أفنان القاسم بين التنوير والتجهيل 3


عبد القادر أنيس
الحوار المتمدن - العدد: 4899 - 2015 / 8 / 17 - 15:07
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

أفنان القاسم بين التنوير والتجهيل 3
كتب أفنان القاسم في:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=480126
"بوتفليقة غطاء للجنرالات الحكام الفعليين للجزائر!"
هذا الزعم دلالة على أن السيد أفنان لا علاقة له بالواقع السياسي الجزائري من بعيد أو من قريب. أغلب الجنرالات الذين ساهموا في وقف المسار الانتخابي ومحاربة الإسلاميين وجاؤوا ببوتفليقة انسحبوا أو أبعدوا نهائيا من الحياة العسكرية. خالد نزار، محمد العماري (توفي منذ سنوات بعد عام من تقاعده)، مجاهد، جوادي، تواتي، وغيرهم، تعرضوا للجحود ثم الإبعاد وطواهم النسيان.
جهاز المخابرات الرهيب لم تعد له تلك الهيبة، بعد أن شتت الرئيس مصالحه وعزل أغلب قادته، ما عدا الجنرال محمد مدين المعروف باسم توفيق (اسمه إبان حرب الاستقلال).
بوتفليقة نفسه قال بعد توليه السلطة عام 1999 بأنه لن يقبل أن يكون ثلاثة أرباع رئيس. حينها نقلت الصحف أن فريقا من الجنرالات قابلوه وعبروا له عن استعدادهم للانسحاب إذا كانت هذه هي إرادته، لكنه أبقاهم لأنه كان في حاجة إليهم للتحكم في البلاد وليس العكس.
أدعو السيد أفنان أن يقرأ كتاب الجنرال خالد نزار: (Bouteflika, l homme et son bilan) وفيه نقذ لاذع لبوتفليقة بعد أن أنهى عهدته الأولى من خمس سنوات، ذكر أن بوتفليقة مباشرة بعد تولي مقاليد الأمور في البلاد لم يكن يفوّت أية فرصة للتعريض بقادة الجيش من قبيل: "هؤلاء القطط الصغيرة الخمسة عشرة لا يخيفونني" (يقصد الجنرالات)، ومن قبيل "عندما كان هؤلاء بدون رتب، كنت أنا رائدا في جيش التحرير الوطني".
فعلا بوتفليقة كان رائدا، لكن التاريخ يقول بأنه لم يطلق رصاصة واحدة تجاه العدو ولا شارك في معركة واحدة.
هذا حدث في السنوات الأولى عندما كان بوتفليقة في أوج قوته البدنية والسياسية، يصول ويجول وينتقم لإبعاده عن الواجهة بعد موت بومدين. أما اليوم، ورغم مرض الرئيس وانزوائه، فقد انسحب الجيش من الحياة السياسية بعد تجربة مُرّة، رغم أن بعض القوى السياسية دعته للتدخل ووقف هذه الطريقة الشاذة في الحكم من وراء حجاب. جهاز المخابرات نفسه صار محل تهجمات حتى من رئيس الحزب الحاكم سعيداني الخادم الأمين لبوتفليقة وإخوته، ولا بد أنه ما تجرأ على رئيس المخابرات إلا بعد أن تلقى الضوء الأخضر من فوق. يمكن أن نستشف من كتاب خالد نزار أن قادة الجيش شعروا بإحباط وجحود شديدين رغم أنهم أنقذوا البلاد من الخطر الإسلامي ومن الفوضى والتشتت. لقد تحالفت ضدهم جهات واسعة في فرنسا وفي الجزائر لتحميلهم كامل المسؤولية عما حدث ليس تعاطفا مع الشعب الجزائري الذي عاش مأساة حقيقية، بل لأنهم حالوا دون انفجار الجزائر، وهو حلم ظل ولا يزال يراود الأوساط النيوكولونيالية الفرنسية. كان شبح المحكمة الدولية يتهددهم دائما. خالد نزار الذي قاد حركة توقيف المسار الانتخابي وجاء ببوتفليقة للحكم تعرض لمنغصات كثيرة. آخرها استدعاؤه للمثول أمام محكمة سويسرية برئاسة قاضية جاهلة خولت لنفسها مهمة الدفاع عن حقوق الإرهابيين في الجزائر، وغيرها من المضايقات التي يبدو أنها حظيت بتأييد بوتفليقة، بدليل أن نزار لم يجد من السلطات الجزائرية أي دعم في محنته.
لكن يجب أن نقول أيضا بأن الجيش بقدر ما نجح في إلحاق الهزيمة بالإرهاب الأصولي بقدر ما فشل في دفع البلاد نحو الحداثة والديمقراطية على غرار ما فعل أتاتورك مثلا، وهو ما يعني أنه نجح في كسر شوكة الإرهابي الأصولي دون أن يقضي على الأصولية وأوكارها داخل المؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية والثقافية. من خلال كتاب نزار نفهم أن الثقافة العلمانية الديمقراطية الحداثية لم تكن عملة متداولة في أوساط النخبة العسكرية في الجزائر، وهو نفسه يعترف بذلك. بل كان بين الجنرالات من أيد الإسلاميين وروج للدولة الإسلامية.
قول السيد أفنان: ""بوتفليقة غطاء للجنرالات الحكام الفعليين للجزائر!"، هو إذن قول تجاوزته الأحداث.
قول أفنان القاسم "بأن البلاد تدار من وزارة الدفاع" يدل على أنه يجهل أن بوتفليقة هو وزير الدفاع، احتفظ بهذا المنصب منذ توليه الرئاسة حتى اليوم. وكان هذا الحال منذ الاستقلال تقريبا، عدا الفترة التي تولى فيها الجنرال زروال هذه الحقيبة (حوالي عام) أو الفترة التي تولاها بومدين (عامان تقريبا) قبل الانقلاب على بن بلة واحتفظ بها حتى مات.
قول أفنان القاسم: "قمع الحريات بقي على حاله لكن أساليب القمع تغيرت، وهي تدار بيد هادئة" غير صحيح. فمساحة الحريات في الجزائر كبيرة جدا حد الفوضى والتخمة. الهجومات يومية وشرسة على مؤسسة الرئاسة، على الحكومة، على الوزراء، على الجيش، لم تعد الفضائح تمر مر الكرام، ملاحقة الصحفيين والسياسيين صارت نادرة، عدا تلك الملاحقات الصادرة عن القوى الإسلامية. ظاهرة 99.99 لم تعد موجودة منذ الانفتاح الديمقراطي عام 1989. حتى بوتفليقة في الانتخابات الأخيرة، ورغم أن خصومه كانوا ضعافا ولم يكن لديهم العدد الكافي من المراقبين على مكاتب الاقتراع ورغم التزوير الشديد ورغم الولاء المطلق للإدارة، ومع ذلك كانت النتيجة بعيدة جدا عن خرافة 99.99.
القول بأن "الجزائر بطلة في تدجين وعي مواطنيها" خرافة أخرى. مقاطعة الانتخابات التي حطمت الأرقام القياسية، الإضرابات، قطع الطرقات، تمرد الشباب، وغيرها بما في ذلك تلك الانفلاتات الهوجاء لا تتوقف دليل صارخ على أن المواطنين الجزائريين ليسوا مدجنين. لكن كب هذا، والحق يقال، يتم ضمن مطالب اجتماعية، ولم تَرْقَ بعدُ إلى المطالب السياسية. الديمقراطية في حد ذاتها ليست مطلبا شعبيا، أما العلمانية فلا وجود لها في قاموس الناس اللغوي. امتناع الجزائريين عن مجاراة الشعوب العربية في ربيعها (الثوري) يعود أصلا إلى غموض الآفاق السياسية في أذهانهم بعد التجربة المرة مع الإرهاب الإسلامي. وكأن لسان حالهم يقولون مع فقهاء الإسلام: "ظلم غشوم خير من فتنة تدوم"، وحسنا فعلوا، ما داموا عاجزين عن التطلع إلى مستوى أفضل من الحكم.
قول أفنان القاسم: "تعسيس شمولي على كل جزائري واحد مخابراتي فالنظام البوليسي يفوق وحده الشين بيت والإف بي آي والمخابرات الأردنية معًا". خرافة أخرى لست أدري من أين استقاها. بل العكس هو الصحيح. الناس عندنا يتحدثون عن غياب الدولة، أو تقصيرها الإجرامي في مجالات واسعة أهمها الأمن، تحصيل الضرائب، التصدي لتبذير المال العام، ومظاهر لا حصر لها من التقصير. ولولا ريع البترول الذي ظل يغطي على هذا العجز في التسيير والإدارة ويمول المشاريع والرواتب لانهارت البلاد.
قول أفنان القاسم: "تجهيل الشباب وقمعهم في لقمة عيشهم. نسبة البطالة أقوى نسبة في العالم بعد بنغلاديش". خرافة أخرى. في السنوات الأخرى قدمت الدولة قروضا سخية للشباب تقدر بمئات الملايير، حد التبذير. حتى أصبحت قطاعات واسعة تعاني من نقص شديد في العمالة مثل الزراعة والبناء التي يتأفف منها الشباب ويفضلون الربح السريع عبر تعاطي نشاطات تجارية غير مشروعة، أو الحصول على قرض لفتح محل أو شراء سيارة نقل أو حتى إنشاء شركات وهمية.
قول الكاتب: "تنقيع الأُسَر في علب سردين عشرة أنفار في غرفة ونص مع أن أزمة السكن أخف بكثير من الماضي". خرافة أخرى. لا يوجد بلد عربي بنى عددا من المساكن مثلما بنت الدولة الجزائرية. الإحصائيات تقول، اليوم، بأن هناك أكثر من مليوني شقة فارغة بسبب بيع أملاك الدولة للمواطنين وتفشي ظاهرة المضاربين في العقار. في طفولتي كان جزائريو المدن يسكنون الحارات، حيث كانت الأسرة تقنع بغرفة واحد هي المطبخ وقاعة أكل وغرفة النوم وقاعة الاستقبال. اليوم، وكأن الجزائريين ينتقمون لماضيهم، نجد الناس يبنون مساكن بعدة طوابق فوق حاجاتهم أغلبها نصف أو ربع محتلة. ظاهرة العشوائيات اختفت نهائيا من أحزمة المدن الكبرى الموروثة عن العهد الاستعماري.
قول الكاتب: "توريط الناس فيما بينهم من السمكري الذي يقوم بنصف شغله ولا يكمله إلى المافيوي في جهاز الأمن الذي يوقع شريكه في فخ ليُحاكَم ويُلقى في السجن أسهل طريقة للتخلص منه". خرافة أخرى لا وجود لها إلا في أوهام الكاتب، وكأنه يتحدث عن بلد آخر لا أسكنه.
قول الكاتب: "التكذيب والكذب الممنهجين إعلاميًا فما أسهل الكذب في الجزائر!". خرافة أخرى. صحيح هناك إعلام مشوه للحقائق تشرف عليه السلطة ولا يتمتع صحافيوه بالحريات المطلوبة شأنه شأن كل موظفي القطاع العام في كل مكان، لكن هناك قنوات وجرائد كثيرة مستقلة، تكتب وتبالغ في الكتابة حد القرف. بل إن السلطة تتغاضى عن كل التجاوزات عملا بمبدأ: "القافلة تسير والكلاب تنبح". بل صار هذا النوع من الإعلام على الطريقة الأفنانية يخدم الاستبداد أكثر لأنه يوهم الناس أننا نعيش ديمقراطية حقيقية.
قوله: "خلق طبقة أرثّ من رثة من لصوص صغار وبائعي مخدرات ومقامري الزوايا وخاصة مشتري الأحلام الذين يقضون كل عمرهم حالمين بالذهاب إلى فرنسا". خرافة أخرى. كان على الكاتب أن يشير إلى حرب المخدرات التي تشنها الجارة المغرب على الجزائر. لا يمر يوم دون أن تتناقل وسائل الإعلام أخبار القبض على المتسللين أو دوابهم المحملة بالقناطير المقنطرة من المخدرات التي تنتج هناك بتواطؤ الحكومة المغربية.
قول الكاتب: "تديين العهر من تحت الحجاب تعمل المرأة السبعة وذمتها". خرافة أخرى، وإساءة غير مبررة. الحرمان الجنسي رهيب بسبب، الغالبية الساحقة من النساء يحرصن على (العفاف) في الانتظار الزواج. بحيث نجد الملايين من الرجال والنساء وقد بلغوا سنا متقدمة وهم في حرمان بائس، بسبب تخلف الحياة الجنسية عندنا، ومع ذلك تفضل المرأة الجزائرية الحرمان على مشاركة امرأة أخرى في رجل واحد، حتى أن ظاهرة تعدد الزوجات تكاد تختفي حتى في الأوساط الميسورة.
قول الكاتب: "تصعيد الأسعار كل يوم عن يوم أكثر فأكثر فالغلاء الفاحش يفوق الغلاء في فرنسا لطبقات مدقعة أحيانًا لا تجد خبز يومها عندما نعلم أن اقتصاد الجزائر في يد كمشة من التجار الذين من بينهم أَخَوَا بوتفليقة".
هذه أيضا خرافة أخرى. ظاهرة الخبز المرمي في القمامة صارت فضيحة عندنا حتى تخصص لها تجار يبيعونها لأصحاب المواشي والدجاج. الخبزة في الجزائر سعرها عشر سعرها في فرنسا. القول بأن اقتصاد الجزائر في يد كمشة من التجار الذين من بينهم أَخَوَا بوتفليقة، دليل تخبط عند الكاتب. فهل هما من الجنرالات أيضا؟ مع ذلك فلن أسقط في خرافة أخرى وأدعي أن حياة الجزائريين نعيم متواصل. الغلاء موجود، لا شك في ذلك، لكن المستوى العام مرتفع لا يمكن أن ينطبق عليه وصف الكاتب.
قول الكاتب بأن هناك تمييزا "بين القبائلي (البربري) والعربي، وأكثر من هذا، التفريق بين مناطق البربر ومناطق العرب في ميزانيات البلديات، في التمثيل الانتخابي، في المشاريع الوطنية إلى آخره".
خرافة أخرى ترقى إلى مستوى التدليس. أتحداه لو جاءنا بدليل واحد. الكل في الهم سواء، وفي الرخاء سواء أيضا. لا وجود لعنصرية يغذيها النظام البوليسي المزعوم. هناك مشاحنات بل ومواقف عنصرية هنا وهناك، ولكنها عريقة في الجزائر، بسبب خلط الجزائريين بين العروبة والإسلام، بحيث كان العربي يزعم لنفسه شرفا يفوق ما للأمازيغي. ولعل هذا ساهم في تعريب الجزائريين وادعاء الأغلبية أنهم عرب رغم سخافة هذا الادعاء، وحتى ما يقع في غرداية فهو بين الميزابيين الأمازيع والشعانبة الأمازيع أيضا.
يقول الكاتب: "ثروات البلد التي هي بالمليارات يتوزعها الجنرالات". خرافة أخرى، وهو نفسه سبق أن قال بأن "اقتصاد الجزائر في يد كمشة من التجار الذين من بينهم أَخَوَا بوتفليقة". آخر الإحصائيات تقول بأن هناك في الجزائر 4700 ملياردير (بالدينار طبعا). (الدولار يساوي حوالي 100 دينار جزائري حاليا). فهل لدى الكاتب ما يشهد أن أغلب هؤلاء الأغنياء من الجنرالات. من جهتي أشهد أنني لا أعرف في مدينتي (حوالي 500 ألف ساكن) جنرالا واحدا مليارديرا. الجنرال زروال مثلا يعيش عيشة متواضعة جدا من معاشه فقط.
لهذا لا أرى أن ما يقدم أفنان القاسم تنويرا، بل تجهيلا مضرا.
بقي أن أقول كلمة حول خرافة الجنرالات في الجزائر. يجب النظر إلى العلاقات بين البشر نظرة واقعية. هي قامت منذ ملايين السنين ولا تزال على التوحش. التوحش لا يزال سيد الموقف في علاقات الأفراد والمجتمعات والأمم بعضهم ببعض رغم ما تحقق من تقدم رهيب. كلنا طالبو سلطة، كلنا نتصارع لاحتلال أفضل مكان تحت الشمس، ولو على حساب غيرنا، الزعم بغير هذا هو خداع مارسه المدلسون من رجال الدين والمؤدلجون لاستغفال البسطاء حتى ينقادوا لهم في مغامراتهم الهمجية نحو السلطة. هكذا كان مصير كل الثورات والحروب. وحدها الديمقراطية اللبرالية تمكنت من الإفلات من هذه الخدعة. اعترفت بالأنانيات ولم توهم الناس أنه من الممكن القضاء عليها عبر القضاء على الآخر المختلف دينا وعرقا وطبقة، عملت على إدارة الأنانيات بطرق سلمية فحققت المعجزات، في انتظار حلول أفضل لمشاكل البشرية. وعليه فإن شيطنة الجنرالات وتحميلهم مآسي البلاد مشروع غير مفيد. هو غير مفيد لأنه يبرئ الناس من المسؤولية، من مسؤولية بلوغ الرشد والخروج من القصور الأبدي لتقرير مصيرهم بوعي وحرية، الأخذ بالطرق العصرية في النضال والتوقف عن الحلم بحلول نهائية، الحرص على امتلاك مواطنة غير منقوصة تعي أن الوطن للجميع وأن الحكام هم موظفون لا غير مهمتهم خدمة البلاد لا غير. وهذا ما يجب أن يكون في صميم أي تنوير.