الكاتب يجهل فعلا أن الحرب الأهلية في الجزائر أشعلها الإسلاميون حتى قبل تعطيل المسار الانتخابي فلا عذر لجهله، أما إذا كان يعرف ويتستر على الحقيقة فهو التجهيل بعينه. وهو تجهيل لا يساعد أبدا مجتمعاتنا على التحرر، كما يزعم الكاتب لجهده (التنويري).
طبعا هذا لا يعني أن النظام السياسي في الجزائر لا علاقة له بما وقعت فيه البلاد من ويلات الحرب الأهلية، لكن المسألة لا علاقة لها بقول الكاتب: "الجنرالات الذين دمروا الجزائر، بينما الغاز والبترول الجزائريان لم يتوقفا عن الإرسال إلى عنوانهما: الإمبراطورية الإجمالية". وهو قول وموقف قد يدفعان المستهدَف من التنوير إلى استسهال الأمور وتوقع الحلول بمجرد الإطاحة بالجنرالات أو بالزعماء الاستبداديين مثل بوتفليقة و مبارك والقذافي وصدام وغيرهم وليس يهم بين أيدي من يمكن أن يقع مصير بلداننا، بينما الاستبداد ثقافة عامة عندنا متجذرة في أصغر بنية اجتماعية (الأسرة) إلى أكبرها وأعقدها مرورا بالمدرسة والمسجد والمؤسسة...
الجزائر استقلت وهي حبلى بعيوب كثيرة شأنها شأن أغلب بلدان العالم الثالث (قرون من الانحطاط ثم الاستعمار). أهم هذه العيوب تتمثل في التخلف العام الذي كان السمة الغالبة على الحياة السياسية والفكرية والدينية والاجتماعية والثقافية لدى شعوبنا. وهو وضع يستحيل معه بناء دول وطنية حديثة ديمقراطية بسهولة. وكان من تحصيل الحاصل أن يستولي فصيل من الجيش عام 1962 (جيش الحدود بالتحديد، الذي كان بعيدا عن أرض المعارك) والذي كان يقوده بومدين بالتحالف مع بن بلة على مقاليد السلطة واستبعاد الآخرين، قبل أن يقرر الانقلاب على بن بلة والاستفراد بالحكم (1965) (طبعا حتى الآخرون كانت برامجهم قائمة على استبعاد الآخر، يعني كما نقول في الجزائر: طاق على من طاق) (وهي حالة مازالت ماثلة حتى اليوم). في تلك الحقبة لم يكن للجزائر جنرال واحد. فقط عدة عقداء (COLONELS) تقلدوا رتبهم بسرعة البرق إبان الثورة لتأطيرها وكان أغلبهم شباب متواضعي التكوين دون الثلاثين عمرا، ومنهم بومدين.
في غياب نخبة سياسية وثقافة سياسية عامة ديمقراطية وعصرية في الجزائر متجذرة بين الجماهير، كان من المستحيل أن تسير البلاد في اتجاه آخر غير اتجاه الاستبداد أو الفوضى والمزيد من التفكك. وهو اتجاه، يجب أن نعترف، من جهة أخرى، أنه وَجَدَ في النموذج السوفييتي للحكم والتنمية ضالته، باعتباره عدوا لدودا للحرية والديمقراطية باعتبارهما صنيعة برجوازية، بالإضافة طبعا إلى تجذر الفكر الاستبدادي في ثقافاتنا المحلية المستندة إلى العادات والتقاليد والدين. هذا النموذج بث في النخبة السياسية في الجزائر، وفي العالم الثالث أيضا، وَهْمَ إمكانية التغلب على التخلف عبر حرق المراحل وتجميع كل إمكانيات البلاد البشرية والاقتصادية بين أيدي سلطة واحدة وحيدة، قادرة، حسب زعمها، على الانتقال بالمجتمعات من البنى الاقتصادية والاجتماعية والفكرية المتخلفة إلى مجتمع الحرية والعدالة والتقدم والمساواة كما كان يروج لها اليساريون والقوميون في العالم. بل هناك من كان يوهم الناس بأنه من الممكن الانتقال من تشكيلات اجتماعية ما قبل رأسمالية (عبودية وإقطاعية وقبلية...) إلى تشكيلات اجتماعية ما بعد رأسمالية (اشتراكية، تعاونية، شيوعية...).
طبعا، لا شأن لي هنا بالنوايا. قد تكون نوايا بومدين ورفاقه حسنة وهم يستولون على السلطة ويفرضون فرضا برامجهم وإصلاحاتهم وثوراتهم الثلاث (الثورة الزراعية، الثورة الصناعية، الثورة الثقافية) وشعارهم الثلاثي: (النزاهة والكفاءة والالتزام). لكن تجري الرياح بما لا تشتهيه السفن. بومدين اعتمد على الثروات الطبيعية، خاصة البترول، وباشر برامج كثيرة ثلاثية ورباعية اقتصادية وزراعية وثقافية. والنتيجة معروفة. وهي معروفة في كل مكان من العالم، خاصة مع فشل التجربة التنموية السوفييتية في ظل الاستبداد.
فشل التجربة الاشتراكية في الجزائر إذن لا ينحصر فقط في الجانب الاقتصادي حيث انهارت الثورة الصناعية وأفلست المصانع وتحولت إلى عبء ثقيل على الدولة بسبب ما كانت تستنزفه من الدعم عاما بعد عام. وحينها برزت حلول كثيرة تدور كلها حول مزايا اللبرالية الاقتصادية والخصخصة والانخراط في العولمة... الخ.
لكن أهم جانب فشلت فيه البلاد، هو جانب تكوين الإنسان (مقارنة بجارتنا تونس مثلا). السبب لا يعود إلى قلة الإمكانيات المادية التي رُصِدَت له. المؤسسات التربوية تضاعفت مئات المرات عما كانت عليه أيام الاستعمار. ميزانيات وزارة التربية كانت ضمن الميزانيات الأولى في البلاد. السبب أيضا لا يعود إلى تقصير الدولة في الإسكان والرعاية الصحية؛ فقد بنت الدولة الجزائرية منها الكثير، وساعدت الناس على البناء، بشكل نادر في العالم (عكس ما يدعيه أفنان القاسم). مئات المدن برزت إلى الوجود بسرعة كالفطر وتوسعت بشكل بشع وأخطبوطي بسبب التسرع لمواجهة الطلب. البلاد كلها ظلت ومازالت عبارة عن ورشة. الأشغال تجري في كل مكان.
رغم هذا يجب أن نعترف أن هناك فعلا فشلا ذريعا في تكوين الإنسان وهي الطامة الكبرى. السبب الرئيسي يعود إلى عدم تحكم الدولة في النمو السكاني الذي تضاعف خمس مرات في نصف قرن (عكس جارتنا تونس أيضا التي لم يتضاعف عدد سكانها في نفس الفترة مرة واحدة). (للعلم فقط، فإن النمو السكاني في أغلب البلدان الأوربية لم يتضاعف مرة واحدة منذ قرن، ما عدا بعض الاستثناءات).
ولا يعقل والحالة هذه أن ينجح أي برنامج سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي ضمن هذه الظروف القاهرة. السياسة الشعبوية التي مارستها الدولة الجزائرية (مهما كانت النوايا حسنة) كانت، مثلا، مدمرة في مجال التربية والتعليم والتكوين. كان توظيف المعلمين لمواجهة العجز يتم بأدنى الشروط لمواجهة الاكتظاظ المهول في الأقسام، وكان التساهل في الانتقال من طور إلى طور، وكان الضغط المتصاعد، قد أدى إلى تخريج جيل كامل من الشباب بأدنى شروط التكوين. ثم اشتدت البطالة واشتد الضغط على التشغيل وتم التوظيف في المؤسسات الحكومية بدون حاجة اقتصادية إليه، مما أتعب القطاع العام وساهم في الإطاحة به مع ما كان يعانيه من بيروقراطية وتدخلات لا علاقة لها بالتسيير العلمي.
الغريب أن يتجاهل الكاتب كيف أن الناس عندنا صوتوا بالأغلبية الساحقة، عام 1991، في الانتخابات التشريعية، لأحزاب إسلامية على رأسها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، مع أن هذا الحزب الأخير كان لا يتحرج في التصريح بأن الديمقراطية كفر، وأن الانتخابات بيعة، والبيعة مرة واحدة في الإسلام. نعم قد يكون التساهل مع وجود أحزاب دينية جريمة نكراء في حق الديمقراطية وفي حق البلاد تتحملها الدولة، وقد يكون هدف السلطة الانقلاب على الديمقراطية من خلال إخراج الجن من القمقم، ولكن، هذا لا يفسر انسياق شعبنا بهذه الصورة المخجلة وراء أحزاب دينية تكفر قيم الحداثة وتدعو إلى العودة بالمجتمعات إلى عصور الظلام. وهذا ما يجب أن يكون في صميم أي جهد تنويري.
يتبع