-سجن النسا-.. سجن الحقيقة


فؤاد قنديل
الحوار المتمدن - العدد: 4548 - 2014 / 8 / 19 - 11:16
المحور: الادب والفن     



لا أحسبُ الكثيرين سواء عَلت ثقافتهم أو تواضعت يمكنهم أن ينكروا أن أغلب المعروض على التليفزيون المصري من المسلسلات بحاجة عاجلة لإعادة نظر لأن الوضع في أفضل حالاته يكشف غياب الوعي والضمير والحس الوطنى لدى عدد غير قليل من القائمين على أمر هذه الأعمال الدرامية الجانحة والرهان الوحيد الرابح فيما يبدو مرتبط فقط ( بكمية ) المسلسلات ولا أقول عددها أو مستواها الفنى والفكرى بما يؤكد قول البعض من أن غاية المسئولين عن إنتاج الدراما والبرامج التليفزيونية سواء كانوا ينتمون للأجهزة الرسمية أو الخاصة إنما ينحصر في المكاسب المادية ولا شيء سواها .
خلال شهر رمضان تم عرض نحو ثلاثين عملا دراميا لفتت انتباهى منها ثلاثة فقط هي " سجن النسا " و" دهشة " و" ابن الحلال " ، وأكتفى في هذا المقال بالحديث عن العمل الأول المأخوذ عن مسرحية الكاتبة الكبيرة الراحلة الصديقة المناضلة فتحية العسال وأعدّت له السيناريو الكاتبة مريم نعوم وأخرجته الفنانة كاملة أبو ذكري ، وكنت من البداية قد قررت أن أشاهد "سجن النسا " محبة للقديرة فتحية وشوقا لمتابعة منجز الكاتبة نعوم الدرامى خاصة بعد أن بهرتنى بعملها السابق " ذات " المستلهم من رواية المبدع الكبير صنع الله إبراهيم وتوقعا أن يكون العمل عن سجن النسا مثيرا بدرجة كبيرة ، وكان المسلسل عند ظنى به منذ الحلقات الأولى ، فعذاب النساء يبدأ ويتواصل بلا توقف والظلم يطحن كثيرات تمثلهن غالية ( نيلى كريم) هذه الممثلة التى انفجرت موهبتها على يد نعوم وكاملة في "ذات" و"سجن النسا" ليشكلن مثلثا للرعب والفن الجميل.
تبدأ الأحداث بعد موت السجانة أم غالية ويضطر الفقر الإبنة كي تحل محل الأم كسجانة وفي الوقت ذاته تتعرف على شاب يعمل سائقا لميكروباس يدفعه الفقر لاستغلال كل من يعرفهم ومنهم غالية فينهب بمعسول الكلام كل قرش تكسبه على أمل الزواج بها حتى ليستولى على مكافأة نهاية خدمة أمها ويدفعه قسطا أول في سيارة ميكروباس ولا يسدد بقية الأقساط ويلجأ لوقف ملاحقات صاحب المعرض له بالزواج بابنته التى تنجب له ولدا ثم تموت فيسهل عليه الزواج بالسجانة ، ولما يطالبه والد الراحلة ببقية الأقساط يقتله ويتهم غالية التى حضرت الحوار الملتهب ويهرب تاركا غالية تلطمها شهادة من يتهمها بالقتل ليُحكم عليها بالسحن سبع سنوات وتتحول من سجانة إلى مسجونة بريئة تتقلب على جمر عذاب تنفطر له القلوب .. السجن مسرح كبير يحتشد بالنماذج والحكايات والطقوس والدموع والرقص والتضحيات والأغنيات والأماني وقد استطاع المسلسل الشائق أن يقبض على اهتمام المشاهدين لأن الأحداث كثيرة منذ أن ترتطم أطماع الشخصيات والمقادير والظروف المعقدة في صراع محتدم خارج السجنإلى أن تمر صفوف المذنبين عبر القانون ( عنق الزجاحة ) إلى ساحة السجن وعنابره لتخمد النيران ولو بصورة مؤقتة .
تطالعنا نماذج كثيرة ممن تضربهن الحياة بقسوة وممن حاولن تجاوز أسلاك الحدود الشائكة وأكثرهن بحثن عن الخروج من مستنقع الفقر المتعفن ، ومنهن من حاولن البحث عن الحرية وكسر حصار الرجل الذي لا يحسن غير قمع النساء والأطفال لكنهن في الأغلب لا يجدن الرحمة أو الفهم أو حتى الصبر وسرعان ما تسحلهن آلة السلطة ، وقد استعرضت مريم نعوم ذات الحساسية المرهفة والنظرات الإنسانية العميقة مواقف كثيرة وحكايات عبّرت عن رؤيتها التى أدركت أنها تكبل المرأة وتدفعها في اتجاه الخلاص الذي يمضى بها فوق شفرات مسنونة وملتبسة بين الشرف مع الفقر أو الخطيئة ، وبين الحياة أو الموت ..اختيارات صعبة توقع المرأة بين المطرقة والسندان .. الحياة كما قدمتها نعوم مقصلة ودائما رقبة المرأة تحتها ترتعد رعبا خشية أن تسقط بقسوة وتضع النهاية المبكرة لشقاء وعنت من صنع الرجل والفقر .. عَدوّاها الوحيدان ولا يكون لها من منقذ إلا رغبتها في طفل نابع من إحساس غريزى غائر يسمى الأمومة .. فسجن النسا الحقيقى ليس سجن القناطر أو غيره ولكنه السجن الذي أقامه الرجل والفقر ، ولنتذكر المثل الشعبى الذي يصرخ في وجوه الأنثى
كل ساعة : ضل راجل ولا ضل حيط .. شكل المجتمع الذكوري تلك المنظومة التى تجعل الرجل هو الهدف لأنه الحامى والمنفق والشريك والحبيب بل كل الدنيا ،وهذه واحدة من أكبر أوهام المرأة وسر كبير من أسرار معاناتها وأخطائها.
ما تزال الدموع لم تجف على واحدة من بطلات المسلسل وهي زينات اللطيفة المبتهجة دائما .. كيف عصفت بها الحاجة ولم تجد غير سبيل واحد لسد جوعها .. طريق سهل يتمثل في بيع جسدها إلى أن يسقطها قدرها التعس في قبضة لصوص الأعضاء فينتزعون كليتها السليمة ويتركون – من رقة قلوبهم - كليتها المعطوبة تسمح لها بالعيش أياما حتى تبتعد عنهم . وتتخذ طريقها إلى السجن رضا ( روبي ) الخادمة التى تعجلت القفز إلى حياة أفضل فتلقى من الإهانات التى فجرت كرامتها واستفزت كبرياءها فأحرقت مخدومتها ، ودخلت السجن مرات دلال ( درة) بسبب الفقر ورغبتها الحميمة في الصعود دون مهنة إلا الغواية ، وتدخل السجن تاجرة مخدرات ( عزيزة ) وتدخله امرأة تعمق لديها الإحساس بالضآلة فقتلت أسرتها، وتدخله متخصصات في النشل ، وتدخله أخريات.. تتعدد الحالات والظروف لكن الأسباب جميعها تقريبا تنبع من مصدرين اثنين فقط هما الرجل والفقر ، ولابد أن تلك الرؤية قد هيمنت على الكاتبة نعوم التى أضافت إلى النص الأصلى أضعافه مما دفعها ألا تورد شيئا عن سيدات الأعمال المحتالات الناهبات فهى لا تري إلا الفقر سببا كما كان يرى فيه محفوظ قمة الأسباب المنتجة للجريمة بكل أنواعها. ولعله السبب في أن الكاتبة لم تهتم بتناول سجينات الرأي مع أن القصة لكاتبة من المناضلات من أجل حرية المرأة والوطن والإبداع وقد ألقيت في غياهب السجن مرات .
تمتع العمل الدرامى المميز بإيقاع متوازن يتواءم وإيقاع الأحداث وتوفرت فرص جيدة للممثلين كي يعبروا عن الشخصيات لكن نيللى كريم تحت ضغط ما عانته غالية من ظلم فادح تمكنت من الغوص في الشخصية بما أدى إلى استخلاص أعماقها وكشف في الآن نفسه عن قدرة الفنانة غير العادية، كما نجح العمل في تشكيل حياة إنسانية تتسم بالدرامية في كل تجلياتها وتنوع مآسيها وحكاياتها ، وبرعت المخرجة المثقفة في طرح عالم خصيب من الأوجاع والأحلام وحالات الزواج والميلاد والسحاق والغدر والعداوات والصداقات والزخم الوجداني الحميم ، ولم تبخل في بيان طيبة السجينات وحنانهن بوصفهن الأمهات المحتضنات و الراعيات لشرائح منكوبة ، وكما كان الشوق للحياة خارج القضبان والحلم بالبيت الآمن مع زوج محترم وذرية تملأ البيت بالحب والسعادة كان الموت يخيم بسبب الحماقات الفادحة التي لابد أن تفضي إلى الإعدام ، وقد كان هذا سر اللهفة التي تدفع المشاهدين لتتبع الحلقات التى تعزف على كل الأوتار المثيرة وتكشف عقد النفس الإنسانية ودوافعها ، ولا نملك إلا تقدير الكاتبة التى اختار قلمها تلك النافذة كى يطل من خلالها على عالم رحب امتلك بالفن القدرة على توصيل المتعة والتأثير.