رابح لونيسي - بروفسور ومفكر جزائري - في حوار مفتوح مع القراء والقارئات حول: مستقبل الحركية الديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 5061 - 2016 / 1 / 31 - 22:08
المحور: مقابلات و حوارات     


من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -173- سيكون مع الأستاذ د.رابح لونيسي - بروفسور ومفكر جزائري - حول:  مستقبل الحركية الديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي.


كتب فرانسيس فوكوياما بعد نهاية الحرب الباردة منتشيا بالقول أن التاريخ في نهايته من ناحية الأفكار، وذلك بإنتصار نهائي للبيرالية بشقيها الديمقراطي وإقتصاد السوق، أو ما أسماها نائب الرئيس الأمريكي ألغور ب"الديمقراطية الرأسمالية"، وهي ما يطلق عليها آخرون ب"الديمقراطية الغربية"، ويسميها الماركسيون ب"الديمقراطية البرجوازية"، وفي الحقيقة أعاد لنا فوكوياما تقريبا نفس فكرة الفيلسوف الألماني هيغل في أواخر القرن 18 القائلة بأن إتجاه التاريخ يسير نحو ما أسماه ب"الحريات"، ويقسم الأمريكي صموئيل هننتغتون هذه الحركة التاريخية الديمقراطية إلى عدة موجات، فبدأت بأوربا الغربية وشمال القارة الأمريكية بفضل الثورتين الفرنسية عام1789 والأمريكية عام 1776، ثم عرف العالم موجات أخرى بعد الحرب العالمية الثانية، ووصلت أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية في نهاية ثمانيينات القرن الماضي، وسماها هننتغتون ب"الموجة الثالثة للديمقراطية"، ويرى هو وفوكوياما موجة أخرى ستمس العالمين العربي والإسلامي، وكذلك أفريقيا، وما سيسرع أكثر هذه الحركة التاريخية هو إنتشار التعليم وتوسع الطبقات المتوسطة وصعود جيل شباني يرفض إنغلاق الأباء ووصايتهم والإنتشار الواسع لشبكات الإتصال العالمية كالأنترنيت وشبكات التواصل الإجتماعي والفضائيات وغيرها.
تدفعنا هذه الطروحات إلى طرح عدة تساؤلات، فهل فكرة الديمقراطية هي ظاهرة غربية بإمتياز؟، وهل العالم الغير الغربي لم يعرف مظاهرها وبوادر لها حتى ولو لم تتطور؟ وهل من المحتم ربط الديمقراطية بالرأسمالية أم اننا بإمكاننا حل مشكلة تحقيق العدالة الإجتماعية إلى جانب الحريات الديمقراطية؟، فليس من العلمية أن نبقى في نقاشات الحرب الباردة لمن الأولوية أللعدالة الإجتماعية أم للحقوق السياسية والحريات؟، ومايدل على إستمرارية هذه الفكرة هو دفاع البعض عن النموذج الصيني وإعتبارهم نجاحاته الإقتصادية تعود إلى الأحادية التي تمكنت من ضبط الأمور مما جعل الإقتصاد يسير جيدا، لكن هل العدالة الإجتماعية متوفرة فعلا فيه؟، وهل تستفيد كل فئات المجتمع من هذا النمو الإقتصادي؟، ويطرح البعض بشكل غير مباشر فكرة "المستبد المستنير" مستندين على نجاح بعض النماذج الإقتصادية مؤقتا في نظرنا وبدعم أمريكي، لكن أين نجد هذا المستبد المستنير؟، ونعتقد أنه إن لم نربط الديمقراطية بالعدالة الإجتماعية، فمعناه إستحالة نجاح الديمقراطية وحرياتها في بلداننا العربية والإسلامية، فكم من مرة أنقلب الشعب على الديمقراطية بسبب ربطها بالرأسمالية؟، وهل ستعود الماركسية من جديد إنطلاقا من أطراف العالم الرأسمالي بسبب إستغلالية المركز الرأسمالي لها كما يقول سمير أمين، لكن مع تصحيح هفواتها، ومنها التخلص من الأحادية الحزبية أو ما سمي ب"ديكتاتورية البروليتاريا"؟.

نعتقد أن من أهم العوامل التي تعرقل عملية الإنتقال الديمقراطي في بلادنا العربية والإسلامية لحد اليوم هي بعض التيارات الأيديولوجية المنغلقة التي تستخدمها الأنظمة الإستبدادية ضد إنتشار الأفكار والقوى الديمقراطية في المجتمع، وفي الكثير من الأحيان تضخم هذه الأنظمة هذه التيارات الأيديولوجية المتطرفة كي تخيف بها القوى الديمقراطية، ثم تدفعها للإختيار بين الإستبداد أو هذه التيارات الأيديولوجية المتطرفة، وجعلها تفضل الإستبداد عليها، كما تلجأ الأنظمة الإستبدادية إلى تكريس وإستغلال الذهنية القبلية في المجتمع ودفعه إلى التصادم، كي تظهر هذه الأنظمة بأنها هي الضامنة للسلم والأمن، دون أن ننسى الإقتصاد الريعي وشراء ذمم المعارضة الديمقراطية وفصلها عن الشعب، مما يؤدي إلى فقدان ثقة المجتمع في الطبقة السياسية، فيستقيل من الإهتمامات السياسية، فيخلو الجو للمستبدين لملأ الفراغ.
لكن بمجرد ما يتم إضعاف أو القضاء على هذه العوامل سينجح الإنتقال الديمقراطي في هذه البلدان، لكن تتوقف نجاح عملية الإنتقال الديمقراطي على عدة عوامل، وعلى رأسها وجود دولة بمؤسسات قوية، تقود هي العملية مع إشراك كل قوى المجتمع بهدف التوصل إلى عقد إجتماعي فيما بينها يلتزم به الجميع، فمن الخطأ الفادح القيام بإنتخابات قبل هذا العقد كي لانترك أي مجال لبعض القوى بالإنقضاض على العملية الديمقراطية برمتها تحت ذريعة أن الفائز في الإنتخابات يهدد الديمقراطية أو عدم إحترام الفائز ذاته بالإنتخابات لكل المباديء الديمقراطية كاملة غير مفصولة، لكن أكبر خطر يهدد الإنتقال الديمقراطي إذا تم تحت ضغوط داخلية أوخارجية، خاصة إذا صاحبتها إضطرابات وعنف، فبإمكان أن يسود الإضطراب لمدة طويلة، كما يحدث اليوم في عدة بلدان عرفت ما سمي ب"الربيع العربي"، وبإمكان زوال الدولة من الخريطة العالمية بحكم الضغوط لزرع الفوضى الخلاقة كي تتفكك الدول، مما يسهل عملية إدماجها في "مشروع الدولة العالمية" التي تريد أن تبنيها البرجوازية العالمية أو ما يسميها جون زيغلر ب"اسياد العالم الجدد".
يجب مصاحبة عملية الإنتقالي الديمقراطي وجود عقد إجتماعي بين كل الأطراف المتناقضة في المجتمع التي يجب أن تقتنع بأن التناقضات في الأمم هي طبيعية وأن الآليات الديمقراطية بكل أبعادها هي مجرد أدوات لحل سلمي لمختلف تلك التناقضات.
كما لايمكن نجاح هذا الإنتقال دون التفكير الجدي لمصاحبتها وربطها بتحقيق العدالة الإجتماعية وخدمة المحرومين، ليس فقط كهدف لأن لامعنى لديمقراطية لا تخدم كل المجتمع، كما هي أيضا ضمانة لعدم إستغلال البؤس الإجتماعي من تيارات محددة للإنقلاب على الديمقراطية كما وقعت عدة مرات في التاريخ العالمي.
ولهذه الأسباب كلها علينا التفكير الجدي في نظام ديمقراطي بديل يخدم كل فئات المجتمع دون إستثناء، أي إقامة دولة في خدمة كل المواطنين، ومنها ضمان العدالة الإجتماعية إلى جانب الحريات الديمقراطية، أي بتعبير آخر نظام نقيض لما يسمى ب"الديمقراطية الغربية" الخادمة للبرجوازية، والتي بشرنا بها فوكوياما، كما يجب أيضا إيجاد أرضية صلبة للفكرة الديمقراطية وقيمها في المجتمع، وذلك بنقض الفكرة القائلة بأن الديمقراطية هي فكرة وظاهرة غربية بإمتياز، وأنها مبنية على تصورات فلسفية غربية، لأننا إن لم نقم بذلك سنجد معارضة قوية لها في بلداننا خاصة من بعض التيارات الدينية التي تمتلك أرضية أيديولوجية قوية بسبب إستخدامها للدين

قد عرف العالمين العربي والإسلامي بعض الأفكار والممارسات الديمقراطية عبر تاريخه سواء على شكل تنظيمات تقليدية مثل نظام الجماعة في البلاد المغاربية أو التشاور بين أعيان مكة في دار الندوة قبل الإسلام، ولو عمقنا البحث التاريخي، لوجدنا مظاهر عدة قريبة من الديمقراطية المباشرة التي عرفتها أثينا مثلا، ونجد نفس الأمر بعد إنتشار الإسلام، ومنها خطبة أبو بكر الصديق الشهيرة التي أستند عليها المصلح الديني بن باديس في الجزائر لإستخراج 13 مبدأ تدل على مدى التوافق بين القيم الديمقراطية الحديثة وتلك الخطبة، وذهب بن باديس إلى حد جعل الشعب هو السيد في إختيار كل قوانينه وغير مفروض عليه الإلتزام بما يسمى "الشريعة الإسلامية" التي هي في الحقيقة ليس لها أي قداسة دينية على عكس ما يدعيه الكثير، فماهي في الحقيقة إلا قوانين وضعية أبدعها مايسمى ب"فقهاء الدين"، وذلك إنطلاقا من تأويلاتهم للنصوص الدينية التي تحكمت فيها تأثيرات عدة، ومنها ظروفهم ودرجة تثاقفهم ومصالحهم الطبقية وغيرها، ولهذا نجد إختلافا كبيرا فيما بينهم في عدة قضايا.
كما ذهب البعض مثل الليبي الصادق النيهوم إلى الإثبات أن الجمعة في أصلها لم تكن بهذا الشكل، بل كانت يوما أسبوعيا لمراقبة ومحاسبة الحاكم، وينطلق من عدم معرفتنا وتسجيل خطب الجمعة لسيدنا محمد (ص) في الوقت الذي أصر فيه الصحابة على جمع وتتبع كل أقواله وأفعاله، ويمكن الإستدلال بمحاسبة رجل لعمر بن الخطاب أثناء الجمعة حول القميص الذي لبسه، أو معارضة المرأة له حول إجتهاده في الصداق في يوم جمعة، ويقول النيهوم أنه كان يشارك في إجتماع الجمعة المسلمين زغير المسلمين، لكن تم الإنحراف عن ذلك كله بعد وصول الأمويين إلى السلطة، وأبتدعوا فكرة كل من تكلم فصلاته باطلة، وذلك كوسيلة لترك السلطان وحده يتحدث ومنع الناس من محاسبة الحكام.
فبغض النظر عن صحة ما أورده الصادق نيهوم من عدمه، إلا أن هذه الفكرة بإمكانها أن تساهم اليوم في دعم الرقابة المباشرة في بلداننا، فلنتصور لو فرض على كل مسؤول محلي على الإتيان إلى مكان عام سواء كان المسجد او غيره ليحاسب كل أسبوع أو جمعة، فهل بإمكان أن يتجاوز حدوده أو لا يقوم بأعماله على أحسن ما يرام، وقس على ذلك على كل المسؤولين، فهي فكرة جديرة بأخذها بعين الإعتبار لتطوير الممارسات الديمقراطية في عالمنا الإسلامي ونقلها إلى بلدان أخرى.
أوردنا هذه الظواهر لإثبات فكرة مفادها أن الممارسات الديمقراطية ظاهرة موجودة في تاريخ كل الشعوب بأشكال متعددة، كما عرفت أيضا كل الشعوب ظاهرة الإستبداد، وبأن الإستبداد ليس ظاهرة خاصة بالشرق كما يقول أصحاب نظرية "الإستبداد الشرقي"، فحتى أوروبا والغرب عرف نفس الظاهرة في الماضي والحاضر، ومالنازية والفاشية ببعيدة عنا.
لكن هذا ليس معناه دعم النظرية القائلة بأن الديمقراطية المعاصرة هي غربية المنشأ، وبالتالي لايمكن نقلها لمجتمعاتنا متذرعين ببعض الخصوصيات التي أوردناها آنفا، لكن من حقنا أن نسأل هل نحن طورنا هذه الخصوصيات لدعم المسار الديمقراطي أم أستندنا عليها للإبقاء على الإستبداد سواء بشكله المباشر أو على روحه؟، ومايؤسف له عودة هؤلاء إلى بعض الأفكار الغربية ذاتها مثل أفكار روجي غارودي الذي يرى أن كل ما أنتجه الغرب هو أورو-مركزية يجب التخلص منها، وأن هناك تعدد ثقافي وحضاري إنساني، وبأنه بإمكاننا الإستلهام من قيم حضارات أخرى تم تهميشها من الغرب، طبعا نتفق معه في ذلك، بل هناك حكمة شهيرة عندنا وعادة ماتنسب إلى سيدنا محمد )ص( "الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذ بها"، وهو ما يعني عدم رفض كل ماهو أوروبي بدعوى أنه تغريب، بل نأخذ كل ماهو جيد سواء من الغرب او الحضارات الأخرى، بل نجد في عهد الإصلاحات الدينية وعصر النهظة في العالمين العربي والإسلامي الإستناد على النموذج الديمقراطي الأوروبي والحث على نقله إلى بلدان العالم الإسلامي مثل دعوات جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده الذي ساهم في وضع دستور ثورة عرابي في مصر في 1881، كما نجد خير الدين التونسي صاحب الإصلاحات في تونس بالإستناد على كتابه" أقوم المسالك لتقويم الممالك"، ودعم رجال الدين الثورة الدستورية في إيران في 1906، كما نجد دعوة بن باديس التي أشرنا إليها آنفا، بل حتى حسن البنا، فإنه كان معجبا بالنظام النيابي البريطاني.
لم أورد هذا إلا للرد على أعداء الديمقراطية اليوم من الكثير من الإسلامويين، مما يدل على مدى تراجعنا في هذا المجال، بل لازال البعض يتحدثون عن أهل الحل والعقد، وهو مايعطي شرعية مثلا في الجزائر لمجموعة من الجنرالات في إختيار الرئيس وصناعة السياسات، ونفس الأمر في السعودية أو مجلس الخبراء في إيران، وهذا كله يعد إستئلاء على إرادة الأمة والسيادة الشعبية.
إن أردنا التأسيس للديمقراطية في بلداننا فعلينا أن لانهمل عوامل هامة جدا أيضا، وهو الإنطلاق من الواقع السائد كمرحلة إنتقالية تجعل الجميع يرى في القيم الديمقراطية هي جزء من ثقافتهم سواء كانت دينية أو غيرها، فلنضع في أذهاننا أن الأسس الديمقراطية في الغرب لم تنطلق فقط من الفكر السياسي والممارسات الموجودة في الحضارة الاغريقية والرومانية كما يعتقد البعض، بل كثيرا ما نجد محاولات التأسيس لها إنطلاقا من الكتاب المقدس أي التوراة والأنجيل التي لاتختلف كثيرا عن القرآن في الكثير من التصورات، ولايمكن لنا نحن المسلمين أن نتجاهل ذلك إن أردنا تأصيل هذه الأفكار في مجتمعاتنا التي تتأثر كثيرا بالدين إلى حد اليوم، ومن هذه الأفكار والتصورات القرآنية يمكن ذكر الطبيعة السلطوية للإنسان حيث أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم، بأن إبليس أغوى آدم بالأكل من الشجرة الملعونة بعد إيهامه بأن ذلك سيعطيه خلدا وملكا لا يبلى، ولم يكن إنكشاف سوءاتهما بعد الأكل من الشجرة إلا ترميزا وإشارة إلى ظهور طبيعة الإنسان الحقيقية والمتسترة عند سعيه إلى السلطة والصراع حولها، وهي عادة ما تتصف بالدموية والهمجية في حالة هذا الصراع، وهو نفس ماتوصل إليه تقريبا الفيلسوف الأنجليزي هوبز عند وصفه طبيعة الإنسان بالقول "أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، مما يتطلب التفكير الجدي في آليات تحد من الصراعات الدموية بين البشر، وبأن أوروبا قد إخترعت آليات الديمقراطية كحل سلمي لمختلف التناقضات والصراعات التي عرفتها مجتمعاتهم، ومنها مبدأ التداول السلمي على السلطة بواسطة الانتخاب الذي يعد حلا عمليا يجمع ويوفق بين مبدأي "حق الأمة في عزل السلطان" و"درء الفتنة"، كما يمكن لنا الإشارة في نفس مجال التأصيل إلى ثناء الله سبحانه وتعالى على ملكة سبأ إلا لأنها ديمقراطية، وهو ما يدحض فكرة الإسلامويين بتحريم تولية المرأة الحكم والرئاسة، ومن التصورات الممكن الإستناد إليها ايضا التصور القرآني بأن التعدد بكل أشكاله خاصة الثقافي هي اية من آيات الله، وكل من يسعى لفرض الأحادية، فهو يناقض الإرادة الإلهية، ويمكننا أيضا الإستناد على فكرة قداسة الحريات، وأنها مستمدة من تقديس الله، ومنها إعطاء الله للإنسان حرية الإختيار بين طريقي الجنة والنار الذي تعد من أكبر الأشياء في مصير الإنسان، ولهذا لايحق لأي كان أن يمنع الإنسان في التعبير عن رأيه أو حرية إختياراته، كما يمكن أن نسرد لهم كيف أن الله ترك أبليس حرا طليقا رغم معارضته له، ورفض تطبيق أوامره، فهناك الكثير من التصورات القرآنية يمكن لنا الإستناد عليها لتوطين القيم الديمقراطية في الأرض الإسلامية، بل نرى إستحالة النجاح في ذلك اليوم وفي هذه الظروف دون الإستناد على تصورات فلسفية قرآنية، وهذا ليست خاصية عندنا فقط، بل نجدها حتى لدى المفكرين المؤسسين للديمقراطية الغربية الحديثة كلوك وجفرسون وتوماس باين وغيرهم الذين أستندوا أيضا على قراءة فلسفية للكتاب المقدس في ذلك.

مادام ان عالمينا العربي والإسلامي لم يدخلا الحداثة بعد، ولازالت الروح التقليدية مسيطرة عليه، مما يجعل تختلط لديه الحزبية بالقبلية ومقومات الثقافة والدين والطائفية، وبتعبير آخر قد أتخذ البعض هذه العوامل إضافة إلى ضعف الثقافة الديمقراطية والقبول بالآخر كذريعة للإبقاء على الإستبداد، لكن لم يميز هؤلاء بين أمرين وهو ان الدولة القوية هي ضرورية للنظام الديمقراطي، كما أن الإستبداد ذاته هو الذي يغذي ذلك، كي يبقى في السلطة في إطار سياسة فرق تسد، ويطرح آخرون مسألة الأحزاب الدينية وإجتياحها كل إنتخابات تحدث في هذه البلاد، هذا صحيح بسبب توفر أرضية أيديولوجية مواتية لذلك، لكن هذا ليس معناه منعها، لأن ذلك سيعطي لها قوة أكثر، بل ما يجب القيام به هو صرامة الدولة في تطبيق القوانين ومنع صارم إستخدام الدين وكل رموزه في الخطاب السياسي، ولهذه الأسباب فإننا نحتاج إلى دولة بشكل آخر تأخذ هذه العوامل كلها بعين الإعتبار، بل يجب التخلص من النموذج اليعقوبي للدولة الذي أضر بنا كثيرا والتفكير في شكل آخر تحافظ على خصوصيات الجماعات والأفراد.
ويمكن أن نلخص ذلك كله بالقول أن مشكلتنا اليوم هي في كيفية تحقيقنا القطيعة مع العصر الخلدوني المبني على توظيف القبيلة والدين للوصول إلى السلطة، مما أدى إلى عدم إستقرار الدولة، وهو نفس المشكل الذي طرحه محمد عابد الجابري والمتمثلة في مشكلة الإنتقال من العقيدة إلى الأيديولوجية ومن القبيلة إلى الأحزاب والمجتمع المدني ومن الريع أو الغنيمة إلى الإقتصاد المنتج.

لكن رغم كل ما قلناه فإننا نعتقد أن ماوصلته الديمقراطية الغربية اليوم هو أحسن نظام موجود، لكن ليس معناه انه نظام كامل، فهذه الآليات مجرد آليات تنظيمية تحمل الكثير من النقائص يمكن تطويرها وجعلها أكثر فعالية وفي خدمة الأمة والشعب بدل ماتكون في خدمة طبقة أو تيار أيديولوجي أو فئة معينة على حساب الآخرين.
فمن عيوب هذه الديمقراطية هو خدمتها أكبر للطبقة البرجوازية، وتحتاج إلى نقد علمي لتطويرها، كما تطرح التطورات العلمية والتكنولوجية خاصة في مجال الإتصالات أمامنا نقاشا حول مستقبل الديمقراطية على الشاكلة الغربية، لأن هذه التطورات الجديدة تسمح بالتدخل المباشر لكل فرد في عمليات النقاش والتصويت، مما سيعطي قوة للشعب، ولعل هذه التقدم التكنولوجي سيضع امامنا مسألة التفكير في الديمقراطية المباشرة بدل التمثيلية .
ولا يخفى على أي أحد أن نشوء الديمقراطية المعاصرة في الغرب كان بهدف خدمة الطبقة البرجوازية وتحطيم طبقة النبلاء، ولهذا أقصيت من الممارسة السياسية في القرن 19م كل القوى التي تهدد مصالح البرجوازية، فمثلا لم يُسمح للعمال بحق التصويت في إنجلترا إلا في عام 1884 تحت ضغوط نقابات وتنظيمات عمالية وبعد تعهد هذه القوى بعدم المساس بالنظام الرأسمالي ومصالح الطبقات البرجوازية السائدة واحترام الحريات، والذي لا يعني في مفهوم الديمقراطية الغربية أنذاك إلا حرية الملكية والاستغلال والنشاط الاقتصادي دون حدود، وكان حق الانتخاب في بدايته للملاك فقط، ونعتقد أن بعض الأسس الفكرية للديمقراطية في الغرب في بداياتها مستوحاة من ديمقراطية أثينا القديمة التي ما هي "إلا سيطرة 40 ألف مواطن حر مقابل 110 ألف من العبيد، ويساندهم السوفسطائيون الذين يصنعون الرأي العام، فيظهرون التافة عظيما والعظيم تافها بواسطة قوة الخطابة والكلام"-حسب مقولة لغارودي-، فحتى التنازلات التي قدمت للجماهير في هذه الديمقراطيات خاصة في المجال الإجتماعي والإقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية كانت بسبب الخوف من إنتشار الشيوعية.
إن الارتباط الوثيق بين الديمقراطية والرأسمالية الاستغلالية في الغرب هو الذي جعل الماركسيون يعتبرون الدولة جهازا في يد الطبقة البرجوازية ضد البروليتاريا، كما لقيت الديمقراطية البرجوازية انتقادات من عدة مفكرين سياسيين كموسكا، وباريتو، وميسانز، وشمبيتر... وغيرهم، إلا أن الماركسيين حاولوا إعطاء البديل المتمثل في الديمقراطية الشعبية بمعنى دكتاتورية البروليتاريا عن طريق الحزب الشيوعي الذي يجسدها والسوفيتات التي هي مجالس تمثل العمال والفلاحين والجنود، لكن نظام الحزب الواحد أدى إلى نتائج وخيمة لم ينتبه إليها منظرو الماركسية في حينها، حيث سمح بظهور برجوازية بيروقراطية استغلت مناصبها في الحزب والإدارة، مثلما قمعت الحريات، فانهار الإبداع العلمي والفني والفكري، لأن الحرية ضرورة حيوية لكل نشاطات الإنسان، وقد حلل اليوناني كرونيليوس كاستورياديس هذه البرجوازية البيروقراطية وكيفيات ظهور بوادرها الأولى منذ خمسينيات القرن الماضي في البلاد الشيوعية.

وبناء على ذلك كله سنطرح نظاما بديلا مبنيا على إحترام الحريات الأساسية والربط الوثيق بين الديمقراطية والعدالة الإجتماعية الذي يجب أن لا ينفصمان عكس ما يحدث في الديمقراطيات الغربية اليوم .
وننطلق من مبدأ أساسي لأي نظام سياسي ناجح وفعال وهو أن التوازن والفصل بين كل السلطات والمؤسسات وتحديد صلاحياتها بدقة يعد عاملا رئيسيا في قيام دولة عادلة، فالدولة تشبه الكون أين كل طرف داخل الدولة والمجتمع يراقب الآخر ويدفعه إلى العمل الجدي ويمنعه من الطغيان، فلاتكون الدولة عادلة إلا إذا كانت على شاكلة النظام الكوني أين كل عنصر من عناصره وكواكبه تجذب بعضها بعضا، مما يحفظ توازنه وعدم إختلاله.
يعتقد الكثير أن أساس العملية الديمقراطية هي إنتخاب رئيس الدولة والنواب، ثم نفوض لهم الأمر في كل شيء، فنترك للرئيس المنتخب حقه الكامل في اختيار وزرائه ومساعديه، نعتقد أن عملية كهذه هي عملية انتخاب دكتاتور يقوم بمايريد في إطار صلاحياته، فالحل الأفضل في نظرنا هو انتخاب كل طاقم السلطة التنفيذية سواء على المستوى المركزي أو المحلي، ولهذا فعلى كل حزب سياسي أو تحالف أحزاب أو مواطنين تقديم قوائم حكومية مختلفة ينتخبها الشعب بالأغلبية المطلقة في دورين، فيكون الشعب قد اختار كل الطاقم الحكومي الذي يسير الحياة العامة لمدة معينة وببرنامج معين له أهداف محددة، وهو مايدفع الرئيس المرشح إلى إختيار الأحسن والأكفأ ضمن طاقمه الحكومي المرشح لكسب الأصوات، وبذلك نحل مشكلة الحكومات الإئتلافية التي عادة ما تقع تحت طائلة الصراعات الحزبية بين مختلف الوزراء، مما يفقدها الفعالية نوعا ما، لكن لاتتوقف المسألة عند ذلك، بل يجب إخضاع هذه السلطة التنفيذية المنتخبة عن مدى تطبيق برنامجها وتحقيق أهدافها في نهاية العهدة من طرف أجهزة خاصة، فالانتخاب عملية عقد بين الناخب والمنتخب، وإلا تعرض الطاقم المنتخب وحزبه لعقوبة صارمة مثل إقصائه نهائيا من ممارسة العمل السياسي لأنه نقض العقد، إلا إذا قدم أسبابا موضوعية لعجزه في تحقيق وعوده، وبهذا ستكون البرامج السياسية واقعية وعلمية بدل الديماغوجية والكذب والميكيافيلية التي تستعمل كأدوات للوصول إلى السلطة.
لكن المشكلة الأساسية تتمثل في كيفية ضماننا عدم تحول هذه السلطة التنفيذية التي انتخبناها إلى خادمة لمصالح أوليغارشية بدل خدمة الشعب، خاصة المحرومين الذين ليس لديهم وسائل لإيصال مطالبهم وأصواتهم؟ وماهي الوسائل التي تضمن لنا رقابة شعبية صارمة على أعمال السلطة التنفيذية وممارساتها؟ وكيف نوفق بين الحفاظ على فعالية السلطة التنفيذية وإبقائها في نفس الوقت في خدمة مصالح كل شرائح المجتمع دون استثناء بدل خدمة خدمة طبقة أو فئة أو شريحة معينة تحت غطاء القانون أو منطق ومصلحة الدولة وغيرها من الحجج والذرائع الواهية التي تستخدم للتغطية على ذلك.
لايمكن مراقبة كل الحكومة أو السلطة التنفيذية التي تنتخب مباشرة من طرف الشعب ببرلمان منتخب بالطرق السائدة اليوم، فهذه البرلمانات عادة مانجد فيها فئات إجتماعية دون أخرى، فبهذا الشكل لاتمثل كل مصالح الفئات الإجتماعية الموجودة في المجتمع، ولهذا فالحكومة يجب أن تكون تحت رقابة برلمان مشكل من ممثلي مختلف مكونات الأمة والشرائح الاجتماعية والمهنية كالأطباء والمهندسين والأساتذة ورجال الأعمال وغيرهم، بل وحتى البطالين إن وجدوا في المجتمع، ويتم الانتخاب على هؤلاء الممثلين مباشرة من طرف الذين يمثلونهم –حسب عددهم ونسبتهم في المجتمع-، وليس عن طريق المؤتمرات كما يحدث اليوم لممثلي مختلف النقابات التي تحول بعضها إلى متحالفة مع المال، بل أصبحت تلعب دور كبح العمال عن المطالبة بحقوقهم أو المتاجرة بهم لتحقيق امتيازات وراء أخرى، وبتعبير آخر تصبح الدوائر الإنتخابية ليست المقاطعات كما يقع اليوم، وليست قيادات النقابات السائدة الآن، بل كل شريحة إجتماعية تتحول إلى دائرة إنتخابية يتم بداخلها الإنتخاب الحر والنزيه على ممثليها.
وتتحقق بذلك الرقابة المباشرة من طرف ممثلي كل المجتمع دون استثناء أية شريحة منه على السلطة التنفيذية المنتخبة مثل أعضاء البرلمان، إلا أن قوة البرلمان تكمن في أنه يمثل كل الشعب أو المجتمع عكس الحكومة أو السلطة التنفيذية التي تمثل أغلبية مطلقة يمكن أن لا تتعدى في بعض الأحيان 51% من الشعب، مما يستدعي تقييد تصرفاتها بدقة، لأنه لا يمكن لـ 51% أن يفرض دكتاتورية على 49% المتبقين، ولهذا فإن للبرلمان رأيا قويا في القوانين التي تقترحها الحكومة، ولممثلي كل شريحة اجتماعية أو مهنية حق الفيتو ضد أي مشروع قانون مرتبط بها أو يمس مصالحها مباشرة، حتى ولو صادق عليه كل ممثلي الشرائح الاجتماعية الأخرى، وفي حالة تناقض مصلحة الدولة مع مصلحة شريحة معينة من المجتمع أو وقع تناقض بين مصالح عدة شرائح اجتماعية حول مشروع قانون معين، فيمكن التفاوض بين الأطراف المختلفة والتنازل فيما بينها برضى كل الأطراف المتنازعة حول مشروع القانون.
ولكي لا يتحول هؤلاء البرلمانيون إلى برجوازية تخدم مصالح خاصة، يمنع عليهم اكتساب أية امتيازات باستثناء الحصانة البرلمانية، مثلما يحدث اليوم في أغلب برلمانات العالم من خلال الأجور العالية، وأصبح الوصول إلى سدة البرلمان معناه اكتساب امتيازات بدل ربط مصالح عضو البرلمان بمصالح الشريحة الاجتماعية التي يمثلها مما يجعله أكثر استماتة في الدفاع عن مصالحها لأنه دفاعا أيضا عن مصالحه الخاصة.
طبعا هذه بعض المؤسسات التي يجب إعادة النظر فيها لضمان قيام دولة تكون في خدمة كل فئات المجتمع بدل خدمة طبقات معينة كما يحدث اليوم في الديمقراطيات الغربية، لكن هذا لايكفي دون تعزيز مجتمعا مدنيا حرا ومستقلا والسلطة الرابعة المتمثلة في الإعلام الذي يجب تحريره من نفوذ رجال المال والسلطة بميكانيزمات تقنية يكون على رأسها إنتخابهم لهيئة ممثلة لهم مع ضمان الحصانة لهم.
هذه مجرد خطوط وأفكار عامة لمشروع نظام ديمقراطي بديل يضمن بناء دولة تخدم كل فئات المجتمع، وتضمن الحريات الديمقراطية إلى جانب العدالة الإجتماعية، وقد فصلناها في العديد من كتبنا، وهي طبعا تحتاج إلى إجراءات تقنية كي توضع في حيز التنفيذ، كما تحتاج إلى نقاش وإثراء.

البروفسور رابح لونيسي
- جامعة وهران-