اليهود بين المتحف العراقي وطوفان الأقصى


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 7766 - 2023 / 10 / 16 - 14:21
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

"لكنها تدور يا ملوك الطوائف..."

د.خالد سالم
ما يجترفه الإسرائيليون من جرائم تجاه الفلسطينيين ومعهم دول الطوق، حتى التي وقعت اتفاقيات سلام معهم لا تبرأ حتى اليوم من حروبهم التي اتخذت أشكالاً كثيرة دون العسكرية، يجعلنا نتوقف أمام تصرفاتهم اللاإنسانية طوال تاريخ البشرية. زرت بغداد منذ أيام حيث شاركت في المؤتمر الدولي الثاني للملكية الفكرية والتنمية المستدامة، ومن محطاتي القليلة خارج أروقة قاعة المؤتمر كانت زيارة المتحف الوطني العراقي. استوقفني شرح المرشد الشاب الرائع للمسلة السوداء المرئية بالنقوش والمناظر التي تصور بطولات الملك الأشوري شلمنصر الثالث منتشيًا وسيفه في غمده بينما كان ملك يهوذا يجثو راكعًا تحت أقدام الملك العراقي.
وقفت مدهوشًا أمام هذه الصورة المحفورة في المسلة السوداء النسخة في المتحف العراقي. ومعروف أن النسخة الأصلية نهبت أيام الإحتلال البريطاني لتعرض في المتحف البريطاني. وقد حاول اليهود حجبها وعرضوا أموالاً طائلة لشرائها. وكان حريًا أن تُعاد إلى الشعب الذي خلد انتصارته عليها، لكن المحتلين القدامى تمسكوا بها كعادتهم، ولم يجد العراقيون بدًا سوى بناء نسخة منها يعرضونها في متحف بلاد الرافدين الأنيق.
قصة الأسر البابلي معروفة للعالم وتمثل حدثًا جللاً لبعض الدوائر الغربية المنافقة، كان بطل هذا السبي بنوخذ نصر الثاني، ملك الإمبراطورية الكلدانية، الذي هزم مملكة يهوذا بعد تكرار اعتدائهم على مملكته وسبى في عودته يهود أورشليم. وفي بابل سخرهم في البناء. هذه الواقعة التاريخية كانت سببًا في ترسيخ عقيدة الشتات لدى اليهود، جوهر الشخصية اليهودية على مرّ العصور. وقد خلد الإيطالي جوزيبي فيردي السبي البابلي في أوبرا حملت اسم الملك العراقي نبوخذ نصر الثاني، Nabucco، واصبحت موسيقاها مصدر إلهام وبكاء لبعض مثقفي الغرب المنافقين.
بين المسلة السوداء والسبي البابلي حوالي ثلاثة قرون، بين القرنين السادس والتاسع قبل الميلاد . سبق الحدثين حدث مهم آخر في تاريخ اليهود وتشكيل شخصيتهم الرامية إلى الشتات والانعزال، الغيتو، الذي لم يبرأوا منه، حدث أكثر إيلامًا وهو خروجهم من مصر الفرعونية في عهد رمسيس الثاني، في القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وفي طريق خروجهم حملوا كل ما استطاعوا من ذهب وفضة وحيوانات وأدوات جراء خداعهم لقدماء المصريين، ونهبوا كل ما قابلهم حتى وصلوا إلى سيناء وكان تيههم فيها أربعين عامًا.
طُردوا من مصر القديمة وبلاد الرافدين، بعد السبي، واستقروا في فلسطين التي كانت لهم فيها مملكة هزيلة قوامها نهب الجيران، اتخذوها ذريعة لاغتصاب فلسطين على إثر وعد بلفور سنة 1917.
التاريخ المسيحي شخصهم جيدًا بعد تسليمهم المسيح للرومان فكانوا سببًا في صلبه، مما أفسح مساحة واسعة لكرههم في التراث الأوروبي، لكن السياسة قبلت الموازين نسبيًا. تاريخهم معروف، وكانت مواقفهم تجاه الرسول بالتعرض له ثم قصة دس السم له في الطعام يشهد بها التاريخ.
والمدهش أن المنطقة العربية الإسلامية أحسنت استقبالهم واستضافتهم بينما كانت أوروبا قد طردتهم من دولها واحدةً تلو الأخرى، بدءًا من القرن الثاني عشر حتى نهاية القرن السادس عشر. وهناك دول طردتهم في تلك السنوات أربع مرات كفرنسا، أحد أهم عرّابيهم اليوم، وألمانيا ثلاث مرات ثم صهرتهم في أفرانها في القرن العشرين. كانت مصر والمغرب العربي والإمبراطورية العثمانية وجهتهم بعد طردهم من أوروبا في تلك القرون، ولم يستقبلهم في القارة التي تساندنهم سنتئذ سوى هولندا وبولندا.
كانت الأندلس مأوى آمنًا لهم خلال قرون الحضور العربي الإسلامي في شبه جزيرة أيبريا. هناك عاشوا أقلية قليلة، عكس ما يدعون اليوم، تحت مظلة التسامح الإسلامي، ونسخوا قواعد اللغة العربية وعروض شعرها ليضعوا قواعد لغتهم وعروض شعرهم. ومع تراجع الحكم العربي في الأندلس طُردوا من شبه جزيرة أيبيريا وصقلية وكانت وجتهم بلاد الشام ومصر المغرب. وفي الحرب العالمية الثانية رفض ملك المغرب تسليمهم إلى هتلر متعللًا بأنهم رعاياه.
المنطقة العربية لم تبرأ من شتى أنواع حروبهم ومكائدهم، حتى التي وقعت مع دولتهم المغتصبة اتفاقيات سلام. اسألوا المزارعين المصريين عما يفعله الإسرائليون ببذورهم وأسمدتهم ونيلهم. وماذا عن تطويع الدوائر الصهيونية لتقف ضد مصر في المؤسسات الغربية!
زيارة المتحف الوطني العراقي وقراءة مشاهد المسلة السوداء جعلتني أسترجع تاريخهم في المنطقة بينما كانت تصلنا أخبار "طوفان الأقصى". كنت أعرف أنهم سيدكون غزة، وهو ما قلته لزميلة فلسطينية في المؤتمر، رغم أنّ ما قام به الفلسطينيون مشروع أمام آلة عسكرية إسرائيلة وعواصم غربية حرمتهم من حقوقهم المشروعة لأكثر من قرن، منذ مؤتمر بازل بقيادة هيرتزل، وسحقوا كرامتهم منذ النكبة. جاء طوفان الأقصى ليصل الحاضر بماضٍ ليس بعيدًا من انتصار أكتوبر 1973 على الكيان المغتصب، الذي ألقت عليه معاهدة سلام 1978 بظلالها، ما أدى إلى خروج مصر من معادلة الصراع فكان جحيمًا للمنطقة العربية لا نزال نحصد ثماره المرة حتى اليوم.
كانت حرب أكتوبر 1973 أهم الحروب العربية الإسرائيلية إذ سجلت مصر أول نصر عربي على الكيان المغتصب، بعد أن تمكن الجيش المصري، الذي كان عبد الناصر قد أعاد بناءه قبل رحيله، من تحقيق معجزة عبور قناة السويس وتحطيم خط بارليف. وبينما كانت مصر تحتفل بالذكرى الخمسين لانتصارها في تلك الحرب فاجأت المقاومة الفلسطينية العالم باجتياز السياج الملياري لتصل إلى أرضها السليبة في مستوطنات غلاف غزة وتكيل للعدو هزيمة جرحته في كرامته العسكرية والسياسية.
اختراق السياج الملياري جعل كثيرين يشعرون بنشوة انتصار لم تعشه المنطقة منذ خمسين عامًا. كان حريًا بالأموال العربية أن تحول دون ردة فعل إسرائيل الساحقة، أسوة بما أحدثه النفط العربي في حرب أكتوبر المجيدة، لكن العواصم العربية بدت وكأنّ على رؤوس قصور حكامها الطير، وبدا المال العربي المكدس في مصارف الغرب أغلى من دماء الفلسطينيين في غزة.
لن يحرر فلسطين سوى الفلسطينيين رغم ضعفهم العسكري في ميزان القوى العسكرية والسياسية التي يتمتع بها العدو، ولكن لهم أسوة في جنوب إفريقيا نلسون مانديلا وفي استقراء تاريخ اليهود في المنطقة وما جلبوه لأنفسهم في مصر الفرعونية وبلاد الرافدين.