حقوق الملكية الفكرية وتأثيرها على التنمية المستدامة: إسبانيًا نموذجًا


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 7805 - 2023 / 11 / 24 - 12:28
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

" لكنها تدور يا ملوك الطوائف..."

مع رحيل الجنرال فرانكو، في نهاية عام 1975، سعت إسبانيا إلى تقليص المسافات التي كانت تفصلها عن محيطها الأوروبي، بدءًا بالتحول الديمقراطي منذ مطلع الثمانينات، وعلى وجه الخصوص مع وصول الإشتراكيين إلى سدة السطلة نهاية عام 1982. إذ كانت قد غُيبت عن فضائها الأوروبي منذ انتهاء الحرب الأهلية (1936/1939) التي أشعلها الجنرال فرانكو وعلى إثرها قفز إلى حكم البلاد طوال أربعة عقود.
ومن بين ما أفرزته الديمقراطية الوليدة كان اقرار قانون الملكية الفكرية الذي أفضي عام 1988 إلى إنشاء جهاز يسهر على حماية حقوق الملكية الفكرية تابع لوزارة الثقافة تحت مسمى، El Centro Español de Derechos Reprográficos (CEDRO) ، أي المركز الإسباني لحقوق النسخ. وهو جمعية غير ربحية تمثل حقوق الملكية الفكرية ذات الطبيعة التراثية لمؤلفي وناشري الأعمال النصية المحمية (أي الكتب والمجلات والصحف والنوتات الموسيقية، إلخ.)، وتدافع عنها.
والسؤال الذي يطرح نفسه في إسبانيا وفي أي بلد منتج للملكية الفكرية أو مستهلك لها هو: ما عواقف استخدام المصنفات والميزات الثقافية دون ترخيص؟ كيف تُحارَب القرصنة؟
ومعروف أن إستخدام المصنفات والميزات الثقافية من أعمال أدبية وموسيقية وتصويرية فوتوغرافية وسينمائية وما إلى ذلك، دون تصريح من أصحاب الملكية الفكرية، يؤدي إلى تأثير سلبي على التنمية الثقافية ونشر الثقافة، ويسبب أضرارًا اقتصادية كبيرة تؤدي إلى اختفاء شركات وتدمير وظائف. وعليه فإن انتهاك حقوق الملكية الفكرية عمل من أعمال المنافسة غير العادلة، ويضر بشكل خاص بتنمية الصناعة الثقافية. وعلاوة على ذلك قد يُشكل جريمة مدنية أو جنائية. وفي حالة حدوث مثل هذه الانتهاكات يجوز لصاحب الحقوق رفع دعاوى مدنية للمطالبة بالتعويض عن الأضرار والاجراءات الجنائية المنصوص عليها في قانون العقوبات، وقد تصل إلى السجن والغرامة .
وفي حالات انتهاك حقوق الملكية الفكرية على الشبكة المعلوماتية، يسمح القانون لصاحبها أن يطالب باتخاذ إجراء من القسم الثاني في لجنة الملكية الفكرية، وهي هيئة تابعة للوزارة، بهدف إخطار خدمة مجتمع المعلومات والمطالبة بإزالة المحتوى الذي ينتهك حقوق الملكية الفكرية للمؤلف.
وكانت السنوات الأخيرة قد شهدت تناميًا في حدة النقاش في الساحة الإسبانية حول ضرورة تحقيق التوازن بين حماية الملكية الفكرية والحقوق الأساسية للمواطنين والمصالح العامة الأخرى، بغية البحث عن تدابير للقضاء على نقل المصنفات المحمية عبر الشبكة المعلوماتية دون الحصول على تصريح من أصحاب الحقوق. وهذا الجدل حول الملكية الفكرية والعديد من الحقوق الأساسية أدى إلى بعض التآكل في الحريات التي ميزت عمل الشبكة الملعوماتية.
وتسعى تدابير الحيلولة دون القرصنة إلى إرساء الأسس القانونية للصناعات الثقافية كي تطور نماذج أعمال بمقابل في الشبكة المعلوماتية أو المنصات القانونية لتوزيع الأعمال، لكنها لم تحقق نجاحًا يذكر، في حين أصبح تبادل الملفات، من خلال أنظمة غير مصرح بها، ممارسةً يتقاسمها الملايين من مستخدمي الشبكة في جميع أنحاء العالم، وخاصة بين القطاعات الأصغر سنًا من هؤلاء المستخدمين.
ورغم كل المحاولات والإستراتيجيات المختلفة تجاه منع تداول المصنفات عبر الشبكة الملعوماتية دون تصريح من المؤلف فإنها تصطدم، في حالات عديدة، بحقوق الملكية الفكرية وبعض المبادئ الأساسية لدولة القانون والديمقراطية.
وانتشار المواقع التي توفر روابط للتبادل غير المصرح به لملفات محمية بموجب الملكية الفكرية يقف وراء الرغبة الملحة في اختصار المسار والحصول على تعليق هذه الخدمات أو إغلاقها دون إخضاعها لقرار قضائي مسبق.
وقد سُعي إلى تفسير مشروع قانون الاقتصاد المستدام الذي أُقر في إسبانيا منذ سنوات والذي أثار جدلاً كبيرًا وذلك من خلال تفويض لجنة فرعية ضمن لجنة الملكية الفكرية من أجل اتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف الخدمات أو سحب المحتويات التي تنتهك حقوق الملكية الفكرية .
وهذا القانون، أي قانون الإقتصاد المستدام، يدخل ضمن إستراتيجية التغيير في النموذج الإقتصادي ويعزز القدرة التنافسية والرقابة المالية ويحارب التأخر في السداد، ويوفر الشفافية في أجور الشركات ويسهل التعاقد بين القطاعين العام والخاص .
يفوض هذا القانون اللجنة الفرعية نفسها حق اتخاذ قرار طلب التفويض القضائي ، وذلك في الحالات التي ترى فيها أن تنفيذ التدابير التي اتفقت عليها قد تؤثر على الحقوق والحريات المنصوص عليها في المادة 20 من الدستور الإسباني.
إننا أمام مشكلة أو خطأ يرتكبه كثيرون عند الاستعانة بنصوص وشرائط سينمائية ولوحات وأنواع أخرى من المصنفات عند استخدامها في قاعات الدرس. فمن منا لم يستعن في محاضراته بأعمال حمَّلها من الشبكة المعلوماتية؟ الكل يلجا إليها، حتى الجامعات الخاصة التي تتقاضي رسومًا باهظة من الطلاب، وبعضها يطلب من الأساتذة تنزيل كتب وملفات من الشبكة ورفعها على الشبكة الداخلية للأقسام لتكون موادًا للطلاب، دون سداد أية حقوق عنها للمؤلفين. والمدهش أن هذه الجامعات تسير على خطى اختفاء الكتب الورقية تماشيًا مع خطة 2030. فأي تضارب هذا بين السبل والأهداف؟!
وتكتسب حقوق الملكية الفكرية ثقلاً نوعيًا في إسبانيا نظرًا لأن صناعة اللغة الإسبانية تشغل حيزًا كبيرًا إذا أخذنا في الحسبان أن عدد الناطقين بها كلغة أم يصل إلى حوالي 500 مليون نسمة، أي حوالي 8 في المائة من سكان العالم، يتوزعون على إحدى وعشرين دولة في أوروبا وإفريقيا وأميركا اللاتينية والشمالية، إضافة إلى 80 مليون أجنبي يستخدمونها في عملهم وحوالي 40 مليون طالب يدرسونها حول العالم.
وهذه الأرقام جعلت اللغة الإسبانية تحتل المركز الثاني بعد الإنجليزية في مجال المؤلفات ذات المحتوى العلمي، والثاني بعد الصينية في عدد الناطقين بها، والثالث في مجال الاستخدام في الشبكة المعلوماتية. وفي غالبية منصات التواصل الإجتماعي، كفيسبوك وتويتر وويكيبديا، تحتل اللغة الإسبانية المركز الثاني بين اللغات الأكثر استخدامًا فيها. وعلى مستوى إجمالي الناتج المحلي العالمي فإن الدول الناطقة بالإسبانية تمثل نسبة 7 في المائة.
كل هذا أكسب اللغة الإسبانية زخمًا كبيرًا، إذ أن حوالي 70 في المائة من الوثائق والكتب العلمية المتداولة بين الإحدى وعشرين دولة الناطقة بالإسبانية تُنشر في إسبانيا، ونسبة 72 في المائة من الانتاج العلمي فيها متداولة باللغة الإسبانية وتشمل ثلاثة مجالات رئيسة: الفنون والإنسانيات والعلوم الإجتماعية والعلوم الطبية.
وقد اعطت هذه الأرقام ثقلاً للمنتج المنشور بالإسبانية بدءًا بالكتب والمجلات والصحف والموسيقى والأفلام والوسائط ومنحت صناعة اللغة أهمية كبيرة، ما يعظم أهمية الملكية الفكرية في هذا البلد، في مُناخ يعاني من مشكلة القرصنة المنظمة والاقتصاد الأسود كمعظم دول العالم التي لديها ما تطرحه على المستهلك من صناعات ومنتجات ملكية فكرية.
وعليه فإن إسبانيا لديها مشكلة تعاني منها تتمثل في الإستيلاء على الملكية الفكرية، ما يؤدي إلى خسائر كبيرة لقطاع صناعة الثقافة وبالتالي تدمير الكثير من الوظائف ومداخيل قطاع يمثل نسبة 4 في المائة من الناتج المحلي لإسبانيا.
ونظرًا لأن إسبانيا تمثل الوجهة الأولى للمهاجرين الأفارقة غير الشرعيين منذ العقد الأخير من القرن العشرين فإنها تشهد ظاهرة البائعين الجائلين، ما يطلق عليها Top manta ، وهذا التعبير يعني بيع أحدث ما في السوق من أقراص مدمجة وملابس وعطور وألعاب فيديو وساعات ومنتجات أخرى مُقلدة من العلامات التجارية العالمية والمشهورة.
ويثير هذا الاقتصاد الأسود جدلاً إجتماعيًا وقانونيًا وتشريعيًا في إسبانيا، إذ يرى فريق ضرورة تغليظ عقوبة البيع التي كانت تصل إلى السجن ثم خُففت لتصبح مخالفة مالية، بينما يرى فريق آخر ضرورة التسامح مع هؤلاء البائعين الجائلين. فالفريق الأول يرى أن هناك ضرورة لمنعه تمامًا حفاظًا على الملكية الفكرية بينما يرى الفريق الثاني أن ظروف المهاجرين القاسية تحملهم على الإتجار في هذه المنتجات المقلدة ما يقيهم من شر اللجوء إلى طرق أخرى غير قانونية، بشرط ألا يتخطى البيع في هذه الحالة رقمًا ماليًا محددًا.
ويزيد عدد البائعين الجائلين على ثلاثة آلاف بائع يلحقون خسائر مالية كبيرة بالاقتصاد. فعلى سبيل المثال أسفرت تجارتهم عن خسائر وصلت إلى ثلاثمائة مليون يورور في مدينة برشلونة وحدها في صيف 2019، الصيف الأخير قبل حدوث جائحة الكورونا وتقليص الحركة في الشوارع. وحسب الأرقام الرسمية فإن هذا القطاع يحرك 1,5 مليار دولار سنويًا في إسبانيا .
تجدر الإشارة هنا إلى أن آعمالًا مسرحية كثيرة عالجت في السنوات الأخيرة ظاهرة الهجرة غير الشرعية ورفض المجتمع الإسباني لها لأسباب تتعلق بالخوف على الهوية الوطنية ومزاحمة المهاجرين لهم في أعمالهم. إنه الخوف من الآخر، مما يحمل ويأتي به من جديد على مستوى العادات والتقاليد والدين. وكل هذه الأسباب والمخاوف تصطدم بخطة عام 2030 التي تقوم في صلبها على مبادئ المساواة وعدم التمييز ولم الشمل دون أي استثناء والوصول أولاً إلى المستبعدين والمقصيين، والاهتمام بالمجموعات المهمشة، وكلها تتم على استخدام نهج قائم على حقوق الإنسان، ودونه فإن تنفيذها لن يكون حاسمًا. كل هذا من أجل تحقيق عمل دولي نحو عالم أكثر عدلاً وازدهارًا في عام 2030.
وتماشيًا مع التوجهات العالمية المنبثقة عن إقرار الأمم المتحدة خطة التنمية المستدامة 2030 التي اعتمدتها الأمم المتحدة عام 2015، أنشأت حكومة إسبانيا وزارة جديدة استُحدثت من رحم وزارة المساواة، تحت مسمى "وزارة الحقوق الإجتماعية وخطة 2030". وبهذا أصبحت هناك وزارة مستحدثة تضطلع بالخطة، مع الابقاء على وزارة المساواة وليدة وزارة الشؤون الإجتماعية القديمة. وتتولى الوزارة المستحدثة لخطة 2030 تنفيذ سياسات الحقوق الاجتماعية والرفاه ودفع وتنسيق أهدام التنمية المستدامة في إسبانيا.
تشغل إسبانيًا موقعًا متقدمًا ضمن فضائها الأوروبي في تحقيق أهداف خطة التنمية المستدامة والملكية الفكرية، إذ تحتل المركز الثلاثين بموجب ما حققته من انجاز قدره 72,2 في المائة من المراد تحقيقه من أهداف خطة التنمية المستدامة لعام 2030 بأهدافها الـ17، وغاياتها الـ169 ومؤشّراتها الـ231. وتهدف هذه الخطة إلى تحديد اتجاه السياسات العالمية والوطنية المعنية بالتنمية، وإلى تقديم خيارات وفرص جديدة لسدّ الفجوة بين حقوق الإنسان والتنمية. كما أنّها تشكّل إطارًا عامًا يوجّه العمل الإنمائي العالمي والوطني.
ورغم تقدم إسبانيا النسبي في تحقيق الأهداف المرجوة فإنها لا تزال بعيدة عن الوصول إلى المرتبة المرجوة. فدول أخرى من محيطها الأوروبي تحتل مراكز متقدمة عليها، وعلى رأسها الدول الإسكندنافية، إذ حققت معدلات تصل إلى 84,5 في حالة السويد، و83,9 في حالة الدانمارك و82,31 هي نسبة النرويج، وهذه الدول تحتل المقدمة بين دول العالم.
وعلى مستوى الدول الناطقة بالإسبانية، أي التي تدور في فلكها اللغوي والثقافي، فهناك مسافة كبيرة تفصلها عنها، وعلى سبيل المثال تحتل تشيلي المركز الثاني والأربعين بمعدل انجاز قدره 67,2، والمكسيك تحتل المركز 56 بنسبة انجاز قدرها 63,4 في المائة، وتحتل البيرو المركز الحادي والثمانين بنسبة انجاز قدرها 58,4 في المائة، بينما تحتل كولومبيا المركز 91 بمعدل انجاز للأهداف قدره 57,2.
من هذا الأرقام المستخلصة من سياقات إسبانيا وسياقات عالمية أخرى نجد أن إسبانيا تحتل موقعًا متقدمًا نسبيًا في تحقيق عدد من الأهداف التي وضعتها بين أولوياتها وصولاً إلى تحقيق أهداف الخطة وغاياتها ومؤشراتها.
وعلى مستوى الأهداف التي استوفتها إسبانيا نجد أن المساواة بين الجنسين تتصدر القائمة المنجزة، بينما معدلها في مجال المدن والمجتمعات المستدامة والسلام والعدل والمؤسسات القوية فلا يزال أمامها بعض الخطوات التي يجب أن تتخذها كي تحقق تقدمًا ملموسًا. وهناك حاجة إلى تحسين مسار القضاء على الجوع وتوفير التعليم الجيد.
كان لإسبانيا السبق في أمور أخرى تتسق مع خطة عام 2030، من بينها "نظام مدريد للعلامات" الذي وُلد في نهاية القرن التاسع عشر بينما كانت خطوة ونقلة على طريق ما يُعرف بحقوق الملكية التجارية لاحقًا. في تلك الفترة كانت الإمبراطورية الإسبانية، التي لم تكن تغيب عنها الشمس، تترنح وتنتهي بفقد آخر مستعمرتين لها وهما كوبا والفلبين على يد الدولة الفتية القوية سنتئذ الولايات المتحدة الأميركية. كان ذلك في عام 1898م، وهي الهزيمة التي تجمعها بنكسة يونيو/حزيران 1967 خطوط توازٍ في الأثر على المستويين الوطني والقومي. ومن هذا البرتوكول أو ما يطلق عليه إتحاد مدريد أصبح هناك "نظام مدريد للعلامات" يسهر على حماية العلامات التجارية للدول التي أخذت تنضم إليه منذ نشأته عام 1891م.
وختامًا لزم التعريج على الحيز الأكاديمي حيث نجد "التصنيف الإسباني للجامعات" أو تقييم ويبوميتركس العالمي للجامعات Webometrics Ranking of World Universities وهو مبادرة لمعمل سيبرمتريكس التابع للمجلس الأعلى للبحث العلمي (CSIC)، وهو أكبر هيئة عامة للبحث في إسبانيا. وهو تصنيف دولي وضع عام 2004، يُعد في مركز الإنترنت الإسباني الدولي، وفقًا لمعايير جامعة مدريد ويهدف إلى تشجيع المؤسسات الأكاديمية والبحثية إلى عرض ما لديها من أنشطة بحثية وعلمية لتعكس مستواها العلمي المتميز على شبكة الملعوماتية.