صعود وهبوط التخصصات العلمية


السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن - العدد: 6153 - 2019 / 2 / 22 - 20:37
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

لا تكف منظومة العلم الحديث منذ ميلادها في القرن السابع عشر وحتى يومنا هذا عن ابهارنا بقدرتها على التكيف مع مستجدات الوقع وذلك بالمقارنة مع منظومات أخرى مثل "الأسطورة" و"الدين". ولم تخيب هذه المنظومة ظن مريديها فقدمت لهم مؤسسة من الأنشطة الإنسانية الواعية التي تستخدم العقل فى تفسير معطيات الواقع المحسوس وفى اكتشاف القوانين التي تحكم انتظاماته. وقد قامت هذه المنظومة، في بداياتها الأولى، على مبدأين متكاملين: مبدأ "قَسِم لتفَهَم" (أو "الإختزالية" Reductionism) ومبدأ "التجريب" Experimentation.

ويرتكز المبـدأ الأول على فرض ان سلوك أي كائن أو كيان أو ظاهرة طبيعية او إنسانية ما هو الا محصلة لسلوك مكوناته المنفردة. وهكذا يمكن فهم أي ظاهرة، طبيعية أو إنسانية ظاهرة بـ "تفكيكها" إلى أجزاء منفصلة، أو مكونات، يسهل دراسة كل منها على حدة. فعلى سبيل المثال يؤدي فهمنا لعمل الأجهزة التي يتكون منها جسم الانسان، مثل الجهاز التنفسي، الجهاز الهضمي، الجهاز العصبي ...وغيرها، الى فهم جسم الانسانة

وقد كانت الاختزالية هي أداة الانسان الذهنية التي استخدمها في مواجهة التعقد الهائل الذي يتسم به كلا من الواقع الطبيعي والواقع الإنساني والمتمثل فى التعدد والتنوع الشديدان لمكوناتهما وظواهرهما والتشابك الكثيف بين مكوناتهما، بـ "إختزاله". أى بتجزئة الواقع المحسوس إلى مجالات مستقلة ومنفصلة يسهل عليه دراسة كل منها على حدة. وقد أدى تطبيق مبدأ "الاختزال" هذا إلى إنقسام المعرفة وتفرقها على "موضوعات" Subjects يعنى بدراسة كل منها "نظام علمي (تخصص)" Discipline بعينه.

ولم يكن هذا التقسيم من الخصائص الأصيلة للطبيعة ولكنه كان تقسيم إختياري من صنع الإنسان. وهنا يبرز الدور الذي لعبه "مبدأ التجريب" الذي تبناه العلم " كوسيلة لإختبار صحة تصورات الإنسان حول ظواهر الكون وحول أحداثه. وقد كان لتبنى هذا المبدأ آثاره بالغة المدى على مسيرة تطور العلم فى القرون اللاحقة وذلك لإختلاف طرق التجريب وأساليبه بإختلاف "موضوع" الدراسة. وهكذا إنقسم العلم إلى "نظم (تخصصات) علمية" متباينة يمثل كل منها نشاط يهدف الى انتاج وتحديث المعرفة المتعلقة بأحد جوانب الواقع مستخدما في ذلك أدوات البحث العلمي التي تلائم طبيعة موضوع بحثه، ومستعينا في ذلك بالمعرفة التي انتجتها تخصصات اخرى (التخصصات المرجعية). هذا بالإضافة لوجود مؤسسات تعليمية ومهنية تدعمه ولامتلاكه أجندة توثق مسار بحوثه.

فعلى سبيل المثال يهدف علم الكيمياء الى دراسة خصائص المادة في صورتها الذرية والجزيئية وأليات تفاعلها. ويعتبر علم الفيزياء هو التخصص المرجعي لعلم الكيمياء. أما موضوع علم الأحياء فهو كافة اشكال المادة الحية فيهتم بدراسة نشأتها ونموها وتكاثرها. والكيمياء هي التخصص المرجعي الرئيسي لعلم الاحياء. وآخر امثلتنا هو تخصص الانثروبولوجي المعني بدراسة أصل الانسان وما حدث له من تغيرات عبر التاريخ وبطبيعة العلاقات الإنسانية في إطار الثقافة الواحدة أوفي ظل ثقافات متعددة

ان استخدام كلا من مبدأ "قَسِم لتفَهَم" (أو "الإختزالية") ومبدأ "التجريب" ينشئ تصنيفا للعلوم يرتكز على التجريب حيث يقوم على تجميع كافة التي تتشابه خصائصها في صنف واحد. ويتجسد هذا التصنيف في في البنى التنظيمية لمؤسسات التعليم العالي التي قامت بتنظيم نفسها على هيئة "أقسام علمية" يتخصص كل منها فى واحد من النظم العلمية المختلفة.

وعلى الرغم من نجاح التخصصات المنفردة في حل الكثير من المشكلات الحياتية التي أسهمت في الارتقاء برفاه الانسان، إلا أن التعقد المتزايد للمجتمع المعاصر صاحبه ظهور جيل جديد من المشكلات التي عجزت التخصصات المنفردة عن مواجهتها. وهي المشاكل التي تعرف بـ "المشاكل الضارية" Wicked Problems (عكس "المشاكل الداجنة" Tame Problems). وهي مشاكل متعددة الابعاد (طبيعية، سياسية، اجتماعية، سياسية، ثقافية) لم تكتسب صفة الضراوة من فراغ بل جاءت حصيلة لما تتمتع به خصائص تميزها عن أنواع المشاكل الأخرى:
1. عدم وجود تعريف عام لها لا يتوقف على السياق فعلى سبيل المثال يختلف مفهوم في كندا عن مفهومه في مصر. هذا بالإضافة الى غموض كل ما يتعلق بمكوناتها وبالعوامل المؤثرة عليها وبطبيعة الحل المرتقب،
2. الدور الحاسم الذي يلعبه المتأثرين بها Stakeholders، بخلفياتهم المتعددة، سواء كان هذا في التعريف بها أو في تقبل حلولها الممكنة
3. الدور الذي تلعبه القوي السياسية والموارد المتاحة في تحديد الحل،
4. غيبة أي معايير موضوعية لتقييم الحلول الممكنة والاكتفاء بأحكام عامة من قبيل جيدة او غير جيدة.
ومن ابرز امثلة هذه المشكلات مشاكل "التنمية المستدامة"، "الإرهاب"، "حماية البيئة الطبيعية".
وفي مواجهة هذه المشاكل قدمت منظومة العلم عدة مقاربات تتجاوز ضيق افق النظم (التخصصات) العلمية التقليدية. وأولى هذه المقاربات، وأبسطها، المقاربة "متعددة التخصصات" Multidisciplinary التي تقوم على استخدام نظم علمية مختلفة لدراسة الأوجه المختلفة لظاهرة بعينها كل من منظوره المتخصص. وثاني هذه المقاربات هي المقاربة "متداخلة التخصصات" Interdisciplinary Approach، التي تقوم على استخدام ناتج التفاعل بين تخصصين أو أكثر في التعامل مع المشاكل المعقدة. ويأخذ التفاعل اشكال مختلفة بدءا من مجرد تبادل الأفكار وانتهاءا بتوحيد المفاهيم وطرق البحث. وثالث هذه المقاربات، وأكثرها تعقيدا هي مقاربة "تجاوز التخصصات" Transdisciplinary. وهي مقاربة لإنتاج المعرفة تقوم على تطوير اطار مفاهيمي مشترك يسمح لمجموعة من التخصصات المختلفة بالتفاعل الخلاق فيما بينها. ولعل افضل تشبيه لهذا الاطار هو "حلبة الرقص" بما توفره للراقصين (التخصصات) من أرضية ملساء وموسيقى ذات إيقاع واضح لا يسمح لهم بالرقص في تناغم بل يسمح لهم أيضا بإبداع إرتجالات غير مسبوقة.