الروائي لويس ماتيو ديث يفوز بجائزة ثربانتس نوبل آداب الإسبانية


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 7819 - 2023 / 12 / 8 - 16:59
المحور: الادب والفن     

"لكنها تدور يا ملوك الطوائف"

د.خالد سالم
لئن حلم الإنسان بحياة مديدة ومال وفير قد يضمن له سعادة فإن هناك من يضرب بهذه الآمال عرض الحائط ليؤكد أن العمر كذب، والحياة غير مريحة والسعادة لا وجود لها، لكنه كان يأمل في الفوز بورقة يانصيب وسط ركام الحياة، فتحقق حلمه في سن متقدمة ممثلاً في جائزة ثربانتس، نوبل الآداب المكتوبة الإسبانية.
الفائز بالجائزة، في دورتها لعام 2023، التي تحمل اسم أحد أعظم الروائيين في تاريخ الأدب العالمي، ثربانتس صاحب رواية دون كيخوته، هو القاص الإسباني لويس ماتيو ديث، لتتوج الجوائز السبعة التي آخذ يحصدها منذ منتصف الثمانيات. ولا تقتصر قيمتها على الجانب المادي الذي يصل إلى 125 ألف يورو، بل لأهميتها بين الدول الإحدى والعشرين الناطقة بالإسبانية، فهي منتهى كل كاتب طموح بلغة ثربانتس التي ينتظرها الجميع كل خريف. وكان قد سبقه في الفوز بالجائزة في طبعة 2022 الشاعر الفنزويلي رفائيل كارديناس.
يبدو أن حلم ماتيو ديث في الفوز بورقة اليانصيب التي كتب عنه في أقصوصته الرائعة "سلة المهملات" قد تحقق في هذه الجائزة، وهو ما أكده فور علمه بالخبر إذ قال "هذا أفضل من اليانصيب. لهذا سأنام هذه الليلة أكثر هدوءً من أيام أخرى إذ كنت أخلد إلى النوم فقيرًا بائسًا".
اعترف الكاتب بأن الصداقة لعبت دورًا جوهريًا في حياته الأدبية، ففي بداياته تعرف إلى ناشرين جمعته بهم مودة وتناغم، وأصبح له قراء كثيرون يتناغمون مع نتاجه الأدبي، وهذا النوع من الصداقة غير المرئي كفيل بأن يسهم في نجاح الكاتب، الذي لم يتأخر كثيرًا في الحصول على مقعد في الأكاديمية الملكية للغة الإسبانية.
سياق الصداقة هذا التي حصد ثمارها في حياته الأدبية يعود إلى طفولة ممتدة في بلدة بيابلينو، ليون، شمالي إسبانيا، خلال أربعينات القرن العشرين، إذ كان ذا طابع حنونًا، لطيفًا ما جعله يتمتع بحب من يحيطون به، فشكل جزءًا محوريًا في شخصيته رغم أن صرامة كتاباته توحي للوهلة الأولى بالنقيض عند بدء قراءة نصوصه. وهذه الظروف كانت جوهرية في معمار أدبه، وهو ما عكسه على صفحات أعماله السردية.
ورغم ادراكه لتقدمه في العمر نسبيًا إلا أنه على قناعة بأن هذه المسألة كذبة، ويؤكد أن أفضل رواياته لم ينشرها بعد، وقادم الأيام يحمل أعمالًا مهمة، وأن أعماله كلها يربطها خط جغرافي متناسق، قائم على قناعاته الشخصية وفهمه للفن والأدب، عدم الواقعية. وهذا نابع من أنه لا يتبع مسارات واقعية أو وثائقية أو اجتماعية، بل مسارات خيالية مختلطة بقناعاته الشخصية.
وعلى مستوى الأعمال الأدبية التي تركت بصمةً في تكوينه أكد الكاتب أن رواية تولستوي " موت إيفان إيليتش". ومعروف أن هذه الرواية تدور حول الموت موضوعًا رئيسًا لها من خلال حياة الطبقات المتوسطة. وربما كان هذا دافعًا وراء عدم خوض ماتيو ديث قصصًا تحركها الصدفة، فلجأ إلى سرد حكايات جوهرية ذات إحالات استعارية أو رمزية. وهذا يتمثل في أقصوصته المشهورة "سلة المهملات" التي تمكن فيها من الخوض في قرارة نفس القارئ عبر قصة تبدو بسيطة تصور مجتمعًا يتنازعه الظاهر والباطن، ما يحاول اخفاءه وما يطفو على السطح دون أن يدري.

نقل "سلة المهملات" إلى العربية توفيق البوركي، وتدور حول ثمانية أشخاص يتناقض مظهرهم مع تصرفهم الذي كان بطل القصة شاهدًا عليه بينما كانوا يرتكبون مخالفة، لا تتماشى مع مسلمات المجتمع الذي يعيشون فيه. فالمتلقي أمام أشخاص يمثلون تناقضًا بين هيأتهم، مظهرهم الاجتماعي، وسلوكهم، فملابسهم توحي باستعلاء اجتماعي بينما هم يلجؤون خلسة إلى سلة قمامة يدسون فيها أيديهم. المشهد نشاز، استولد دهشة لدى المشاهد الوحيد، السارد الذي شبههم بطائر العقعق، ما يمثل رفضًا مقعنًا لطائر مظهره ليس مستحبًا، فسلوكهم هذا يخالف النسق الاجتماعي القائم، وهو ما خلق لديه رفضًا لمشهد قبيح، يضمر تناقضًا بين المعلن والمُضمر أمام وعاء مخصص للقاذورات وفي بعض الحالات قد يتمخض عن مفاجآت.
فهذا المشهد الفاضح الذي استهجنه هذا الرجل لجأ إليه خلسة ذات صباح بعد صف سيارته. كانت سلة المهملات كنداهة، أو مغناطيس الذي يجذب إليه قطع الحديد التي تلامسه، ما يصور شهوة التملك، ما يحول دون تشكيل مجتمع حر يهمل بروح الجماعة، إذ يسع أفراده إلى مصالحهم الأحادية التي تتقاطع بطبيعتها مع المصالح الجمعية. وفي رأيي أنها تمثل المغريات التي تعمل على تجاوز الأشخاص للأقنعة المجتمعية المتعددة، خرق المحظور الجمعي رغم أن ظاهر أقواله توشي بشيء آخر يتناقض مع ما يخفيه، فيؤدي إلى ارتكاب أفعال زائفة، من شأنها أن تنقله من حال إلى حال، وهو ما حدث لذلك الرجل الذي شهد وسرد الأقصوصة الممتعة.
ورواية "دون كيخوته" من الأعمال الأخرى التي تمثل ركيزة في حياة لويس ماتيو ديث الأدبية، وربما هذا الاعجاب كان وراء الشبه الجسدي الذي يجمعه ببطل أكثر الروايات الإسبانية عالميةً. ويرى أن دون كيخوته تمثل حكاية الإنسان في هذا العالم، النزاع بين ما هو واقعي وما هو خيالي، الوهم وكيف يمكن الوصول من خلاله إلى الجنون. لكنه يواصل غوايته الكيخوتية مؤكدًا أنه ليس هناك شعور بالمثالية والالتزام والطموح أعظم من قصة دون كيخوته وخادمه سانشو، ثنائية ما هو غير مناسب وغير محتمل في حياة الإنسان.
وعن حيثيات لجنة تحكيم الجائزة فقد سلطت الضوء على أن لويس ماتيو ديث أحد كبار كتاب السرد الروائي في الأدب الإسباني، وريث "روح ثربانتس"، يتمتع بالقدرة على مواجهة كافة الشدائد، ما جعله قادرًا على خلق عوالم ومساحات خيالية. وأشارت إلى أنه صانع نثر يتمتع بالحصافة وبأسلوب فريد، ما قربه من المتلقي وجعله يشكل جزءًا أساسيًا من قوائم القراءة الأدبية.
حري أن أشير إلى أن سنوات تكوين الروائي أمدته بحكاياته الشعبية والشفاهية بمواد طرزت خيالته ولغته، ما خلق لديه عالم جميع فيه بين ما الثقافة العالية والشعبية، ليوصف نتاجه بالأصالة والصرامة.