حتى القرضاوي يريدها دولة ديمقراطية مدنية 3


عبد القادر أنيس
الحوار المتمدن - العدد: 4941 - 2015 / 9 / 30 - 02:45
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

حتى القرضاوي يريدها دولة ديمقراطية مدنية 3

أواصل في هذه المقالة الثالثة والأخيرة قراءة مقالة القرضاوي "دولة مدنية مرجعيتها الإسلام":
http://qaradawi.net/new/library2/294-2014-01-26-18-55-04/4029-
يستنجد القرضاوي برأي محمد عبده: "وذلك (لأن الإسلام -كما يقول الأستاذ الإمام: دين وشرع، فهو قد وضع حدودا، ورسم حقوقا ... ولا تكتمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وُجِدت قوة لإقامة الحدود، وتنفيذ حكم القاضي بالحق، وصون نظام الجماعة ... والإسلام لم يدع ما لقيصر لقيصر، بل كان شأنه أن يحاسب قيصر على ما له، ويأخذ على يده في عمله ... فكان الإسلام: كمالا للشخص ... وأُلْفَة في البيت ... ونظاما للمُلك).
هذه الدولة (المدنية) بمرجعيتها الإسلامية هي دولة نهاية التاريخ فعلا، مع أنه لا نهاية للتاريخ، خاصة عند الأمم الحية التي لا تقف عجلة التطور فيها لحظة واحدة. أما دولة التي وُضِعت للناس فيها حدودٌ ورُسِمَت لهم حقوقٌ منذ 14 قرنا فستظل صالحة لكل زمان ومكان. قالوا للناس إنها كانت صالحة منذ 14 قرنا وهي صالحة لزماننا وستبقى صالحة أبد الدهر لمن يأتي بعدنا، بشرط أن لا يطالب الناس بأي تغيير حتى يبقوا منسجمين مع هذه الشريعة ودولتها لأن كل تغيير بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
لكن هل صحيح أن "..الإسلام لم يدع ما لقيصر لقيصر، بل كان شأنه أن يحاسب قيصر على ما له، ويأخذ على يده في عمله".
اللامعقول في هذا القول أننا، من الناحية النظرية، لا نجد في الإسلام، كتابا وسنة، ما يمكن أن نطلق عليه نظاما سياسيا ماليا محاسبيا متعارف عليه يمكن مقارنته بما أبدعته الأنظمة السياسية الحديثة ويجعلنا في غنى عنها. ومن الناحية العملية فإننا لا نجد في تاريخ الحكم الإسلامي الطويل العريض حاكما ينطبق عليه هذا القول؟ لا وجود لحاكم خضع للمحاسبة وأُخِذَ على يده. بل سأذهب بعيدا في هذا التحدي: في تاريخ الحكم الإسلام لا وجود لمبدأ الفصل بين المال العام والمال الخاص لدى الحاكم، بين مال الله ومال الخليفة. قول الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور خير دليل: "أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه ورشده، وخازنُه على ماله، أقسمه بإرادته، وأعطيه بإذنه، وقد جعلني الله عليه قفلا، إذا شاء أن يفتحني لإعطائكم وقَسْم أرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني، فارغبوا إلى الله أيها الناس، وسَلُوهُ، في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم به في كتابه، إذ يقول: "اليوم أكملتُ لكم دينَكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضِيتُ لكم الإسلام دينا"، أن يوفقني للصواب، ويسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم، والإحسان إليكم، ويفتحني لإعطائكم، وقَسْمِ أرزاقكم بالعدل عليكم، فإنه سميع مجيب".
حرصي على تكرار الاستشهاد بهذا القول للمرة الثالثة هو قناعتي أنه قول عَبَّر دائما ولا يزال يعبّر عن طبيعة الدولة الإسلامية في كل عهودها حتى أيامنا. فمازالت الدولة الإسلامية حتى اليوم كما تتجسد في العربية السعودية وغيرها من الدول الاستبدادية تدير الأموال العامة بطريقة غامضة لا يعرف المواطنون شيئا عن الناتج المحلي الخام وعن ميزانية الدولة ومصادرها، ناهيك عن غياب أية شفافية في إنفاقها. هذا في العصر الحديث، أما في العصور الإسلامية البائدة فقد كانت الثروات تتجمع كلها بين يدي السلطان ينفقها بلا حسيب ولا رقيب حتى جعل ابن خلدون طور الترف في الدولة طورا أساسيا حتميا لا بد أن تمر به قبل أن تنهار.
أحيل القراء إلى مقال يتحدث عن الثروات الخرافية للأسرة الحاكمة في السعودية التي تحكم بما أنزل الله.
http://urlz.fr/2t2S
هكذا كانت هذه الدولة الإسلامية، مع أنها مطمح ومطلب عزيز على قلوب الإسلاميين. يصف لنا ابن خلدون زواج المأمون بن هارون الرشيد حيث يقول: (وانظر ما نقله المسعودي والطبري وغيرهما في أعراس المأمون (ابن هارون الرشيد) ببوران بنت الحسن بن سهل، وما بذل أبوها لحاشية المأمون حين وافاه في خطبتها إلى داره بفم الصلح، وركب إليها في السفين، وما أنفق في أملاكها، وما نحلها المأمون وأنفق في عرسها، تقف من ذلك على العجب. فمنه أن الحسن بن سهل نثر يوم الإملاك في الصنيع الذي حضره حاشية المأمون، فنثر على الطبقة الأولى منهم بنادق المسك ملثوثةً على الرقاع بالضياع والعقار، مسوغةً لمن حصلت في يده، يقع لكل واحدٍ منهم ما أداه إليه الاتفاق والبخت؛ وفرق على الطبقة الثانية بدر الدنانير في كل بدرة عشرة آلافٍ؛ وفرق على الطبقة الثالثة بدر الدراهم كذلك؛ بعد أن أنفق في مقامة المأمون بداره أضعاف ذلك. ومنه أن المأمون أعطاها في مهرها ليلة زفافها ألف حصاةٍ من الياقوت، وأوقد شموع العنبر في كل واحدةٍ مائة من وهو رطل وثلثان وبسط لها فرشاً كان الحصير منها منسوجاً بالذهب مكللاً بالدر والياقوت ... (حتى ينتهى ابن خلدون إلى القول): "وعلى قدر عظم الدولة يكون شأنها في الحضارة؛ إذ أمور الحضارة من توابع الترف، والترف من توابع الثروة والنعمة، والثروة والنعمة من توابع الملك، ومقدار ما يستولي عليه أهل الدولة. فعلى نسبة الملك يكون ذلك كله".
ابن خلدون لم يكن معنيا بتلميع صورة الخلفاء أو تسويدها لأنه اعتبر صنيع المأمون "من توابع الملك، ومقدار ما يستولي عليه أهل الدولة..". كما لم يكن معنيا بالتساؤل عن مصادر هذه الثروات الطائلة التي كان يتصرف فيها الملوك حسب هواهم. فهو مثلا يدافع عن هارون الرشيد فيقول: (كان يحج عاما ويغزو عاما)، دون أن يرى أي تناقض بين التقوى والنهب، لأن الغزو كان المصدر الرئيسي لتلك الثروات، مهما اصطبغ بفريضة الجهاد لنشر الإسلام.
ثم نقرأ للقرضاوي جهلا آخر حيث يقول: "ومن الأوهام المعششة في كثير من الأذهان والتي يروجها دعاة العلمانية: أن الدولة الإسلامية هي دولة المشايخ ورجال الدِّين. وربما اقتبسوا هذه الصورة من حكم الكنيسة الغربية قديما، وهو الحكم الثيوقراطي المعروف. وربما ذكر بعضهم دولة الملالي وآيات الله وحجج الاسلام، في الجمهورية الإسلامية في إيران".
ويقول: "وقياس الإسلام على المسيحية قياس باطل من أساسه، فالمسيحية تقوم على نظام كهنوتي معترف به، له سلطانه ونفوذه وأملاكه، ورجاله، على اختلاف مراتبهم ودرجاتهم في سلم القيادة المسيحية. ولا يوجد هذا في الإسلام".
فهل يجهل القرضاوي حقا أن السلطة الدينية والمدنية في الحكم الإسلامي ظلت دائما بين يدي الحاكم الذي كان يفوض جزءا من نفوذه لرجال الدين ماداموا في خدمة هذه الدولة. الفرق بين السلطة الدينية الإسلامية وسلطة الدينية الكنيسة مجرد فرق شكلي. أما مضمون الحكم ووقعه على الناس فهو هو، حكم ثيوقراطي بغيض.
القرضاوي يقدم لنا مثالا للحكم في إيران، ورغم أنه لا يراه من صميم الإسلام، فهو يدافع عنه بقوله: "ولكن رأينا أول رئيس للجمهورية بعد انتصار الثورة، وبإقرار الإمام الخميني نفسه: كان مدنيا، هو الحسن بني صدر. وإن حدث خلاف معه بعد ذلك. ورأينا رئيس الجمهورية الحالي محمود أحمدي نجاد ينتصر في الانتخابات على أحد مشايخ الدِّين، ورموز النظام، وهو حجة الإسلام رفسنجاني".
القرضاوي لم يقل لنا كيف انتهى حكم الرئيس بني صدر المنتخب شعبيا، وكيف اضطر إلى الهروب تحت جنح الظلام لاجئا إلى الغرب مثل أي لاجئ بائس. لكن الغريب أن يجهل القرضاوي حقا أن الدستور الإيراني قد أعطى لولي الفقيه غير المنتخب صلاحيات هائلة تجعل من سلطة رئيس الجمهورية المنتخب ومجلس النواب المنتخب أيضا مجرد ديكور باهت. وهو ما يجعل الحكم في إيران ثيوقراطيا بامتياز مهما تزركش بمؤسسات (ديمقراطية) لذر الرماد في العيون.
(صلاحيات مرشد الجمهورية في الدستور الإيراني خاصة المادة العاشرة).
http://www.eslam.de/arab/manuskript_arab/verfassung_iri/kapitel08.htm
ثم من حقنا أن نتساءل حول شخص القرضاوي نفسه: من أين يستمد نفوذه الكبير في العالم الإسلامي وثروته الطائلة لولا تحالف السلطتين الدينية والمدنية في عالمنا البائس بحيث تحول هو وأمثاله إلى مليارديرات لهم نفوذ الرؤساء، يحظون بالتبجيل والرهبة أينما حلوا وارتحلوا.
يقول القرضاوي بأن "قيام الدولة الإسلامية على عقيدة الحاكمية لا يعني: أنها دولة دينية". فأين نصنف دولةً تحكم بالشريعة الإسلامية غير كونها دولة ثيوقراطية بامتياز. فـ"(الحاكمية) التي قال بها المودودي وقطب، حسب رأيه، وجعلاها لله وحده، لا تعني أن الله تعالى هو الذي يولي العلماء والأمراء، يحكمون باسمه، بل المقصود بها الحاكمية التشريعية فحسب، أما سند السلطة السياسية فمرجعه إلى الأمة، هي التي تختار حكامها، وهي التي تحاسبهم، وتراقبهم، بل تعزلهم. والتفريق بين الأمرين مهم والخلط بينهما موهم ومضلل، كما أشار إلى ذلك الدكتور أحمد كمال أبو المجد، بحق. فليس معنى الحاكمية الدعوة إلى دولة ثيوقراطية، بل هذا ما نفاه كل من سيد قطب والمودودي رحمهما الله. أما سيد قطب، فقال في (معالمه): (ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم -هم رجال الدِّين- كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال فيما يعرف باسم (الثيوقراطية) أو الحكم الإلهي المقدس!! ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مردُّ الأمر إلى الله وفق ما قرَّره من شريعة مبينة).
ويحاول التخفيف من الآثار المدمرة على الحياة السياسية في بلداننا التي تسبب فيها المودودي وجماعات الإخوان المسلمين المتأثرة بنظريته : "وأما الثيوقراطية التي جاء بها الإسلام فلا تستبد بأمرها طبقة من السَدَنَة أو المشايخ، بل هي التي تكون في أيدي المسلمين عامة، وهم الذين يتولون أمرها والقيام بشئونها وفق ما ورد به كتاب الله وسنة رسوله. ولئن سمحتم لي بابتداع مصطلح جديد لآثرت كلمة (الثيوقراطية الديمقراطية) أو (الحكومة الإلهية الديمقراطية) لهذا الطراز من نظم الحكم، لأنه قد خوَّل فيها للمسلمين حاكمية شعبية مقيدة. وذلك تحت سلطة الله القاهرة وحكمه الذي لا يغلب، ولا تتألف السلطة التنفيذية إلا بآراء المسلمين، وبيدهم يكون عزلها من نصبها، وكذلك جميع الشئون التي يوجد عنها في الشريعة حكم صريح، لا يقطع فيها بشيء إلا بإجماع المسلمين".
كان هذا التلاعب والتحايل، ومازال ديدن الإسلاميين للالتفاف على مطالب الدولة الديمقراطية العلمانية. فإذا كانت الدولة القرضاوية المدنية "لا تعني (حسب قوله) أن الله تعالى هو الذي يولي العلماء والأمراء، يحكمون باسمه، بل المقصود بها الحاكمية التشريعية"، فماذا في هذه الدولة من مدنية مادام الحكام يحكمون باسم الله وشريعته تحت رقابة رجال الدين باعتبارهم الأمناء الحقيقيين على هذه الشريعة والاختصاصيين في (علومها)؟ ماذا في هذه الدولة من مدنية مادمت مهمة الحاكم فيها تطبيق الشريعة على الناس سواء رغبوا في ذلك أم كرهوا؟ خاصة عندما نعرف أن دولة الشريعة هي أصلا دولة التمييز الديني والاجتماعي والاقتصادي بين سكانها الذين لن يرتقوا أبدا إلى درجة المواطنة، لأنهم، باسم الدين، يتفاضلون حسب جنسهم (رجالا أو نساء) ودينهم (مسلمين أو غير مسلمين) بل يتفاضلون حتى وهم مسلمون مختلفين من حيث المذاهب الدينية حيث لا تعترف الدولة الإسلامية بتعدد المذاهب التي يكفر بعضها بعضا.
(الثيوقراطية الديمقراطية) أو (الحكومة الإلهية الديمقراطية) شأنها شأن الديمقراطية الإسلامية والجمهورية الإسلامية والعلوم الإسلامية، كلها خرافات أصولية حديثة لتحريف وعي الناس عن مطالب الدولة العصرية الديمقراطية العلمانية. فلا مجال للحديث عن ديمقراطية مادام الشعب لا يحكم أي لا يملك حق تشريع القوانين حسب مقتضيات العصر، ولا يحتكم في كل صغيرة وكبيرة إلى قوانين ودساتير وضعية غير مقدسة، ولا متعالية، قابلة للنقد والتعديل والتطوير حسب حاجات الناس المعبر عنها من طرفهم وليس من طرف أسلاف بعيدين مهما كانوا (صالحين).