ذكريات عن علاقة الروائي جمال الغيطاني بإسبانيا


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 7754 - 2023 / 10 / 4 - 22:30
المحور: الادب والفن     

د. خالد سالم
لئن شغلت الأندلس مساحةً عريضةً من مخيالنا، نحن العرب، فإن امتدادها الطبيعي، إسبانيا، تشغل فضاءً في اللاوعي لدينا يخللنا كنسغ الأزهار والنباتات، دون أن نجد لذلك تفسيرًا جليًا سوى تشابك الحاضر والماضي خفيةً، فرحيق الأندلس والحنين إليها ينسحب على من عاش في إسبانيا وتردد على فضاءاتها الثقافية. هذا رغم تجاوز الكثيرين منا مرحلة الفردوس المفقود، فهو حلقة من الماضي وعودتها تنمي إلى أضغاث الأحلام، والفراديس لا تُفقد بل يمكن أن تظل حية باستنباتها واستزراع أزهارها بغية بناء مستقبل مشترك مع الآخر والانفتاح عليه.
هذه الكلامات كانت قراءتي لوله جمال الغيطاني بإسبانيا المعاصرة دون الخوض في الأندلس، إذ كان يسعى معى لبناء جسور مع هذه المنطقة الساحرة في أقصى غرب أوروبا. ويعود حضوره الأدبي في إسبانيا إلى مطلع الثمانينات، فبعد أن استقرت أمور التسجيل لبدء الدراسة في جامعة مدريد، في مطلع الثمانينات، عرجت على مكتبة قسم اللغة العربية القريب من قسم اللغة الإسبانية، فامتدت يدي إلى كتاب "حراس البوابة الشرقية" لجمال الغيطاني، فسعدت به وأخذت أتصفحه. ثم اكتشفت أن أرفف المكتبة عامرة بكتب الغيطاني إلى جانب مجايليه من مصر ومن عربية أخرى. وبعد ِأشهر قليلة جاء إلى الجامعة الكاتب النجم خوان غويتصولو ليقدم روايته "مقبرة" التي رسم عنوانها هكذا لكن بأحرف لاتينية. وفي لقائي معه في المساء أخبرني أن له صديقًا مصريًا هو الكاتب جمال الغيطاني.
قرأت مؤخرًا عدة مقالات عن الغيطاني نُشرت معًا، فقلت لأحد زملائه إن علاقته بإسبانيا وفرنسا تستحق أكثر من مقال، إذ أنهما أكثر الدول التي تردد عليها خارج الوطن العربي.
تعود علاقة جمال الغيطاني بإسبانيا إلى ما قبل ترجمة بعض أعماله وتواتر زياراته لبلاد الأندلس، إذ بدأت، ربما دون أن يعلم، في مطلع ثمانيات القرن الماضي باحتفاء المركز الثقافي العراقي في مدريد به موزعًا كتابه " حُراس البوابة الشرقية: الجيش العراقي من حرب أكتوبر إلى حرب الشمال"، الكتاب الذي نشر في منتصف السبعينات ورُوج له لاحقًا بينما كان يستعر أوار الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، بداية انهيار العراق العربي وجيشه القوي، ومعه المنطقة العربية جراء مسلسل الوهم واالخداع الذي نُصب لقادة العراق سنتئذ على يد الأصدقاء والأعداء، ومن يومها والدم العربي يسيل عابرًا حدودنا دون جواز سفر.
وكان وصول كتاب الغيطاني هذا، مع كتب أخرى، إلى مدريد بداية اهتمام حقل الاستعراب الإسباني بنتاجه. لا أدري إن كان قد حدث هذا على دراية منه أم تطوعًا من بغداد التي كانت تصبو إلى لعب دور رائد في الوطن العربي، وكانت تهدي من أراد ما يريد من كتب من خلال منافذها الثقافية في الخارج.
الاحالات إلى أدب وشخصية جمال الغيطاني كانت كثيرة فور وصولي، من بينها حديث رئيس الجامعة سنتئذ المستعرب العظيم بدرو مارتينيث مونتابيث عنه في أول لقاء جمعني به عندما ذهبت إليه شاكيًا كثرة مواد المعادلة التي كلفوني بها في قسمي. حينها فكرت في ترجمة "حراس البوابة الشرقية" لكن الظروف لم تسنح لي باتمام المشروع، وكان عليّ أن أنتظر عدة سنوات لأترجم روايته "متون الأهرام" ضمن مشروع ترجمة كبير لم يكتب له الاستمرار رغم جني ثمراته الطيبة في سني عمره القصير، فكان مفاجأة سارة له ولم يبخل على في مد العون لتفسير بعض الجمل المستغلقة والألفاظ الصعبة. بعد فترة اقترحت علي دار نشر مراجعة روايته "الزيني بركات" التي ترجمتها زميلة إسبانية عاشت في مصر سنوات طويلة في بداية مشوارها في عالم الاستعراب.
ومن خلال قسم الدراسات العربية والإسبانية نُسجت جسور ووشائج قوية للغيطاني بعالم الاستعراب الإسباني والجامعات الإسبانية. وكان عمد هذه العلاقة اثنين من أبرز مستعربي هذا البلد القريب من عالمنا العربي بحكم وشائح التاريخ والثقافة المشتركين، وهنا أعني العلامة الراحل بدرو مارتينيث مونتابيث، الذي ظل مهمومًا بقضايانا ومشكلاتنا القومية منذ أن عاش في قاهرة الخمسينات ثلاثة أعوام، والمستعربة والناشرة الدؤوب كارمن رويث برابو. هذا بالاضافة إلى علاقته العميقة مع مستعرب آخر من نوع خاص، الأديب خوان غويتصولو.
ظل بدرو وكارمن حتى آخر لحظة من حياة الغيطاني يتابعان أخباره، وكانا قد أبديا قلقهما عليه منذ أن هزمته الأزمة القلبية التي أودت بحياته، إذ هاتفاني ليسألا عنه ثم لجآ إلى زوجه لاستجلاء الأمر. كان قلقهما بالغًا، إذ كانا يكنان له ولنتاجه الأدبي احترامًا كبيرًا ويثمنانه منذ بداياته الثقافية.
كانت إسبانيا آخر بلد يسافر إليه جمال الغيطاني، إذ دُعي من البيت العربي لتقديم ترجمة كتابه ّهاتف المغيب" في معرض كتاب مدريد في يونيو 2015، وبعدها بأقل من شهرين انهار قلبه فدخل في غيبوبة الرحيل الأخير. وفي البيت العربي، التابع لوزارة الخارجية الإسبانية، اشترك في تقديم الترجمة الدكتور بدرو مارتينيث مونتابيث وحضره محبو الغيطاني من العرب والإسبان. واستعرض الغيطاني مساره الإسباني بدءًا من ترجمة أعمال له مثل "متون الأهرام" و"الزيني بركات" و"هاتف المغيب".
بعد سنوات قليلة، في النصف الثاني من الثمانينات، طرح الناشر الشاب أنطونيو ويرغا ترجمة ونشر أعمال لكتاب عرب من خلال داره المسماة سنتئذ ليبرتارياس Libertarias، ساعدته على المستويات كافة واقترحت عليه عناوين كتب للترجمة، وسماني مستشارًا أدبيًا للدار، واتفقنا على اصدار مجموعة للكتب العربية. ثم جاء بالكاتب المعروف خوان غويتصولو الذي كان يعرف الغيطاني من قراءته له بالفرنسية وزياراته للقاهرة لاعداد برنامج "القِبلة" للقناة الثانية في التلفزيون الإسباني. التقيا في اهتمامهما بالتراث المصري وأحياء القاهرة الإسلامية، فتوطدت العلاقة بينهما. كان أنطونيو ويرغا نموذجًا مثيرًا في عالم النشر، استطاع أن يقنعني ومعي الغيطاني بضرورة الحصول على حقوق الملكية الفكرية بأقل كلفة ممكنة وفي أغلب الأحيان مجانًا!
وبدأ دولاب العمل نشاطه وكانت ترجمتي لرواية "متون الأهرام"، باكورة تلك المجموعة المخصصة للترجمات العربية. قدم لهذه الترجمة خوان غويتصولو ولحقتها بدراسة عن أدب جمال الغيطاني، ترجمتها بعد سنوات الكاتبة العراقية باهرة الجبوري ونشرها الغيطاني في "اخبار الأدب" ثم توليت نشرها في "الحوار المتمدن".
وبعد نشر ترجمة ّ متون الأهرام ّ جاءت المستعربة ميلاغروس نوين بترجمتها لرواية ّ الزيني بركات ّ، ثمرة قضائها سنوات في القاهرة. وتوليت أنا مراجعة الترجمة، ونشرت مع مقدمة أخرى لخوان غويتصولو. نُشرت أعمال كثيرة أخرى لكتاب عرب وآخرين يكتبون بالعربية، ثم جاءت نوبل نجيب محفوظ فرفعت من سعر حقوق المؤلف العربي في إسبانيا وانضم إلى ملكية الدار شريك، كارميلو، فانشقا وشبه تجمد المشروع الذي كان متضمنًا كتبًا أخرى لجمال الغيطاني.
ورغم تعطل مشروع دار ليبرتارياس إلا أن ما نشرته هذه الدار من ترجمات لأعمال عربية، تزامن بدؤه مع فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل عام 1988، ما أدى إلى فتح شهية القارئ الإسباني ودور النشر على الأعمال العربية المترجمة، فخرجت الترجمة من عباءة الاستعراب إلى حقل تجاري أوسع، فقبلها كانت الترجمة تقتصر على المستعربين الذين تجولوا في العالم العربي وبعض الرحالة والهواة. واكتشفت إسبانيا أن هناك أدبًا بالعربية يستحق القراءة!
كنت قد تعرفت إلى الغيطاني في منتصف الثمانينات من خلال الشاعر عبد الوهاب البياتي ثم توطدت علاقتي به من خلال الكاتب الصحفي وزميله في الأخبار مصطفى عبد الله الذي يشبه شغالة النحل في أدائه المتوصل بلا ملل والذي ظل يلعب هذا الدور بين مصر وإسبانيا لسنوات طويلة بزياراته المتكررة لإسبانيا للمشاركة في فعاليات ثقافية، بدءًا بمئوية طه حسين التي نظمها الدكتور أحمد مرسي، أستاذ الأدب الشعبي الشهير، بينما كان يعمل مستشارًا ثقافيًا في مدريد، في نهاية الثمانينات وأوائل التسعينات.
عُززت هذه العلاقة من خلال مشروع جريدة "أخبار الأدب " إذ استكتبني فيها لسنوات دون النظر إلى المقابل سوى حب أرض الكنانة، وهذا أكبر من أي مقابل مادي. وكان الغيطاني أحد اثنين جعلاني أعمل وأكدَ حبًا في بر مصر، ومد جسور التواصل بين الثقافتين. أما الثاني فكان الدكتور فوزي فهمي بينما كان يرأس مهرجان المسرح التجريبي، الذي ظل بمثابة طاقة تنوير لمصر ونور لها في الخارج لأكثر من عقدين.
تكررت زيارات الغيطاني لإسبانيا وتعرف إلى أهم مستعربيها، وارتبط ببعهضم ارتباطًا وثيقًا، وأُعدت عنه رسائل جامعية ودراسات أكاديمية قيمة. وشارك في ندوات ومؤتمرات في مدريد ودورات بلدة الإسكوريال الصيفية وطليطلة وغرناطة وإشبيلية. شارك في حلقة دراسية صيفية في الإسكوريال وكان معنا الدكتور سعد الدين إبراهيم وهناك شهدت لقاء ديكين متخاصمين في القاعة وفي المقهى. لم أكن أعرف أستاذ الاجتماع الشهير شخصيًا حينها وأصر الغيطاني على عدم الاكتراث به، وهذا كان مخالفًا لطبيعتي إذ كنت أرحب بأي قادم من بر مصر والفيافي العربية.
ذات مرة دعوته لالقاء محاضرتين في مدرسة اللغات الرسمية وجامعة مدريد كومبلوتنسي حيث كنت أعمل. في اللقائين تعرف إلى زملاء وطلاب كثيرين، واقترب أكثر من إسبانيا وعوالمها المعاصرة بعيدًا عن الماضي المشترك والمستنفدة ذخائره، الأندلس. لفت انتباهي أن الغيطاني لم يبدِ اهتمامًا بالأندلس، وكانت تركيزه على الحقبة المعاصرة ابتداءً من الحرب الأهلية وكتابها العظام مثل غارثيا لوركا ورفائيل ألبرتي. وربما كان هذا يعود إلى عدم إيمانه بالفراديس المفقودة.
في أثناء تلك الزيارة اهتمت به وسائل الإعلام الإسبانية وكتبت عنه وأجرت الإذاعة الوطنية لقاء جديدًا معه. وفي اليوم الأخير من الزيارة، التي كانت في ربيع 1995، بدا قلقًا وأحيانًا شاردًا وبينما كنا في المصرف أسر إليَ بأن سبب شروده هو تقدمه في العمر، 50 عامًا سنتها، دون أن يقترب من استكمال مشروعه الأدبي. كانت جائزة نوبل للآداب بدأت تأخذ حيزًا من مخيلته بعد أن حازها معلمه نجيب محفوظ.
وفي زيارة أخرى تمكنت صدفةً من استقباله داخل مطار مدريد، على خطوات من مدرج هبوط الطائرات، وفي القاعة التالية لمحت الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتيس الذي كان ينهي اجراءات الوصول كالطاووس متخفيًا وراء نظارة سوداء. دُهش لتعرفي عليه، وحاولت أن أعرفه إلى الغيطاني فرفض متعللاً بضيق وقته، ما أثار حفيظة الغيطاني واستشاط غضبًا فتلفظ بكلمات لا تتسق مع عفة لسانه المعهودة. والحق أن فوينتس وكثيرين من كتاب أميركا اللاتينية فيهم اعتداد بالذات مفرط لا يتماشى مع الكثير من مرتادي ثفافتنا المتوسطية، فقلة منهم التواضع من شيمهم، وكان مكسيكي آخر، أوكتابيو باث، من هؤلاء القلائل.
في هذا الإطار حري أن أشير إلى أن الغيطاني كان يستمع إلى رأيي في ضرورة توسيع الاهتمام بأدب وثقافات الإسبانية، وهو ما كان. وبالإضافة إلى نشره ترجمات من هذه اللغة اقترحت عليه اعداد ملف عن عميد الاستعراب الإسباني بدرو مارتينيث مونتابيث. كان عرف قيمته جيدًا ودوره الرائد في هذا الحقل، فهو حامل مشعل التعريف بآداب لغة الضاد وثقافات شعوبها والمناصر الدؤوب لقضايانا في وسائل الإعلام الإسبانية. اعددت الملف بالاتفاق مع كوكبة من أساتذة الجامعة والشعراء والصحفيين ليكتبوا عنه، وترجمتها وقدمت لها وضمنته مقابلةً مستفيضة أجريتها معه. وبعد أيام نشره الغيطاني في "أخبار الأدب "، سنة 1997 على مساحة تليق بالمُكرّم والكتاب.
الملفت للنظر أن الغيطاني عندما دُعي للمشاركة في تكريم المستعرب بدرو مارتينيث مونتابيث قبل رحيله بشهور قليلة، تحدث باسهاب عن الملحق سالف الذكر الذي نشرته عن المستعرب في "أخبار الأدب" دون أن يشير الغيطاني إلى جهدي في اعداده وترجمته، ما أثار استهجان بعض الحضور من الملمين بتفاصيل الملف. أبلغني بعضهم بالواقعة وسألوني خفايا الأمر. ليس لدي سبب وجيه ولكن ربما يعود الأمر إلى وشائج علاقة الغيطاني بصديق مشترك، كان فكرة الجاحظ الكامنة في غيرة الصنف كامنة وراء تلك العلاقة بينهما، التي ربما انعكست في هذا التجاهل.
وبعد عودتي إلى أرض الكنانة اقترحت على الغيطاني اعداد ولنشره في " أخبار الأدب" عن الشاعر رفائيل ألبرتي، آخر شعراء جيل الـ 27 الشعري، بمناسبة مئوية ميلاده في عام 2002. فتحمس وأعددت الملف بمشاركة زملاء من أقسام اللغة الإسبانية في جامعات مصر.
كان الغيطاني من أكثر الكتاب الذين احسنت تقديمهم في الدوائر الثقافية والأكاديمية الإسبانية. وكثيرًا ما شارك في ندوات ومؤتمرات حول الثقافة العربية. ومعها توطدت علاقتنا، ومن خلال مقالاتي في "أخبار الأدب" اسهمت في فتح أبواب الاطلاع على إسبانيا ومستعربيها وكتابها، فكانت هذه الجريدة نافذة عربية على الضفة الأخرى. كان كثير الاستفسار عن إسبانيا ودقيق في ملاحظاته عن الإسبان والعرب المقيمين في إسبانيا. أذكر أنه ذات مرة نبهني إلى وجود تماهٍ بيننا نحن العرب هناك وبين الإسبان، وعلل هذا بتمثلنا التام لكل ما هو إسباني!!
آثر الغيطاني الرحيل عن هذا العالم مستجيبًا لهاتف المغيب دون أن يستكمل دورة علاقته الحميمة بإسبانيا وثقافتها بحصوله على جائزة أمير أستورياس إذ يقال إنه كان سيرشح لها حسب بعض الجهات المطلعة. وهي أهم جائزة إسبانية تُعطى كل عام لشخصيات من كافة أنحاء العالم في اختصاصات متنوعة. واختتم تجواله في الخارج بزيارة مدريد وإشبيلية في نهاية تكريم بدرو، أي قبل أن يخلد إلى الراحة الأبدية. وقبل أن يرحل اختتم العلاقة بلقاء أصدقائه الثلاثة، المستعربان بدرو مارتينيث وكارمن رويث والكاتب خوان غويتصولو، وكأنه كان لقاء الوداع مع بعض ممن بادلوه الحب وأحب بلدهم وثقافتهم.