خواطر حول جيل ال 27 الشعري الإسباني: من الطليعة إلى الالتزام


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 7176 - 2022 / 2 / 28 - 12:47
المحور: الادب والفن     

"لكنها تدور يا ملوك الطوائف..."

أطلق الدارسون والنقاد أسماء عديدة على جيل الـ 27 الشعري الإسباني، من بينها جيل العشرينات، جيل الديكتاتورية، جيل 1925، جيل 1928، جيل غيين-لوركا. ما يعد وضعًا خاصًا في سياق شعر اللغة الإسبانية، ويمكن الإضافة بالقول على المستوى العالمي، فليس هناك جيل شعري قط حظي بهذا العدد من الأسماء.
ورغم الطبيعية الطليعية والثورية، لم يقطع أعضاؤه الصلة بالتقاليد الأدبية في آداب اللغة الإسبانية، بل واصلوها. يندرج شعرهم في إطار تيار غنائي هيسباني يضرب بجذوره في عمق التاريخ الأدبي لتمتد إلى ديوان الأغاني الشعرية، مجهولة المؤلف، وغارثيلاسو ولوبي دي بيغا، مرورًا بالقديس خوان ديلا كروث والقس لويس دي ليون، والقرطبي لويس ديغونغورا، الذي تأثر بالشعر العربي الأندلسي، وفرانثيسكو دي كيبيدو، غوستابو أدُلفو بيكر والمحدثين خوان رامون خيمينيث وأنطونيو ماتشادو.
وكان النقد التقليدي أطلق عليهم تسمية طليعيين، لكنهم كانوا قد تغذوا على رحيق كلاسيكيي الأدب الإسباني وأبدوا تمسكًا بهذه الجذور. من هنا جاء ولعهم الأدبي والإنساني بلويس دي غونغورا وتحليقه في عالم الشعر، ما يجعله يسمو على ما هو واقعي ويومي. واعتبروا أن أهم ما في القصيدة جمالها، الحصول على هدف جمالي، وليس محتواها الإنساني، العاطفي وقدرتها على نقل مشاعر، أحاسيس الشاعر.
هذا الموقف الرافض للابتذال والعاطفية والهبوط الذي صبغ الشعر في مرحلة ما بعد الرومانسية، كان بمثابة طريقة للهرب من الواقع، من كل ما كان يحيط بالشاعر، وهو ما يمقته لرخصه وسوقيته. هذا الهروب كانت له علامة رومانسية في حالة الشاعر لويس ثيرنودا، أحد أبرز أعضاء هذا الجيل الشعري الذي كان يوصف بأنه نهم للجمال.
ما هو ملحمي حل بسرعة محل ما هو غنائي، وكتب الشعراء الأشعار الشعبية، وبرز في هذا المجال رفائيل ألبرتي. وكان سبب هذا التحول ظرف الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939)، تلتها كارثة أكثر قوة وهي الحرب العالمية الثانية وضرب هيروشيما ونغازاكي بالقنبلة الذرية على يد الأمريكان.
وأمام هذه الأحداث المأساوية لم يكن يستطيع الشعراء أن يقبعوا في برجهم العاجي. لقد اضطر الشاعر إلى أن يدرك مأساته الإنسانية، ومدى ضعف مصيره المشؤوم على وجه البسيطة، والزمن التاريخي، وإجمالاً ما واجهه في حياته وما كان له أن يدير ظهره له.
في تلك الظروف اضطر الشاعر، شاعر هذا الجيل، إلى التمسك بجذوره، وأخذ يؤمن مجددًا في ذلك الواقع الممزق والمدمر أو يشعر بالإحباط إزائه، في عالم معذب بسبب الحرب، وأراد أن يتقاسم ذلك الواقع المؤلم مع الآخرين، سواء تقاسمه أو عاشه منفردًا. في ذلك السياق أطلق شعار "الشعر اتصال" وهو ما اتخذته الأجيال التالية للحرب الأهلية الإسبانية شعارًا لها.
وعليه فإن مأساة الحرب الأهلية والحرب العالمية جرفت شعراء جيل الـ 27 جلهم نحو حركة إنسانية شعرية، نحو شعر مخضب بواقعية زمنية، تاريخية. وكان مقتل الشاعر النجم فديريكو غارثيا لوركا، في بداية الحرب الأهلية، قد ترك أثرًا قويًا في زملائه، أعضاء الجيل. كما أدت الحرب إلى تشتيت أعضائه. ويمكن مقارنة هزيمة الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية وأثرها السلبي على شعراء جيل الـ 27 بتأثير هزيمة يونيو على شعراء جيل الخمسينات الشعري العربي، مع الفارق في أن الشعراء العرب لم يضطروا إلى الهجرة نظرًا للفارق بين الحربين، ففي الحالة الإسبانية كانت بين طرفين إسبانيين، وهو ما يختلف عن سياق نكسة 1967.
كان المنفى والتشتيت أبرز ما صبغ مواقف هذا الجيل الشعري الإسباني في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، وصل الحد إلى الحديث عن منفى داخلي لمن بقي منهم في البلاد، مثل بيثنتي أليكساندري، حائز جائزة النوبل عام 1977، وإلى حد ما داماسو ألونصو.
مزقت الحرب الأهلية أعضاء هذا الجيل وبشكل مأساوي، إلا إنها لم تقطع أواصر الصداقة والتواصل بينهم. فالشعراء الثلاثة الذي بقوا في إسبانيا قاموا بدور مهم في التواصل مع المنفيين وفي الوقت نفسه مع الشعراء الأكثر شبابًا في البلاد.
وجيل الـ 27 جيل التنوع، جيل شكلت أعضاءه القيم الفردية، لهذا يتميز أعضاؤه بشخصية فنية، شعرية، مكثفة، بتنوع وتفرد أصواته الشعرية، دون أن تكون أصواتَ إنسانية وفوق إنسانية. وقد ورث الأدب الإسباني من هذا الجيل الشعري الرغبة في التجديد. ومن هنا نشأ الفن، الشعر، الطليعي، دون أن يعني هذا القطيعة مع كل ما هو سابق، بل الاستفادة منه.
من هنا كانت ميزة شعراء هذا الجيل بخصوص "التقليد"، التراث، كمكون للفكر الجمالي لدى أعضائه. وكانت عودة أعضاء هذا الجيل إلى التقليد في اتجاهين أساسيين: التراث الشفهي والمكتوب. وقد حقق الجيل تناضحًا فريدًا بين الموروث الشعري والحداثة. وجرب شعره طريق الانتقال من الصفاء إلى الثورة.