نكسة يونيو في مرآة الأندلس


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 7270 - 2022 / 6 / 5 - 15:46
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

"السلام لروح ناصر، نبي العروبة الأخير"


د. خالد سالم
اليوم تحل ذكرى ما اصطلح على تسميته بنكسة يونيو -حزيران، التي كانت هزيمة كالزلزال لا نزال ندفع توابعها بعد أكثر من نصف قرن على حدوثها، الكارثة التي أحسن الأعداء استخدامها في تحقيق مصالحهم وأغراضهم هذا الحدث الجلل الذي خًطط ليه خارجيًا بمباركة أشقاء. والنكسة تحمل الخيال إلى الأندلس وما حدث فيها منذ سقوط طليطلة نهاية القرن الحادي عشر، الثغر الأوسط وأهم حواضر الأندلس حينئذٍ، بعض هجمات النصارى وغارات ملوك الطوائف المجاورة. سقوطها كلف الأعداء الكثير لكنهم كانوا يدركون أن طليطلة واسطة العقد في الأندلس، فإن سقطت فمن المؤكد أن الحواضر الأخرى، قرطبة وبطليوس وغرناطة وإشبيلية، سوف تلقى المصير نفسه تباعًا، وهو ما كان.
حلت الكارثة بمصر وأمتها التي تقع منها موقع القلب في الجسد، وهي ليست أقل من هزائم منيت بها أمم أخرى، ولعل ما حدث لفرنسا على يد ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، ليس أقل إيلامًا من نكستنا، ومع هذا لا يجتر الفرنسيون ولا يصرون على بث الإحباط في نفوس الشعب الفرنسي، بل نهضوا كالعنقاء-الطائر الأسطوري الذي أبدعته مخيلة قدماء المصريين- ونفضوا تراب الهزيمة. وكان حريًا بنا أن نقوم بشيء مماثل بعد إنزال الهزيمة بالعدو في حرب أكتوبر المجيدة، إلا أن النصر تناسيناه ليواصل البعض النيل من مصر عبد الناصر، خوفًا من أن تنهض وتأخذ بيد المنطقة معها. من بأيديهم الأمر لا يعنيهم سوى سدد سلطة أضعف من خيط العنكبوت.
لا توجد نخب تقود الأمة نحو النجاة، لكن هناك نخب تشكك في فكرة الوحدة العربية رغم أن ما يجمعنا من وشائج أقوى مما يجمع دول الإتحاد الأوروبي. ما نعيشه في العالم العربي من هوان لم يكن ليخطر على بالنا نحن الأحياء من الأجيال التي شهدت الفترة الحية والتالية للتحرر العربي. إننا نعيش وضعًا يشبه أهوال يوم القيامة، كلٌ يحاول، على طريقته، أن ينجو بنفسه متزلفًا إلى جلادي الأمة وشراء رضاهم. طُرحت الأفكار القومية في النصف الأول من القرن العشرين، وكان هناك من حاولوا تحويلها إلى واقع بدءًا بمحاولة الوحدة المصرية السورية بقطريها الشمالي والجنوبي، مكونا الجمهورية العربية المتحدة التي ولدت في مثل هذا اليوم، الثاني عشر من فبراير عام 1959.
وقد أثبتت الأيام أن من نادوا بالوحدة، قبل وبعد عبد الناصر، كانوا على حق، خاصة عبد الناصر الذي كان يسعى للحؤول دون اتساع الهوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة في المنطقة، خوفًا من حدوث ما نشهده اليوم.
تجرع أبناء جيلي في مدارس الحقبة الناصرية أخبار وبطولات وانتصار مصر المعنوي على العدوان الثلاثي ورمزية أسطورة جول جمال، الضابط المسيحي السوري الذي شارك في التصدي لسفن ذلك العدوان الثلاثي ردًا على استرداد مصر لقناة السويس التي أزهقت في حفرها عشرات ألاف من أرواح أبنائها. حاول عبد الناصر، أول مصري يحكم مصر منذ انتهاء الأسر الفرعونية، آخذ زمام المبادرة ليكون قرارها مستقلاً، والقضاء على حفاء شعب ألهبت ظهره أسواط شمرشجية الأسرة العلوية التي اشترت ذممهم بتوزيع أراضي الدولة عليهم.
بيد أن فشل تجربة الوحدة المصرية السورية، أي الانفصال، تبعتها ضربة قاصمة للخط القومي العربي تمثلت في كارثة يونيو 1967، وما حدث لاحقًا من كوارث وحروب وغزو في الشرق الأوسط والخليج العربي كان نتيجة حتمية لأخطاء وخطوات غير محسوبة وتمزق وتمزيق تخيم ظلاله الداكنة والخانقة على العالم العربي كله بدءًا بتطبيع بلا ثمن ومرورًا باستقواء نعرات إقليمية وعرقية محلية على العرب مدعومة من دول بعينها يعرفها القاصي والداني.
هذه الأوضاع تحمل إلى قراءة في الماضي الأندلسي، في القرون الأربعة الأخيرة التي سبقت سقوط غرناطة وخروج آخر حكام العرب، أبي عبد الله الصغير، ذليلاً من آخر القلاع العربية في شبه جزيرة أيبيريا في مطلع عام 1492. لست هنا بصدد التباكي على فردوس ليس مفقودًا، فالأندلس حلقة من حلقات التاريخ ولا عودة إلى الماضي. المشكلة في الحاضر والمستقبل القريب الذي لا نريد استشرافه، وكأن على رؤوسنا الطير.
مر سقوط غرناطة، وقبلها سقوط بغداد على يد التتار دون مراجعة للنهوض سوى البكاء على الماضي ورثائه والحديث الموتور من قِبل البعض عن الفردوس المفقود والاستنجاد بالسماء بغية استرداده وكأننا شعب الله المختار الوهمي الجديد، ولا نريد أن نُدرك أن لا فردوس مفقودًا، فالأندلس حلقة من حلقات التاريخ وانتهت. لهذا ليست لدينا خطط استراتيجية للخروج من مياه التخلف الآسنة، تبدأ بإصلاح ديني ممنهج يؤدي إلى نهضة وثورة صناعية، لا استهلاكية، على غرار ما فعلتها أوروبا التي نتشدق بإنجازاتها ونتوق للعيش فيها.
كان انفراط عقد دولة الخلافة في قرطبة ثم بزوغ ممالك الطوائف أول مسمار في نعش الأندلس. كما كان انفصال القطر الشمالي عن القطر الجنوبي في الجمهورية العربية المتحدة ثم كارثة يونيو 1967 مسمارًا غائرًا في نعش القومية العربية والانقسام الذي نعيشه اليوم في أبشع صوره من تطبيع وتقزيم للكبار ونعرات عنصرية تنهش لِحمة الأمة وروحها.
بيد أن المسمار الأكبر في نعش الأندلس، مثل هزيمة 1967، تمثل في سقوط طليطلة عام 1085، عاصمة طائفة طليطلة، تلاه تساقط كبريات حواضر الأندلس الأخرى. كان سقوطًا مخالفًا لقوانين الطبيعة، إذ أن الوهن عادةً ما يصيب الأطراف وليس الوسط، القلب، وطليطة كانت وسط الأندلس جغرافيًا، ما يحمل إلى الموازاة بينها وبين مصر ضمن الخط القومي ونكسة يونيو. وإذا أصاب الوهن القلب فماذا يُرجى من الأطراف؟!
هذا الوضع صوره الشاعر والفقيه الطيطلي عَبْدُ اللهِ بْنُ فَرَج اليَحْصُبِيُّ، المعروف بـابْنِ العَسَّالِ، واصفًا حال العرب في الأندلس وما كان يهدد وجودهم فيها من مخاطر على أثر سقوط طليطلة في أبياته القائل فيها:
يا أهل أندلسٍ شدّوا رواحلكمُ/ فما المقامُ بها إلا من الغلطِ
الثَّـوْبُ يُنْسَـلُ مـِنْ أَطْرَافِهِ/ وَأَرَى ثَوْبَ الْجَزِيرَةِ مَنْسُولاً مِنَ الْوَسَطِ
مَنْ جَاوَرَ الشَّرَّ لاَ يَأْمَنْ بَوَائِقَهُ/ كَيْفَ الْحَيَـاةُ مَـعَ الْحَيَّاتِ فِي سَفَطٍ

أُريدَ تقزيم مصر بأيادٍ إقليمية ودولية بالقضاء على عبد الناصر عبر إنزال هزيمة يونيو 1967 بها، وهو ما كان لهم. يُخيل إليّ أن تلك الرؤوس العربية التي أسهمت في الإيقاع "بطاووس" مصر لو قُدر لها أن تنهض من الثرى لندمت على فعلتها، فالثوب الذي ينسل من الوسط يصعب رتقه، على عكس رتقه من الأطراف. ونسل الأطراف أمر طبيعي، يسهل تقويتها، لكن القلب المعطوب ثمن رتقه عصي على البشر، وإذا استُبدل لا يكون في فعالية القلب الأصلي والطبيعي، وهو ما شهدناه منذ أن وارى الثرى جثمان ذلك الطاووس الخلاق جراء هزيمته الشنيعة ومعه هزيمة الأمة كلها.
ثمة قائل مراقب لا تزال تجري في عروقه دماء عربية رمقني بنظرة مستنكرة وقال: "ماذا تريد من أمة لم تسمع النشيد الوطني الإسرائيلي ويقف المطبعون إجلالًا في الزيارات الرسمية المتبادلة. هذا النشيد يطالب بفناء العرب!". وواصل قائلًا إنهم يتزلفون إلى أعداء الأمة خوفًا على سدد حكم أوهن من بيوت العنكبوت، ثم أنهى حديثه مدثرًا بثوب حكمة لا ينسل إذا استمرت الحال على ما هي عليه اليوم فلن يكون لديهم وقت لإطلاق "زفرة العربي الأخيرة" مثل أبي عبد الله الصغير حسرةً باكيًا كالنساء على ملك لم يصنه كالرجال". قالها وأشاح بوجهه عن هذا الأفق وسار نحو أفق أكثر رحابةً.



رغم أن تجربة الأندلس كانت فريدة ومثالاً لم يحتذَ به في تاريخ البشرية، على مستوى الرقي الحضاري والتعايش بين الثقافتين الجارتين في حوض المتوسط والمتنافرتين منذ فجر التاريخ، إلا أنها بممالكها الاثنتين والعشرين والصراعات والحروب بين الأشقاء، عربًا وبربرًا، تجعلنا نرى فيها حاضرنا العربي. كانت الأندلس مثار شقاق وصراعات وحروب بقدر ما كانت زمردة تاج الحضارة البشرية نتيجة التلاقح والتوالد بين الحضارات. لكن المراقب يرى في مرآتها الوضع العربي المتردي منذ نكسة يونيو/حزيران 1967 إلى اليوم.
مسرح الأحداث منذ النكسة وما تلاها من عثرات عربية تجتاح الوطن كله مع اختلاف في الدرجات يجعل الروح تصطلي بنار الفشل والشقاق والحروب البينية، ما يذكرنا بالقرنين الأخيرين من عمر الأندلس إذ تناثرت بين 22 طائفة، أو إمارة صغيرة، وكان خنجر الشقيق يطعن ظهر الشقيق قبل العدو. دب الوهن في الأندلس إثر الصراعات الداخلية بينما كانت الممالك المسيحية تتوحد وتستقوي بالممالك الأوروبية الأخرى.
وأمام التمسك بسُدد السلطة بأي ثمن اضطر أمراء الأندلس إلى سداد الجزية للممالك المسيحية، ووقف بعضهم مع الملوك المسيحيين ضد الأشقاء طمعًا في إبقائهم في كراسي السلطة المنسوجة من خيط العنكبوت، ووصل ببعضهم أن "زوّج" ابنته إلى ملك مسيحي، وتقول بعض المصادر إنها كانت محظية تحت ستار الزواج. ومن تهون عليه نفسه، عرضه، فهو على غيره أهون.
كان الشقاق والاقتتال على الملك بين العرب في المشرق والمغرب، الأندلس، سمة العصر منذ سقوط بغداد عام 1258م على يد المغول، لكنه برز واشتد في الأندلس بشكل لم يتكرر إلى أن أدى إلى سقوط غرناطة عام 1492م، آخر إمارة عربية في الأندلس ومعها يندثر الحضور الرسمي للعرب والمسلمين في شبه جزيرة أيبيريا لتُستأصل شأفتهم تمامًا في حرب جبال البشرات ضد أحفادهم الموريسكيين بالتقتيل والتنصير والطرد إلى بلدان المغرب العربي. هذا رغم أن أهل العقل والمنطق الأندلسيين كان قد بُح صوتهم في التنبيه إلى خطورة ما كان يحدث وما سيؤدي إليه، لكن السلطة أصابتهم بالعشى الليلي فلم يبصروا أكثر من تحت أقدامهم.
اليوم تحل الذكرى الثانية والخمسين لكابوس نكسة يونيو/حزيران التي كانت بداية مسلسل تردي المنطقة كلها وزيادة الشقاق والتمزق، الشَرَك الذي نصبوه لمصر بغية سحب البساط من تحت قدميها وإذلال عبد الناصر، راعي القومية العربية والتحرر في الوطن العربي وإفريقيا. لقد قزّموا مصر، ففقدت دورها الريادي في المنطقة، وأصبح الحديث عن العروبة كمن يتكلم عن إحياء حكم الفراعنة في مصر. والمدهش أن الدائرة الأقوى في دوائر النزعة العربية هي الأقل اهتمامًا بالعروبة، وكأنها تهديد لأنظمة بعينها.
تألبت أطراف كثيرة على اسقاط مصر في حرب الأيام الستة، كان بينها أطراف عربية، وكأن قوة مصر كانت تعني ضعفًا لهم. حدثت النكسة ومات آخر نبي العروبة الأخير، حسرةً أو مسمومًا، في سن مبكرة، ثم أُجهز على العراق وصدام حسين، آخر من انبرى دفاعًا عن المنطقة والعروبة. وكان قد غُرر به عربيًا لحماية "بوابة العرب الشرقية" ليدخل العراق حربًا ضروسًا ثم كالوا إليه الضربة قبل الأخيرة في أزمة الكويت ليجهزوا عليه ويمزقوا أوصاله بالغزو الأمريكي.
لسنا معنيين في هذه اللحظة في مواصلة اهالة التراب على عبد الناصر ولا إسقاط جام الغضب على صدام حسين والقذافي، وكأنهم الخطاؤون والآخرون ملائكة. لقد انتهت مرحلة وكل هذا صار تاريخًا. وكل واحد له ما له وما عليه، والمنطق يحملنا على الاسراع في البحث عن مخرج لأزماتنا المزمنة. اتركوا عبد الناصر في قبره، فالحرب الدائرة ضده منذ ثورة يوليو 1952 حتى اليوم أصبحت بلا معنى، فمؤيدوه لهم وجهة نظر مختلفة من منطلق مشاريعه العملاقة والعدالة الاجتماعية التي حقق منها جزءًا كبيرًا، وهو ما يفتقر إليه من جاءوا بعده في سدة الحكم في قاهرة المعز. النكسة كانت أكبر منه ومن مصر، فقد أعدوا لها جيدًا ليقصموا ظهر مصر، ولم يفتقر المسرح إلى خيانات أقرها الفريق سعد الدين الشاذلي.
علينا أن ندرك أن الأندلس من خلفنا ومن يتلمظون بنا من أمامنا. أليس ما يحدث في العالم العربي اليوم نذير شؤم يحملنا على التفكير من أن مصير الأندلس ينتظر العرب في بلادهم؟
لست متفائلاً ولا أستبعد تكرار تجربة الأندلس، ومن يرى في كلامي مغالاة فليقرأ تاريخ من يُطلق عليهم خطأً الهنود الحمر، إذ كانوا أصحاب القارتين الأميركيتين قبل وصول الأوروبيين مسلحين بالبارود في يدٍ، بينما السكان الأصليون كانوا يحاربون بالسهام والرماح، وفي اليد الأخرى الإنجيل، النصير، وطمس الهوية. إذا لم نعِ ما نحن بصدده، الانقراض وتحقيق الحلم الصهيوني من النيل إلى الفرات، سيكون الوقت متأخرًا عندما نستفيق أو نسقط في غيبوبة نهائية قبل الموت. كنت أحلم بأن أرى المنطقة كلها، وعلى رأسها مصر، منخرطة في سياق الحداثة والحرية والديمقراطية، فهي لغز انقاذنا، لكن العمر يجري ولا نرى سوى التراجع يوميُا والسير صوب حتفنا المحتوم، السقوط في الهاوية.