ذكريات إسبانية في وداع رائد الأدب الشعبي والحكاء الأخير الدكتور أحمد مرسي


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 7317 - 2022 / 7 / 22 - 11:12
المحور: الادب والفن     

"لكنها تدور يا ملوك الطوائف"

د.خالد سالم
هناك من يترجلون في رحلتهم الأبدية فيستعصي المداد الإلكتروني على نعيهم وذكر مناقبهم، فصدمة الرحيل، رغم الاستعداد لها، حتى وإن كان الموت معلنًا بسبب المرض، تحول دون نعيهم. هذا رغم ادراكنا أن ترجلهم إلى السماء فيه راحتهم الأبدية بعد معاناة من المرض.
دكتور أحمد مرسي، أستاذ الأدب الشعبي الغيور على تراث مصر غير المادي، كان آخرهم. سيظل جرح فقده غائرًا في نفوس تلامذته ومريديه وأصدقائه، وكثيرون منهم نعوه وبكوا عليه خلال اليومين الماضيين منذ أن أُعلن عن وفاته فجر أول أمس الأربعاء، 20 يوليو 2022.
لم أر في حياتي مصريًا متيمًا بمصر مثل هذا الرجل. كانت أحلامه كثيرة لهذا البلد منذ أن تعرفت إليه في النصف الثاني من الثمانينات في مدريد، فور وصوله لشغل منصب مدير المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد ومستشار ثقافي، المرحلة التي أقام خلالها جسورًا قوية للتعاون الثقافي بين مصر وإسبانيا.
فارقنا مخلفًا انتاجًا غزيرًا وخطوات ملموسة في التعريف بالموروث الشعبي، بينما شغل مناصب جامعية كثيرة وفي زارة الثقافة وأسس معهد الفنون الشعبية في أكاديمية الفنون التي ظل طلابها يرفلون في علمه الواسع وخبراته في الأدب والفنون الشعبية حتى آخر لحظة استطاع فيها التدريس.
تعرفت إليه في العاصمة الإسبانية وجمعتنا علاقة طيبة لم يبخل عليّ خلالها بمد يد العون وتقديم النصيحة، وكان ذلك في شتاء عام 1987. فبينما كنت في درس للغة العربية للأجانب في المعهد المصري لمحت شخصًا تضئ ابتسامته ظلام القاعة. ظننت أنه والد أحد الطلاب، لكنه عرفني بنفسه في نهاية الدرس. لم أكن قد علمت بوصوله لاستلام عمله مديرًا للمعهد. وبلهجته المميزة والآسرة، التي كان يستخدمها في سياقات بعينها، مازحني ما إذا كنت أعد أطروحة الدكتوراه في العربية أم في الإسبانية. كان في هذه المزحة دفعة طيبة على طريق تدريس العربية للإسبان. لقد أسرني بخطابه الإنساني وآرائه ومشورته في أزماتي الاجتماعية والأكاديمية. وإيمانًا منه بما يمكن أسديه لبلدي في مجال الدراسات الإسبانية أصر على عودتي إلى مصر رغم أنني كنت أعمل في جامعة مدريد. وهذه قصة طويلة، تصلح لتتحول إلى شريط سينمائي.
حققت نجاحات لم أكن أرها سنتئذ، لكنه كان يثمنها، وذات مرة قال لي إن نجاحي سوف يأتي لي بالكثير من الأعداء. وهو الموقف الذي عاشه في شبابه إذ نبهه أستاذه الدكتور عبد الحميد يونس، الذي كان يعشقه، إلى أن خطواته ستكون واسعة وهذا سيجلب له الحسد والمتاعب.
كانت بداية ساحرة، جعلتني أقدم كل ما كان في وسعي من أجل إنجاح مهمته الجديدة في قبلتنا في إسبانيا، المعهد المصري، نظرًا لمعرفتي بالبلد. لقد وطد علاقات المعهد بالجامعات الإسبانية وبمعهد التعاون مع العالم العربي، التابع لوزارة الخارجية الإسبانية، الذي تغيير اسمه ومهامه ضمن الوكالة الإسبانية للتعاون الدولي. ورغم انشغالي في الدراسة والعمل فإنني دائمًا كنت أجد وقتًا لمد يد العون حبًا فيه وفي مصر التي كان يعشقها و علَّم كل من حوله عشقها. كنت شاهدًا على عشقه لهذا البلد الذي تفانى في خدمته.
عقد الكثير من المؤتمرات في المعهد المصري فكان بؤرة يؤمها المستعربون الإسبان وأساتذة من جامعات مصرية وعربية، لعل أبرزها كان مؤتمر مئوية طه حسين بعد. وكانت ثقة الإسبان به سببًا في مساندته والتعاون مع المعهد المصري. لم تقتصر مؤتمراته على مقر المعهد المصري بل امتدت إلى جامعات مدريد وغرناطة لتعقد فيها.
كان اثبات ذاته ونجاحه تحديًا شخصيًا لم يعلن عنه، إذ كتب أحد أساتذة دار العلوم الذين درسوا في إسبانيا مقالاً يعترض فيه على تعييه مديرًا للمعهد لأنه لم يكن يتكلم الإسبانية. هذا رغم أن بعضًا ممن سبقوه في هذه المنصب لم يكونوا يعرفون الإسبانية، لكن بروزه ونجاحاته منذ شبابه لفتت الأنظار إليه، ورموا في طريقه أحجارًا. قَبِل التحدي وتعلم الإسبانية في فترة وجيزة. لقد أثبت أن عدم تحدث اللغة لا يحول دون أداء المهام التي بُعث من أجلها. لقد شغل هذا المنصب كثيرون درسوا في إسبانيا لكنهم لم يحققوا ما حققه الدكتور مرسي وما تركه من بصمه وآثارًا في هذا السياق، ما أثبت مع الأيام أن تحدث اللغة لا يضمن النجاح، فالنجاح من شيم البعض، وانتظار الدولارات نهاية كل شهر من شيم آخرين.
التف حوله فريق العاملين في المعهد إيمانًا بمشروعاته الثقافية والأكاديمية للنهوض بهذه المؤسسة المصرية التي بناها طه حسين في العاصمة الإسبانية في منتصف القرن العشرين لتكون جسرًا بين الثقافتين. ومددنا له وللمعهد يد العون كل قدر إمكاناته، ولم أبخل بشيء لتقديمه من أجل إنجاح تلك المؤتمرات التي أقامها، من بينها الترجمة الفورية والتحريرية دون تقاضي أتعابًا.
بعد وصول الدكتور أحمد مرسي بقليل إلى مدريد منحت جائزة نوبل لنجيب محفوظ، وكان حدثًا عظيمًا إذ امتلأ المعهد المصري بممثلي وسائل الإعلام الإسبانية. كان غزوًا، حسب تعبير الدكتور مرسي. جاء الصحفيون يبحثون عن مادة عن نجيب محفوظ في هذه المؤسسة المصرية في مدريد، الذي لم يكونوا يعرفون عنه شيئًا. وهداه حسه إلى مخازن المعهد ليخرج النسخ المتبقية من كتاب تضمن ترجمة بعض قصص نجيب محفوظ، كان قد نُشر في الستينات، وتضمن مقدمة عن هذا الروائي كتبها المستعرب الكبير بدرو مارتينيث مونتابيث. أنقذ الموقف بتوزيع هذا الكتاب الذي نهل الصحفيون من مقدمته ما أرادوا، إضافة إلى لقائه بهم وتزويدهم بمعلومات أخرى عن صاحب النوبل الجديد.
وفي الحال فكر في وضع كتاب عن نجيب محفوظ عنوانه "عالم نجيب محفوظ"، بمشاركة كبار المستعربين الإسبان وعلى رأسهم بدرو مارتينيث مونتابيث وكارمن رويث برابو. ولثقته بي طلب مني إعداد دراسة عن "اللص والكلاب" وترجمة عدد كبير من الدراسات التي وردت إليه بالعربية، وشارك معي في هذه المهمة زملاء آخرون، من بينهم الصديق الراحل دكتور محمد أبو العطا.
من المحطات المهمة للدكتور أحمد مرسي في إسبانيا كان تعيينه مفوضًا لجناح مصر في معرض إشبيلية الدولي الذي أقيم في عاصمة إقليم الأندلس عام 1992 واستمر ستة أشهر. وهو المعرض الذي تطلب جهدًا كبيرًا في اعداد جناح مصر الذي كان نقطة ضرورية لرواد المعرض. كان جناحًا مشرفًا بفضل لمسات مفوضه الذي زاره ملك إسبانيا خوان كارلوس وبلغني لاحقًا أنه شرح له بالإسبانية محتويات الجناح. ومؤكد أنه يدخل ضمن التحدي الذي تشبعت به روحه عندما وطأت قدماه أرض إسبانيا. وكنت شاهدًا على زيارة شخصيات كبيرة للجناح من إسبانيا والخارج، لعل أبرزها يوم زيارتي له كان وزير خارجية أستراليا.
شهد المعهد في عهده الكثير من المعارض الفنية لفنانين مصريين وعرب وإسبان ومن أميركا اللاتينية، وهي القاعة التي كان قد أهلها المدير الأسبق للمعهد، دكتور صلاح فضل، مؤسس تقليد توطيد العلاقات الثقافية بين المعهد والمؤسسات الإسبانية، من جامعات ومعاهد بحثية.
احتفى الإسبان، من دائرة الإستعراب والخارجية، بما أسداه الدكتور أحمد مرسي للعلاقات الثقافية والأكاديمية بين البلدين، فمنحوه وسامًا رفيعًا في حفل أقيم له في وزارة الخارجية الإسبانية، تقديرًا له في نهاية خدمته في إسبانيا عام 1992. أظن أنه كان وسام الملكة إيسابيل.
حكايات مدريد وغرناطة وإشبيلة وطليطلة كثيرة، بعض منها نمائم، لعل أبرزها كانت لأحدهم، كان يريد أن يعمل نائبًا لمدير المعهد في عهد الدكتور مرسي، ولم يرد هذا الأستاذ الجامعي أن الأمر في يد وزارة التعليم العالي في القاهرة. فذات يوم أعطاني مطوية بالإسبانية لمراجعتها لغويًا، كانت لمعرض سيقام في المعهد. لم أكن أعرف من المترجم ولم أعرف سوى بعدها بشهور. صححت ترجمة المطوية. أعدتها للدكتور مرسي فأصابه ذهول! سألته عن المترجم، فأخبرني بأنه يعمل أستاذًا في أحد أقسام اللغة الإسبانية في القاهرة. هذا الأستاذ المزيف شن حربًا على الدكتور مرسي وناصبه عداء طويل الأمد ونالني من الإيذاء جزءًا. الطرف كثيرة لكن كياسة الدكتور مرسي مكنته من التغلب عليها، ومن بينها إضراب الطلاب المبعوثين قاده أحد الزملاء الأزهريين من أجل رفع قيمة المنحة، وكأن الأمر يُقرره مدريد المعهد. لكن هذه الأمور ربما لها وقفة في مجال آخر.
رحل أكبر حكائي الأمثال الشعبية، أكثر من تعلمت منه أمثالًا بعد والدتي. كنا نحن أصدقاؤه ننتظر طلته الندية كل صباح، على الفيسبوك، بمثل مصري أصيل يبدأه بجملته الشهيرة "صباح الخير. يصبحكم ويربحكم وبين العباد ما يفضحكم". وهي جملة معجون بعرق الشعب المصري الأصيل.
ختامًا إليك هذه العدودة، من التراث الشعبي المصري الذي كنت معجونًا به: "لو كنت أعلم ..إنك تروح ماتجيش ..كنت اوقّف لك على كل ناصية شاويش". في أمان الله وإلى لقاء في عالم أرحب وأكثر عدلاً.