جبر الحداثة: المبادئ العامة (4/2)


السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن - العدد: 6237 - 2019 / 5 / 22 - 01:12
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

عرضنا في مقال سابق (السيد, 2019) لملامح حضارة التمكين، تمكين الانسان، التي تعتبر إقامة مجتمعها هو الهدف الأعلى لما اطلقنا عليه اسم جبر الحداثة. وجبر الحداثة هو مجموعة من المفاهيم المشتقة من العقلانية الجديدة. والعقلانية الجديدة هي العقلانية الجديدة هي تلك التي شكلها التفاعل الخلاق بين اكتشافات الإنسان في عالم المادة متمثلة في نظريتي النسبية والكم وظواهر “الانتظام الذاتي" Self-Organization ومرورا برؤاه العلمية متمثلة في "المنظوماتية"System Approach و"السيبرنيطيقا" Cybernetic و"نظرية التعقد" Complexity Theory، وبتوجهاته الفكرية مثل "المنطق الغائم" Fuzzy Logic ، وانتهاء بإنجازاته التقنية متمثلة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وفى الهندسة الوراثية.
(السيد, (قيد النشر)).

وهي العقلانية التي يمكن صياغة جوهرها في أربعة مبادئ عامة هي مبادئ جبر الحداثة:
1. الانفتاح هو شرط البقاء،
2. الغد هو الأفضل دائما،
3. تحرير العقل،
4. تيسير الفعل.

يتعلق المبدأين الأول والثاني بمجال الفعل وهو المجتمع ككل الذي يسعى الانسان الى تحديثه. ويتعلق المبدأين الثالث والرابع ببعدي تمكين الانسان وهما: "تحرير العقل" و"تيسير الفعل". وسنخصص هذه المقالة لعرض المبدأين الأول والثاني.

1. الانفتاح هو شرط البقاء
تخبرنا المنظوماتية، ومن قبلها القانون الثاني للديناميكا الحرارية، ان مصير المنظومات المنغلقة الحتمي هو الفناء لذا يكون منطقيا ان يكون أول مبادئ جبر الحداثة هو أن "الانفتاح هو شرط البقاء". فلا حياة ولا بقاء لأية منظومة، مادية أو معنوية، إن هي انغلقت على نفسها وانكفأت على ذاتها واكتفت بما تملكه من موارد مادية مصيرها الزوال او موارد معنوية (قيم، أفكار، ....) مصيرها التقادم وفقدان الفعالية. باجترار تاريخها وإعادة انتاجه. وهو انفتاح لا مفر أمامنا من قبوله في عالم ازالت فيه تكنولوجيا المعلومات والاتصالات كافة العقبات التي تعوق تدفق الأفكار، وحواته العولمة الى شبكة من المصالح المتداخلة.
وانفتاح أي مجتمع، وهو المنظومة موضع الاهتمام، لا يقتصر على استيراد الماديات، "الانفتاح المادي"، أيا كان شكلها طاقة او سلع مصنعة، لكنه يعني أيضا، وهو الأهم، "الانفتاح الفكري" بأبعاده الثلاث:
 الوعي بمتغيرات الواقع بمستجدات الواقع ومتطلباته،
 تقييم قدرة ما يتبناه المجتمع من قيم وأفكار على مواكبة هذه المستجدات،
 استعداده لقبول كل/بعض ما أنتجته الحضارات الأخرى من قيم وأفكار ثبتت فعاليتها في تحقيق رفاه الانسان.

وبينما لا يواجه "الانفتاح المادي" عقبات جوهرية تحول تبنيه، يواجه "الانفتاح الفكري" عقبة جوهرية ورئيسية وهي تبني مفهوم "الحقيقة المطلقة". أو بعبارة أخري قناعة أغلب أفراد المجتمع بصواب ما يعتنقونه من أفكار ما يتبنوه من قيم صواب لا ينتقص بتغير المكان ولا بمرور الزمان. وبالطبع يؤدي تبني هذا المفهوم الى ثنائية "إما... أو..."... وهي الثنائية التي تحصر خياراتنا في خيارين “إما (تكون معي).. أو . . (تكون ضدي) .... فـ "إما (انت مثلي تؤمن بما أومن به) أو (أنت كافر / مهرطق/ ...)". وهي الثنائية التي كلفت المجتمعات التي تبنتها انهارا من الدماء.

وبقليل من التأمل تكتشف أن هذه الثنائية ماهي الا أحد تجليات "قانون الثالث المرفوع"Law of the Excluded Middle الذي صاغه الفيلسوف ارسطو (384-322 ق.م) منذ أكثر من ألفى سنة على هيئة قانون من قوانين المنطق. وينص هذا القانون، في صورته اللفظية، على "أن الحكم بصحة أمر من الأمور لا يخرج عن اثنتان: فهو إما أن يكون صائبا، أو أن يكون خاطئا". وهو القانون الذي يحصر خياراتنا في خيارين فقط يستبعد كل منهما الآخر. ومن هنا تبرز أهمية "المنطق الغائم" وعلاقته بالانفتاح فهو منطق يرفض القانون الرئيسي الذي قام عليه المنطق التقليدي، قانون الثالث المرفوع، ولقد تمكن برفضه هذا من تجاوز عدم واقعية مقولة الصواب المطلق أو الخطأ المطلق التي ارتكز عليها المنطق التقليدي ومن إفساح الطريق أمام منطق جديد يسمح بامتزاج الخطأ والصواب في أحكامنا على الأمور. وفى النهاية يؤكد لنا "المنطق الغائم" أنه لا يوجد صواب مطلق أو خطأ مطلق وأن أحكامنا على الأمور يمتزج الخطأ فيها مع الصواب وأنه لا يوجد احتكار للصواب ولا تأميم للحقيقة. وبهذا تتأصل ضرورة تقبل الأخر والانفتاح على ما يطرحه من أفكار والتعلم مما اكتسبه من خبرات.

2. الغد هو الأفضل دائما
يعرفون التقدم بأنه "الارتقاء المستدام، الذي لا يمكن الرجوع عنه، في مستوى رفاه المجتمع" وهو بالضرورة مفهوم متعدد الابعاد تقتضي دقة وصفه ذكرها جميعا: البعد المادي، الاقتصادي، الاجتماعي والمعرفي. وهنا يبرز سؤال هام: هل تشهد المجتمعات البشرية عبر تاريخها تقدما مستمرا؟ بالطبع عند الحديث عن المجتمعات البشرية سنجد ان تاريخها مزيج من مراحل التدهور والانحدار ومراحل التطور والازدهار. لذا فان المقصود من سؤالنا السابق هو عن نتيجة مرور المجتمع بهذه المراحل وما إذا كانت بالسلب او الايجاب.
في البداية تخبرنا علوم "الانتظام الذاتي" أن كافة المنظومات المخلوقة والمصنوعة التي تتمتع بخاصية "الانتظام الذاتي". قادرة على تخليق الانتظام من الفوضى، والترتيب من العشوائية، وعلى ﺇنتاج أشكال وبنى Structure جديدة أكثر رقيا وتعقيدا من تلك التي تكون قد أنتجتها أثناء تاريخها السابق، وأنها قادرة أيضا على ترقية أحوالها دوما من أوضاع بسيطة وساذجة ﺇلى أوضاع أكثر تعقيدا وتطورا مدفوعة في ذلك كله بقوى تنبع من داخلها هي ولا تفرض عليها من خارجها. وهكذا يصبح حتى للمادة الصماء تاريخ مبدع وخلاق ويصبح الزمن عنصرا فاعلا للتشييد والبناء وليس عنصرا للهدم والانحلال، وذلك على النقيض من الرؤية العلمية القديمة له. فإذا كان هذا هو حال تاريخ المادة غير الحية، ترى إذن ما يكون عليه حال تاريخ الانسان. إن مغزى ظواهر الانتظام الذاتي يكمن في رؤيتها للمستقبل فهو في عرفها لا يمنح ولا يفرض ولكنه يخلق بوعي. وتأتي الدراسات الميدانية بدعم وعملي لما أخبرتنا به علوم "الانتظام الذاتي". وفيما يلي مثال لنتائج احدى هذه الدراسات (Heylighen & Bernheim, 2000):
 البعد المادي
يعتبر متوسط عمر الانسان من المؤشرات الهامة المستخدمة في قياس البعد المادي للتقدم وذلك لارتباطه بجودة التغذية وارتفاع مستوى الرعاية الطبية. وفى بداية القرن العشرين كان متوسط عمر الانسان في البلدان المتقدمة حوالي 50 سنة و40حوالي سنة في البلدان الأقل تقدما. واليوم ارتفع هذا المتوسط ليبلغ حوالي 78 في البلدان المتقدمة وحوالي 67 سنة في البلدان الأقل تقدما. هذا ويزداد هذا المتوسط 3 سنوات كل 10 سنوات في البلدان الأقل تقدما وسنة واحدة في البلدان المتقدمة.
 البعد الاقتصادي
فعلى سبيل المثال انخفض معدل الفقر، على مستوى العالم، من 70% في ستينات القرن العشرين الى حوالي 30% اليوم. كما بلغ معدل الزيادة السنوية في متوسط اجمالي الدخل القومي 2%. وقد صاحبت هذه الزيادة زيادة في "الإنتاجية". وزيادة الإنتاجية هذه تعني انتاج نفس الكمية من السلع باستخدام عمالة وموارد اقل مما كان يستخدم من قبل. واحد اهم أسباب زيادة الإنتاجية هو التقدم غير المسبوق في تكنولوجيا المعلومات. فعلى سبيل المثال، وطبقا لقانون مور Moore s Law، تتضاعف سرعة المعالجات كل 18 شهر وينخفض سعرها بنسبة 50%.
 البعد الاجتماعي
تعتبر "الديموقراطية" أحد اهم المؤشرات الهامة على البعد الاجتماعي للتقدم. وفى عام 2014 بلغ عدد الدول الحرة، التي تتبنى نظام ديموقراطي، 88 دولة (بنسبة 45% من دول العالم) وذلك بالمقارنة مع 44 دولة حرة سنة 1973 (بنسبة 29% من دول العالم).
 البعد المعرفي
وهو البعد الذي تتعدد مؤشراته مثل متوسط عدد سنوات الدارسة، معامل الذكاء IQ، معرفة القراءة والكتابة، القدرة على التوصل للمعلومات. وعلى سبيل المثال انخفض معدل الامية، على مستوى العالم، من 24.5% في عقد التسعينات (1985-1994) الى نسبة 13.9% المتوقعة سنة 2015. اما بخصوص "معامل الذكاء" للإنسان فلقد اكتشف العالم النيوزلندي جيمس فلين James Flynn يزداد بمعدل 3 نقاط كل عشر سنوات.

أي مفهوم التقدم يعني بالضرورة ان "الغد هو الأفضل دائما".

المراجع
Heylighen, F., & Bernheim, g. 2000. Global Progress I, II: Empirical Evidence for Ongoing Increase in Quality-of-Life. Journal of Happiness Studies, 1(3): 323–374.
السيد, ا. ن. ا. 2019. جبر الحداثة: حضارة التمكين (4/1) الحوار المتمدن, 6232(17 مايو 2019 ): http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=637521.
السيد, ا. ن. ا. (قيد النشر). علوم ما بعد الحداثة: المفاهيم والتداعيات. عمان، الاردن: دار الشروق.