العربية محفوظة لكونها لغة القرِآن؟!


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 7837 - 2023 / 12 / 26 - 13:34
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

" لكنها تدور يا ملوك الطوائف"
ليس بالضرورة أنّ العرب الهدف الأوحد لمؤامرات كونية غربية، لكنني واثق من أن اللغة العربية، وعاء الأمة الحضاري، تتعرض لأشرس مؤامرة استعمارية تنفذ بأيدٍ محلية في محاولة لطمسها بإحياء لغات محلية ميتة وتعظيم اللهجات، بينما لا يزال البعض يلهث وراء سراب أن الله يحفظها من الضياع كونها لغة القرآن، وتُرك الحبل على الغارب للعابثين بها ولدعاة الشعوبية.
صحيح أنّ الغرب وجد ضالته في العدو الأخضر، منذ ظهور نظرية صامويل هانتغتون وفوكاياما، بعد أفول نجم عدوه الأحمر وانهيار المنظومة الشيوعية، لكننا أعطيناه الترخيص كي يستمرئ تفكيك أواصرنا ونهبنا بتصرفاتنا الهمجية وصراعاتنا البينية العبثية والبعد عن أدوات الإنتاج والديمقراطية.
بيد أن صراع الغرب مع المنطقة لا علاقة له بالإسلام، فهو قائم قبل رسالته. فالتاريخ شاهد على صراع بيزنطة مع بلاد الشام ومحاولات هيمنتها عليها أقدم من الدولة الأموية وبدء توسع الدولة العربية التي وصلت إلى الأندلس وجنوبي فرنسا وصقلية.
سوف تظل الحدود المشتركة نقطة احتكاك بين ثقافتين متنافرتين، إحداهما قلقة، تتلمظ بالأخرى بشكل دائم لأسباب توسعية واقتصادية، وهو ما يتجلى في عدد مرات الغزو الأوروبي للضفة الشرقية والجنوبية للبحر المتوسط منذ بيزنطة حتى تأسيس ربيبة الغرب على أرض فلسطين العربية تنفيذًا لمشروع أوروبي للخلاص من اليهود في قارتهم وفي الوقت نفسه إضعاف العرب والتهام ثرواتهم والحيلولة دون تقدمهم.
ومن منطلق هذا الصراع الذي كانت له جولات عديدة كان حريًا بالآخر، القوي والمنظم، أن يُنصب الشراك لتفكيك المنطقة العربية ومحو هويتها القومية بدءًا عروتها الوثقى، لغة الضاد.
إنّ حالة الوهن التي نعيشها منذ قرون سهلت لهم تنفيذ خططهم على الأصعدة كافة، ومن بينها اللغة العربية التي تعاني من تردِ منقطع النظير، إذ تفاقمت الشعوبية والدعوة إلى العودة إلى اللغات القديمة التي واراها الثرى قبل تشكيل العالم العربي.
خططهم معروفة لضرب اللغة العربية منذ وصول فرنسا نابليون إلى المنطقة. ولولا الكتاتيب والأزهر لضاعت العربية، لكنهم استطاعوا أن يزعزعوا ثقة أبناء العربية في لغتهم وادعوا أنّها غير قادرة على مواكبة العلوم الحديثة، ولم يكترث كثيرون إلى تجربة سورية في تعريب العلوم ودراستها بلغة الضاد.
واصل الغرب مساره تجاه المنطقة العربية، وهذا يجب فهمه، فنحن لا نعيش في تكيّة، بل في رهاب من اتحاد شعوب الضفة الجنوبية والشرقية للبحر المتوسط. وهنا يحضرني تصريح للكاتب الإسباني سانشيث دراغو الذي توفي مطلع 2023 إذ كتب ذات مرة إنّ "اليوم الذي ستتحد فيه شعوب جنوبي المتوسط ستتحول أوروبا إلى متحف". وهو ليس الأخير في سياق مخاوف غير مبررة في زمان يجب أن تتعايش فيها شعوب ضفتي المتوسط بعيدًا عن سيطرة واشنطن.


استمرت مسيرة إهالة التراب على اللغة القومية، في العقود الأخيرة، وذلك بإنشاء مدارس لغات وأخرى دولية، إضافة إلى تردي التعليم بصفة عامة واهمال مواد العربية، فانقسمت مجتمعاتنا إلى قبائل على مستوى الثقافة والهوية.
هذه الأوضاع، ثمرة خطط الآخر وغياب الديمقراطية، نأت بأجيال عن هويتهم، فتردى مستوى الطلاب، صناع المستقبل، في لغتهم الأم وأضحت هناك أجيال تجهل اللغة وتسخر ممن يحسن استخدامها. وَهِنَت الهوية الوطنية والقومية والثقافية، وأصبحنا في حالة ترقب ما يأتي ولا يأتي لكنّه اقترب من الدنو، الانهيار إذا استمرت الأمور على ما هي عليه.
إذا نظرنا إلى ما يحدث في غزة من مذابح جراء طوفان الأقصى عبر البلورة السحرية الدينية والفكرية لبعض الشرائح الاجتماعية ندرك أنهم نالوا من تماسك الأمة، وكأن هوية غزة إسلامية، ولو كانت الأمور هكذا لما ألغت السلطات الدينية المسيحية في بيت لحم والقدس احتفالات عيد ميلاد المسيح تأزرًا مع أهلهم في غزة.
من يريد أن يستزد من الشعر بيتًا عليه أن يدخل قاعات الدرس في الجامعات ليرى بأم عينيه حالة الجهل اللغوي لدى الطلاب. هذا ناهيك عن اللغة الموازية التي لجأ إليها الشباب في العقود الأخيرة، وليدة الشبكة العنكبوتية.
في هذا السياق، سياق ضرب العربية وتمزيق ما بقي من عناصر تجمع الأمة، خرج علينا موقع ويكيبديا بنشر مواده باللهجة المصرية. لا أظن أنّ المسؤول عن هذه الفكرة الشيطانية بريئًا، ففيها ترسيخ لمسار عزل مصر عن محيطها العربي الذي بدأ منذ سبعينات القرن العشرين. لم أرَ لموسوعة ويكيبيديا منشورات بلهجات لغة أجنبية، غير اللهجة المصرية، ولا بلغات أقليات من بين لغات العالم التي تربو على ستة آلاف.
إنّ الجهود المبذولة على تجذير اللهجات أو إحياء لغات ميتة من منظور ديني أو عرقي ليست مجانية. ومن الأحرى أن نهتم بالفصحى فهي قائمة وإن كانت في حالة ضعف، وهذا أكثر نفعًا لشعوب منطقة مصيرها مشترك منذ قرون طويلة. الاهتمام بالعربية سوف يؤتي بأكله أكثر من السير على خطى ضرب الهوية الوطنية والقومية.
لقد سجلوا خطوات واسعة على طريق ضرب الهوية العربية من خلال لغة الضاد، والأمل يكمن في صحوة للاهتمام بوعائنا الثقافي المشترك، ولنا أسوة في شعوب أخرى تعتز بهويتها دون استلاب أمام لغات الآخر المتربص بنا. السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وعليه فهناك ضرورة للنهوض بالتعليم، باللغة الأم، فإذا سارت الأمور على ما هي عليه فلن ينفع العربية كونها لغة القرآن، بل سوف يكون مصير اللاتينية هو مصريها.