حتى القرضاوي يريدها دولة ديمقراطية مدنية 1


عبد القادر أنيس
الحوار المتمدن - العدد: 4935 - 2015 / 9 / 24 - 13:40
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

حتى القرضاوي يريدها دولة ديمقراطية مدنية

حتى القرضاوي يريدها دولة ديمقراطية مدنية، لكنها " .. دولة مدنية مرجعيتها الإسلام" كما جاء في عنوان مقالته المنشورة في موقعه:
http://qaradawi.net/new/library2/294-2014-01-26-18-55-04/4029-
في البداية هاجم القرضاوي العلمانيين لأنهم، حسب رأيه، اتفقوا على (حرمان الإسلام من حق إقامة دولة) وأنهم لَفَّقُوا (مزاعم حول طبيعة هذه الدولة المرجوة، فقد تَقَوَّلُوا عليها الأقاويل، وصوروها تصويرا مليئا بالأخْيِلَة والتهاويل. قالوا إنها دولة (دينية) ويعنون بالدِّينية: أنها دولة كهنوتية، تتحكم في أهل الأرض باسم السماء، وتتحكم في دنيا الناس باسم الله، ويدَّعون أن (حاكمية الله) التي قال بها داعيان كبيران من دعاة العصر: أبو الأعلى المودودي في باكستان، وسيد قطب في مصر، توجب أن تكون هذه الدولة دينية. كدولة الكنيسة الأوربية فيما سمي: (العصور الوسطى).).
القرضاوي أصاب عندما قال بأن العلمانيين اتفقوا على (حرمان الإسلام من حق إقامة دولة). فالعلماني الملتزم بشروط العلمانية المدرك تمام الإدراك لضرورتها الحضارية، لا بد أن يعارض معارضة لا هوادة فيها إقامة الدولة الإسلامية. السبب واضح من عنوان القرضاوي نفسه: (دول مدنية مرجعيتها الإسلام)، وأي دولة تكون مرجعيتها دينية فهي دولة دينية. وما يقوله العلمانيون ليس مزاعم بل حقائق، وأي دولة مرجعيتها دينية فهي بالضرورة (دولة كهنوتية، تتحكم في أهل الأرض باسم السماء، وتتحكم في دنيا الناس باسم الله..).
أما دولة القرضاوي المدنية فهي خدعة تمكن الإسلاميون من تمريرها في بلداننا بعد أن انخدع بها أشباه العلمانيين والانتهازيين. ولقد قرأتُ مقالات كثيرة، حتى في موقعنا العلماني هذا، تدعو العلمانيين إلى التخلي عن مصطلح العلمانية واستبداله بمصطلح (المدنية)، تحاشيا لاستفزاز الناس أو تخويفهم بسبب ما ترسخ في عقولهم من قناعات سلبية حول مضمون العلمانية. بل رأى كاتب كبير في شخص محمد عابد الجابري أن العلمانية لا محل لها من الإعراب في ديارنا، وأن الأخذ بالديمقراطية وحده كاف، و(أن "مسألة العلمانية في العالم العربي مسألة مزيفة"؛ لأن "الإسلام ليس كنيسة كي نفصله عن الدولة".. و“أن الإسلام دنيا ودين، وأنه أقام دولة منذ زمن الرسول، وأن هذه الدولة توطدت أركانها زمن أبي بكر وعمر، وإذن فالقول بأن الإسلام دين لا دولة هو (في نظره) قول يتجاهل التاريخ".
http://urlz.fr/2rL0
موقف الجابري وغيره من العلمانية يعبر، إما عن جهل مطبق، أو عن انتهازية مقيتة، كما أرى، خاصة إذا جاءت من سياسيين وصوليين همهم الأوحد استرضاء العامة والتسلق على ظهورها نحو السلطة. لهذا أشاد القرضاوي بموقف الجابري. وسأعود إلى موقف الجابري من العلمانية في مقال منفصل حول ما إذا كان يمكن الفصل بين الديمقراطية والعلمانية، كما رأى الجابري أم لا. أما الآن فأحب أن أتفرغ للقرضاوي ودولته المدنية ومرجعيتها الإسلام!
يقول القرضاوي: (وهذه الدولة في رأيهم (أي العلمانيين)، إنما يملك زمامها (رجال الدِّين) الذين ليس لأحد غيرهم أن يفسر الدِّين أو يصدر الأحكام، وهم يفسرون الدِّين من منطلق الجمود والأفق الضيق، ويرجعون إلى الأوراق القديمة، ولا ينظرون إلى الآفاق الجديدة. وهذه كلها دعاوى ما أنزل الله بها من سلطان، ولا قام عليها برهان).
ومرة أخرى أصاب القرضاوي. فأي دولة تكون مرجعيتها الإسلام لابد أن تكون خاضعة في إدارة شؤونها لرجال الدين، سواء تولوا هم السلطة فيها مباشرة أم تولاها (مدنيون) لا بد أن يراعوا حكم الشرع في كل خطوة يخطونها ولا بد أن يكون رجال الدين جزءا من السلطة، يؤيدون ويباركون ويزكون. ورأي العلمانيين في رجال الدين الإسلامي على أنهم (يفسرون الدِّين من منطلق الجمود والأفق الضيق، ويرجعون إلى الأوراق القديمة، ولا ينظرون إلى الآفاق الجديدة)، رأي صحيح لا غبار عليه؟
العبرة هنا ليس بمن يتولى السلطة بل بطبيعة هذه السلطة. فالنظام الديمقراطي العلماني لا يمنع رجل الدين من تولي السلطة أو الترشح لها ما دام ذلك يتم ضمن شروط العلمانية. الأسقف مكاريوس ترأس دولة علمانية في قبرس، كما ترشح القس جيسي جاكسن للرئاسيات في أمريكا، ولو فاز لما تغير شيء في علمانية الدولة الأمريكية.
لكن القرضاوي لا يهتم بحقائق التاريخ والجغرافية والسياسة حين يقول بثقة تبلغ حتى الغرور: (الحق أن الدولة الإسلامية: دولة مدنية، ككل الدول المدنية، لا يميزها عن غيرها إلا أن مرجعيتها الشريعة الإسلامية). فإذا قالت حذام فصدقوها، فإن القول ما قالت حُذام!!!
فماذا أبقى القرضاوي للدولة المدنية التي ينصحنا العلمانيون المزيفون أن نأخذ بها بدل الإصرار على الدولة العلمانية؟
دولة مدنية مرجعيتها الشريعة الإسلامية. فماذا يفهم القرضاوي في الدولة المدنية يا ترى؟
يشرح لنا معنى (مدنية الدولة): (أنها تقوم على أساس اختيار القوي الأمين، المؤهل للقيادة، الجامع لشروطها، يختاره بكل حرية: أهل الحل والعقد، كما تقوم على البيعة العامة من الأمة، وعلى وجوب الشورى بعد ذلك، ونزول الأمير أو الإمام على رأي الأمة، أو مجلس شوراها، كما تقوم كذلك على مسؤولية الحاكم أمام الأمة، وحق كل فرد في الرعية أن ينصح له، ويشير عليه، ويأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر. بل يعتبر الإسلام ذلك فرض كفاية على الأمة، وقد يصبح فرض عين على المسلم، إذا قدر عليه، وعجز غيره عنه، أو تقاعس عن أدائه. إن الإمام أو الحاكم في الإسلام مجرد فرد عادي من الناس، ليس له عصمة ولا قداسة. وكما قال الخليفة الأول: "إني وليت عليكم ولست بخيركم". وكما قال عمر بن عبد العزيز: "إنما أنا واحد منكم، غير أن الله تعالى جعلني أثقلكم حملا".)
هذه هي الدولة المدنية بمرجعية إسلامية كما قرر القرضاوي. وهي دولة يمكن أن تصح وصفا لدول إسلامية استبدادية مثل ممالك الخليج ومثل (جمهورية إيران الإسلامية)، بل قد لا تستحق جمهورية إيران الإسلامية هذا الوصف رغم استحواذ الولي الفقيه دستوريا على كل الصلاحيات، رغم أنه ليس منتخبا، بعد أن تكرَّم وأبقى للشعب بعض الفتات. أما دولة القرضاوي المدنية فلا تبقي لنا حتى الفتات، لأنها أصلا من مخلفات القرون الوسطى الظلامية شكلا ومضمونا. فحتى الألفاظ تعود إلى عصور ظلامية بائدة "القوي الأمين، "الجامع لشروطها".. "أهل الحل والعقد"، "البيعة العامة من الأمة"، "الشورى" "نزول الأمير أو الإمام على رأي الأمة"، "الرعية" "يأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر"، "فرض كفاية"، "فرض عين على المسلم" (يعني المسلم فقط طبعا!)، "الإمام".
أما مضمون هذا الكلام فهو كتلة من الأكاذيب. فدولة القرضاوي (المدنية) التي (تقوم على أساس اختيار القوي الأمين، المؤهل للقيادة، الجامع لشروطها، يختاره بكل حرية: أهل الحل والعقد، كما تقوم على البيعة العامة من الأمة..)، كذب في كذب. فمن يختار هذا القوي الأمين أولا؟
الحقيقة أن تاريخ الفقه السياسي الإسلامي لم يستقر على رأي في هذه المسألة. وحتى لو سلمنا كذبا مع القرضاوي بأن (أهل الحل والعقد) لهم دور ما فيه، فمن حقنا أن نسال: من هم هؤلاء القوم ومن أين جاؤوا ومن نصبهم علينا أهلا للحل والعقد؟
القرضاوي لا يرى أنه معني بهذه المسألة المصيرية جدا في حياة الأمم، رغم أننا نعرف كما يعرف هو، من خلال تاريخ الحكم الإسلامي، أن هذه الفئة المسماة (أهل الحل والعقد) مجرد خرافة، فلا هم كانوا في تاريخ الدولة الإسلامية يحلون ولا كانوا يربطون. هم مجرد مجموعة من مقربي الحاكم من المتسلقين والانتهازيين والأمعيين، يعينهم الحاكم بناء على هذه الصفة فيهم، ليكونوا مجرد ديكور في أحسن الأحوال، أما في أسوئها فلا وجود لهم كهيئة سياسية، وحتى فقهاء الإسلام الذين يحبذون وجودهم إلى جانب الملك، لعلهم هذا المنصب الرفيع يكون من نصيبهم، رأوا دائما أن رأيهم استشاري غير ملزم للحاكم. وحتى في حالة ما إذا صادف أن وُجِدَ منهم من تجرأ وعارض حاكما أخلَّ ببعض النصوص المقدسة مثل إعجابهم بذلك الفقيه التافه الذي استفتاه الملك بعد أن وطئ جاريته في شهر رمضان، فأفتى له بكفارة صوم شهرين متتاليين، وعندما قيل له لماذا اخترت أشد الكفارات (صوم شهرين متتاليين) على الملك، مع أن الشرع يبيح له عتق رقبة (تحرير عبد) أو إطعام ستين مسكينا، رد بأنه شدد على الملك لأنه قادر على الكفارتين الأخريين وبوسعه أن يتجرأ على الدين مرة أخرى، ومثل ذلك الإعجاب الساذج التي يكنه الإسلاميون لحكاية العز بن عبد السلام (بائع الأمراء)، مع أن الأمراء المماليك اشتروا أنفسهم بأموال الدولة وعادوا إلى السلطة، كما كانوا، يعبثون بالبلاد والعباد، حتى هذه الأمثلة فهي تافهة ونادرة ولم تؤثر في مسيرة الحكم الاستبدادي، لأن رجال الدين غير معنيين أصلا بالاستبداد، مادام الحاكم ينصبهم رقباء على ضمائر العامة ويصلي وراءهم.
هذا جانب بائس في دولة القرضاوي (المدنية). فماذا عن خرافة البيعة؟
تاريخ الفقه السياسي الإسلامي عندما يحدثنا عن البيعة، إنما يحدثنا عن إجراء شكلي هامشي مادام الحديث عن كيفية الوصول إلى السلطة من الطابوهات. بل حتى في العصر الإسلامي الذي يعده الإسلاميون العصر الذهبي للدولة الإسلامية، لا نجد فيه نظاما محددا متفقا عليه لاختيار الخليفة. أبو بكر اغتصب السلطة بعد أن بايعه عمر لقطع الطريق عن أهل البيت والأنصار الذين كانوا يريدونها فيهم. أبو بكر رد الجميل لعمر فأوصى بها له. عمر ترك الأمر بين خمسة نفر وأوصى بضرب عنق من يعترض على قرارهم، وبعد مقتل عثمان، سادت الفوضى ومنطق الغلبة إلى يومنا هذا.
البيعة إذن إجراء شكلي يتقرر بعد أن يتم تنصيب الخليفة أو الحاكم بأي طريقة ممكنة بما فيها الغصب. ثم يَنَادَى في الناس فيجتمعون ويبايعون الحاكم ويعودون إلى بيوتهم وتبقى الخلافة والسياسة شأنا من شؤون الحاكم، أما الرعية فعليها السمع والطاعة. ونظرا للفوضى التي سادت العصور الإسلامية فقد نهى الفقهاء عن الخروج عن الحاكم مادام لم يحرم حلالا ولم يحلل حراما كأن يهى عن الصلاة مثلا، أما الأمور السياسية والاقتصادية فلا شأن للحلال والحرام فيها.
قول القرضاوي بأن ( الإمام أو الحاكم في الإسلام مجرد فرد عادي من الناس، ليس له عصمة ولا قداسة. وكما قال الخليفة الأول: "إني وليت عليكم ولست بخيركم". وكما قال عمر بن عبد العزيز: "إنما أنا واحد منكم، غير أن الله تعالى جعلني أثقلكم حملا".)، مجرد خرافة.
الاستبداد بالحكم بدأ باكرا في تاريخ الإسلام، وهذا في حد ذاته، ليس عيبا، لولا أنه اكتسى ثوب القداسة. المصادر التي استقى منها القرضاوي هذه الحكايات هي نفسها التي تحكي لنا بأن عثمان بن عفان رفض التخلي عن الخلافة رغم المعارضة الشديدة لأنه رآها حقا إلهيا، قائلا: (لن أخلع قميصا سربلينه (أي ألبسنيه) الله). أما معاوية فقد تركها لابنه يزيد، دون من سواه، كما يقول بن خلدون (مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية، إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش وأهل الملة أجمع، وأهل الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع).
http://islamqa.info/ar/186682
أما الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور فقد خطب في الناس يوم عرفة فقال: "أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه ورشده، وخازنه على ماله، أقسمه بإرادته، وأعطيه بإذنه، وقد جعلني الله عليه قفلا، إذا شاء أن يفتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني، فارغبوا إلى الله أيها الناس، وسلوه، في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم به في كتابه، إذ يقول: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا، أن يوفقني للصواب، ويسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم، والإحسان إليكم، ويفتحني لإعطائكم، وقَسْمِ أرزاقكم بالعدل عليكم، فإنه سميع مجيب" .
http://library.islamweb.net/newlibrary/display_book.php?idfrom=1163&idto=1163&bk_no=59&ID=1332
وهكذا كان الحكم الإسلامي طوال القرون حكما ثيوقراطيا مثلما وصفه القرآن (قل اللهم مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ۖ-;- بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ-;- إِنَّكَ عَلَىٰ-;- كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
وعليه فقد كذب القرضاوي وصدق العلمانيون عندما قالوا: (..إنها دولة دينية.. تتحكم في أهل الأرض باسم السماء، وتتحكم في دنيا الناس باسم الله..).
يتبع