ولوج الشعر مفيض وسائل التواصل


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 7443 - 2022 / 11 / 25 - 15:26
المحور: الادب والفن     

"لكنها تدور يا ملوك الطوائف..."
هناك أكلة إسبانية شهية، مشهورة بين الأطباق العالمية، يجمعها بكلمة بقية العربية، في اللهجتين الشامية والمصرية، تشابه صوتي، لا أكثر. ومن هذا التشابه الصوتي ظل كثيرون من أنقياء الطوية يعدونها أكلة عربية، وأن أهل الفردوس اللامفقود، الأندلس، كانوا يعدونها للخدم المسيحيين من بقايا موائدهم العامرة، فحُرفت الكلمة العربية لتصبح بائيا، paella، وفي هذا ارضاء لغرور مجروح لخروجنا القاسي من الأندلس بعد تسعة قرون ما بين السيطرة والتواجد. بيد أن منطق الأشياء، القائم على البحث العلمي والتاريخي، حول أصل الكلمة، أثبت أن عرب الأندلس لم يصنعوها للخدم القدامي، سادة شبه جزيرة أيبيريا اليوم، إسبانيا والبرتغال، ولا الكلمة عربية الأصل، بل لاتينية.
هذه الطرفة الممعنة في الذاتية تجعلني أفكر في الهيمنة القائمة والآنية لوسائل التواصل وتحكمها في المشهد الثقافي، الغلبة فيها للشعر على حساب الرواية، بعد أن تحول الجميع إلى مرتادين لهذه الأدوات ذات البريق والجاذبية السطحية، ما يفسح الساحة أمام مساحة ضعف ثقافي ربما لم يشهدها العالم، سبقها اختفاء الكُتّاب القمم وتسلم مفاتيحها جيل أدنى قيمة وِأكثر عددًا. ومع هيمنة وسائل الإتصال تشظت هذا الأعداد وتكاثرت ليمسي المراق مدهوشًا، تائهًا في ساحة كثيرة البريق وقليلة القيمة.
في النصف الثاني من القرن العشرين سحبت الرواية البساط من تحت أقدام الشعر، لتقتنص منه صفة ديوان العرب التي ظلت لصيقة به منذ أن أطلقها أبو فراس الحمداني، قبل ما يزيد على ألف عام. تسيدت الرواية وأخواتها الساحة في العقود الأخيرة، إلى أن انبثقت وسائل التواصل الاجتماعي وفي غاباتها المنتشرة بزغت فُطُور رديئة، لكنها جميلة الهيئة، بعضها سام، ينبت في غابات ظليلة، وهذا النوع الضار يجذب البصر إليه بجمال قبعته الوردية. تكاثرتت المدونات "الشعرية" مرتدية هذا الصنف من القبعات الوردية، الشعرية، وأصبح كل من يرص بضع كلمات عبر وسائل التواصل يُخيل له أن العالم خلع عليه رداء العشر وقبعته. ويمتد الإدعاء وارتداء القبعة ليشمل أجناس الكتابة الأدبية الأخرى. وفي كل هذا مخالفة لأبسط قواعد تعريف الشعر إذ اشترطت العرب أربعة أركان، هي المعنى والوزن والقافية والقصد، وهي أبسط قواعده، هذا ناهيك عن العروض، وسمات الشعر الحر، ليلصقوا بقيء اليوم قالب شعر النثر.
الحجج كثيرة وارتداء لباس العولمة والثورة المعلوماتية يسهل مهمة المتشاعرين والمتشاعرات. ومع تردي الكون والمعايير الشعرية والثقافية في العقود الأخيرة، وتفاقمها مع تفرد جائحة الكورونا وسيطرتها على الساحة الحيوية، منذ عام، يدرك المراقب أننا نبدو، في العالم الذي نتركه خلفنا وكأننا أشياء يمكن التخلص منها. وهو وضع ينسحب على عناصر الثقافة، والثقافة تربي الذائقة لدى العامة، خاصة الصغار واليافعين. وهي أكبر مصدر للقوة، وتُعرّف بأنها القيم والعادات التي تنظم المجتمع وتمنحه قيمةً وثقلاً، وتتجلى في الأدب والفن. إضافةً إلى أنها تشكل، بالتآزر مع عناصر آخرى، القوة الناعمة التي هي بدورها، إذا أحسن نشرها بين المواطنين، تؤثر على سلوكهم، بعد حسن استغلال الموارد المتاحة في الحقل الثقافي والسياسي والقيمي، دون اللجوء إلى القوة أو العنف. ولعل السينما والإعلام المصري، وعناصر أخرى، في الحقبة الناصرية كانت خير مثال في السياق الذي نعالجه، إذ تربعت مصر على عرش الساحة العربية لحسن استغلال قوتها الناعمة وكاريزما زعيم تلك الفترة.
عشت في إسبانيا واقعة فوز نجيب محفوظ بنوبل الآداب، فكانت خيرًا للثقافة العربية في هذا البلد والدول الناطقة بالإسبانية، إذ أخذت وسائل الإعلام تهتم بالأدب العربي وتخصص له مساحة في صفحاتها الأدبية، وشهدت ترجمة الأدب العربي إلى الإسبانية رواجًا لم تشهده هذه الساحة قط. وصاحب الترجمة ازدياد في عدد الطلاب الذين يدرسون اللغة العربية بغية التعرف على هذا العالم الساحر، القريب والبعيد عن بلدهم وثقافتهم. أذكر أن دار نشر إسبانية كانت قد استعانت بي مستشارًا لمساعدتها في اختيار الكتب العربية وتقييمها لترجمتها، وكان ذلك قبل حصول نجيب محفوظ على الجائزة بشهور. كنت قد بدأت الاتصال بالقاهرة للحصول على حقوق الملكية الفكرية لبعض كتبه، لكن المفاجأة كانت في تضاعف هذه الحقوق بعد أن اقتنصتها الجامعة الأميركية في القاهرة.
كان لحصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب وقع كبير في تلك الفترة، فترجم الكثير من الكتب العربية وأصبحت تُعرض كتبنا في واجهات كبرى المكتبات وأصبح للأدب العربي جمهور يتابع أحدث ما ينشر لكُتابه الذين تُرجموا في تلك الفترة بشكل مكثف وسريع. فُتحت قنوات حضور الثقافة العربية في ساحة الدول الناطقة بالإسبانية إلا أن بريقها خفت في السنوات الأخيرة لأسباب عدة يطول سردها.
في لحظة ما، في النصف الثاني من القرن العشرين، كان السرد قد زاحم الشعر واقتنص منه صفته التاريخية. واليوم، مع إنتشار الوسائط في زمن العولمة، نجد أن لا هذا ولا ذاك، يستأثر بهذه الصفة التاريخية، فقد أصبحت الأعمال الأدبية تباع على عربات منصات التواصل الاجتماعي، وانتقلت لعنة الشللية إلى وسائط الاتصال. إلا أن لا مشتري لها سوى مجموعة المجاملين الذين يصطفون خلف الأدعياء وبالضغط على زر يلفقون أفضل تعبيرات الاعجاب والإشادة ببائع هذه البضاعة التي يقف عليها الذباب دون وصول مشترٍ حقيقي، متلقٍ يحسن تذوق هذا النتاج ليفرز الغث من السمين.
أعتقد أن العالم المفتوح الذي نعيش فيه اليوم مع انتشار أدوات العولمة الإفتراضية، وخاصة منذ ثورات الربيع العربي الموؤدة، خلع برقع الحياء من الكثيرين، ما أفسح المجال أمام الكثيرين لامتهان الشعر، مع التذرع بشعر النثر، إذ تصوروا أن هذا يلغي قواعد وشروط الشعرية. وما ينطبق على أبناء العربية ينسحب على أبناء لغات أخرى، ليصبح هذا النوع من الشعر نتاجًا لعصر وبضاعةً له. فمنذ سنوات طُلب مني قراءة وفحص بعض القصائد الواردة من شعراء يكتبون بالإسبانية وهالني تدني الالتزام بالمعايير الشعرية الدنيا المتعارف عليها في هذه البقعة الجغرافية، ذات الآداب الراقية التي رفع لها العالم القبعة ووقف لها احترامًا بدءًا من سبعينات القرن العشرين، مع بزوغ الواقعية السحرية وأدب "البووم"، الطفرة.
واقع عملي في تدريس اللغة الإسبانية وآدابها فرض عليَّ الالتزام بخطوط مرسومة وحدود زمنية لتدريس المادة، فالجديد عادة لا يشكل جزءًا من مادة الدروس إلى أن تستقر الأمور ويُفرز الغث عن السمين، فيطبع في الكتب المعترف بها. هذا الوضع حال دون الاطلاع عن كثب على نتاج السنوات الأخيرة باستثناء فترة ما بعد الواقعية السحرية وأدب الطفرة في أميركا اللاتينية. لهذا وقفت مدهوشًا أمام النتاج الذي أرسل إلي للفحص والترجمة... إذ كسر قواعد الكتابة الشعرية، دون الحديث عن قواعد العروض. حملني هذا إلى الولوج في دنيا شعر أدوات التواصل بالعربية، ولم تكن النتيجة أفضل بكثير من صدمتي أمام ما يسمونه شعرًا بالإسبانية.
يمكن تلخيص الشعر الحالي في أنه مصنوع من فضلات ونسخ لآداب أخرى، جراء سهولة التواصل والتقليد، أو الانتحال، وصل إلى انتحال الذات في نهاية الأمر، وعملية الانتحال هنا تضيع معالمها وسط الزحام والضوضاء التي تحدثها وسائل التواصل بعنفوانها وسطوتها الجارفة.
لم يعد من السهل رؤية شعر أي بلد كوحدة كبرى داخلها وحدات صغرى، فإذا تُرجمت نصوص كثيرة ووضعت جنب أشعار كتبت بلغة دون ترجمة سيصعب على القارئ ملاحظة الفارق بين الشعر الأصلي والشعر المترجم. أصبحت هناك ضرورة للتعامل مع فن الكتابة، وعلى وجه الخصوص الشعر، بطريقة مختلفة تأخذ في الحسبان القواعد، وهذا يحتاج إلى تغيير جوهري، رغم صعوبة المشهد العالمي. يجب أن يسترد دوره في تشذيب الذائقة الفنية، في الارتقاء بالإنسان، بعد أن أصبحت الحياة اليومية، دنيا وسائل الاتصال، تؤثر في الشعر أكثر من الشعر في الحياة. لا أعني بهذا أن يكون الفن من أجل الفن، ولا الأدب من أجل الأدب، بل أن تكون اليد العليا للأدب على الحياة اليومية، إذا آمنا بحاجة الذات البشرية لتنهل من نسغ الثقافة الراقي، الأدب.
إذا كتب عن ما هو يومي، ما يدور في عالمنا وما يحدث لنا كل يوم، فلا وجود للغز في القصيدة، ما ينتهي بنا إلى تكوين نثري. هناك ضرورة لتلافي الأمكنة الشائعة والألفاظ المبتذلة، الغائرة في عامية ليس فيها إضافة، والحرص على عدم الوقوع في موسيقى وقواعد مبتذلة، أو ما هو أسوأ، أي حيث لا توجد في حالات كثيرة موسيقى في هذا الشعر الجديد، وليد العولمة في أسوأ صورها.
هناك افراط في الكتابة بكافة أجناسها، وإذا طال هذا أكثر الأجناس الأدبية جمالًا، الشعر، فهذا يؤدي إلى التكرار، انتحال الذات، دون أن يدري الشاعر ما وقع فيه، إذ يبحث عن الحضور المستمر، بعد أن تحول الشعر إلى سلعة تستخدم ويُلقى بها في سلة مهملات. أصبحت الكتابة كأنها مطاردة للقادم، ملاحقة له، كي لا ينقطع الحضور عن المنصات. القصيدة التي لا تثير العاطفة، ولا تخلق الأحاسيس ولا تنشط الخيال عبر سحرها وإيقاعها، ولا تخاطب القلب، تصبح حبرًا على ورق، مجرد مداد إلكتروني يمحى من الذائقة والذاكرة بعد فترة وجيزة. يجب أن يكون هناك حل وسط بين ما يقال وكيف يقال، وأن يتوافق التنوع الإيقاعي في القصيدة مع المحتوى. لابد أن ينضح بالحياة، ويزودها برافدة من روافدها.
هذا ناهيك عن رغبة كثيرين في الحصول على جائزة يتوهم أنها تضمن له البقاء، لكن هذا الصنف من الكُتاب يبحث عن مواصلة الحضور الذي حملته إليه بسهول وسائل التواصل. وأتذكر مقولة لأحد النقاد الإسبان مفادها أن التكريم والجوائز لا تفيد في شيء لكن يفضل الحصول عليها إذا وصلت إليك، فهي لا تضيف لك سلبًا ولا إيجابًا، لكنها تبعث على الارتياح، وعلى وجه الخصوص تمنح المزيد من المتعة للعائلة والأصدقاء الحقيقيين أكثر مما تمنحه للمبدع. وهنا يحضرني رأي للشاعر المكسيكي روبن بونيفاث إذ كان يقول لمجايليه من الكتاب "لا تطلبوا جوائز ولا تكريمًا، لكن إذا منحوكم إياها فلا ترفضوها. اشكروهم وانسوهم. الجائزة لن تجعلك، أي جائزة أو تكريم، تكتب أفضل قصيدة ولا أحسن مقالة أو قصة. نحن كائنات ذاتية، لكن لا تجعلوا الذاتية تطغى عليكم". وفي هذا الصدد يقول الكاتب الأرجنتيني خوسيه لويس بورخيس إن أي فنان مثل أي إنسان آخر، لكنه يتفرد بالإحساس بشكل مكثف بالأعمال والوقائع والأشياء الدنيوية.
ملفت للنظر أن الشعر يحتل مساحة واسعة في عالم اليوم المتحول إلى وجهة لا يعلمها سوى أقليلة ضئيلة، ويليه السرد في المساحة، لكن لا مساحة لأدوات تقويم هذا المنتج الذي يلامس الروح، سجلها الأول ومنظورها الجمالي لرؤية العالم والتماثل معه، لكن هذه المساحة لا تخصص للنقد أو للدراسات الجادة. وقلما نجد ناقدًا جادًا أفرزته حقبة العولمة وأدوات التواصل المعاصرة. وإذا أخذنا في الحسبان أن الأجناس الأدبية تستقيم في وجود النقد، فإن الشعر، عمودها الفقري حسب التقاليد الأدبية العربية التاريخية، تاريخ الروح العربية، ديوان العرب المتفق عليه بلا منازع. ومن هذا المنظور هناك علامة استفهام تطرح حول ما يُكتب وتروج له وسائل الإتصال علة أنه شعر.
لكن هل هذا نتيجة لانقشاع مياه بحيرة الشعر الحر، وانفراط عقد العروض ومعه قواعد الكتابة الشعرية؟ لا شك أن الوهن والضبابية غالبا المتفق عليه، ما أسفر إلى جموح الضعف لدى الكثيرين وتصورهم أن الفرصة أصبحت مواتية لاحتلال مساحة لم تكن إلا لفحول الكتابة الشعرية. إضافة إلى سياق مواتٍ جراء تشهيم اللغة وقواعدها إلى جانب سوء طوية بعض الفاعلين على الساحة لعقود إنتهت بدءًا ببريق تجربة أتاتورك بتخليص التركية من رسمها بحروف عربية، وصولاً إلى وسائل التواصل الإجتماعي التي شجعت على هذا التهشيم، مرورًا بمدارس اللغات والمدارس الأجنبية التي فرغت أجيال من هويتهم الوطنية والقومية، فجعلتهم يتصرفون مع لغتهم القومية كالعجم، وزادتهم استلابًا أمام المنتج الثقافي والتكنولوجي الغربي.
وبقدر ما أثارت وسائل التواصل الغبار لتحجب الرؤية عن السمين لصالح الغث، التردي، وتهشيم ركيزة مهمة من ركائز الهوية الثقافية، بدءًا بضرب هويتنا الثقافية وبالتالي القومية، عبر خلق لغة جديدة، اللغة التي يستخدمها رواد الشبكة المعلوماتية، وخاصة الشباب الذين يكتبون بأحرف لاتينية ورموز تعزل لغة الضاد وتلف حبل المشنقة حول رقبها، جراء التمادي في نظم تعليم ثبت فشلها، قائمة على مدارس اللغات والتعليم الأجنبي الذي انتشر كالفطر السام، سالف الذكر، ذي القبعة الوردية الجميلة. يحتاج الشعر إلى لغة عربية سليمة، إلى ساحة ثقافية يملك الشاعر بنواصي اللغة، فدون اللغة لا شعر ولا شاعر، بل أدعياء وانكفاء على الذات الغارقة في أوهام الكتابة التي لا جدوى منها.
لقد أصبحت شبكة المعلومات كالحجاب والنقاب، نختبئ تحتهما لنرتكب الموبيقات كافة، والأمر نفسه في مواقع التواصل الاجتماعي حيث أن الظاهر غير الباطن، الهدف.
لا حراك قوميًا ولا وطنيًا لإنقاذ اللغة العربية ومعها الهوية بأغلبيتها وأقلياتها، مع غياب المبادرات الاستراتيجية. اكتفينا بمقولة إنها لغة القرآن ولها رب يحميها وكأن الله ليس لديه سوى رعاية مصالحنا، ونسينا أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة.
في هذا الصدد ينبه المفكر التونسي الدكتور عبد السلام المسدّي من التردي الذي لحق باللغة العربية، ولاحظ أنها تخضع للتفكيك التدريجي، ويخشى من تمازج الفصحى بشظايا اللغات الأجنبية ما يؤدي إلى ظهور عاميات هجينة من اللهجات المحلية وقليل من العربية. وعلى من يستهجن هذا الكلام أو يستثقله أن يبحث في لغة الدردشة العربية في الشبكة العنكبوتية أو ما يُطلق عليه "العربيزي" أو "العربتيني" وسيرى أن هناك لغة مشفرة تستخدم أرقاماً ورموزًا وتكتب بأحرف لاتينية. ويدعو العلامة التونسي إلى صيانة اللغة العربية، ففي ذلك صيانة للهوية العربية وللأمن القومي ومعه الوطني، فالعرب لن يربحوا رهان التاريخ من خلال اللغات الأجنبية أو من خلال اللهجات العامية، بل سيكون متعذرًا عليهم الانخراط في مجتمع المعرفة من خارج دائرة العربية.
ورغم حالة الاستلاب التي يشعر بها كثيرون تجاه الآخر الغربي، والتردي الذي نعيشه منذ ثمانية قرون، منذ سقوط بغداد وغرناطة لاحقًا، فإنهم لا يعلمون أننا رفدنا الحضارة الإنسانية بالكثير في مجالات فنون العمارة وعلوم الطب والصيدلة والفلك. وعلى من يُؤْثر العيش حبيس عقدة الإستلاب أمام الغرب أن يلقي نظرة على ما تركنا من شواهد تدعم الفكرة خارج سياق الوطن العربي المعاصر والقديم دون تفرقة بين ملله ونحله عندما كان الخلفاء يستوزرون اليهود والمسيحيين ويحكم مصر ومعها الشام والحجاز واليمن صلاح الدين الأيوبي، الكردي.
وهنا يحضرنا أمر آخر، فمن مفارقاتنا المضحكة المبكية أن كلمة قهوة بأشكالها الغربية ودلالاتها الأصلية، بعيدًا عن دلالة الخمر فهي أحد معاني اللفظ، مأخوذة عن العربية، وأجود أنواع القهوة تحتفظ في الغرب بأصلها الذي يعود إلى ميناء المُخاء في اليمن السعيد الذي يخفف إلى مُخا، ، Mocha, Moca, Mocacino ، ومع ذلك فإننا مع انتشار آفة مدارس اللغات بدءًا من ثمانينات القرن العشرين، أصبحنا نطلق على مقاهي أولاد الطبقة الوسطى كافيهات، ومفردها كافيه، وأصبحت كلمة مقهى وقهوة تثيران السخرية. إنه الإستلاب المتناهي والتسكع الحضاري، فبدلا من أن نعتز بلغتنا استوردنا بضاعتنا وشوهناها تماشيًا مع انبطاحنا وعقدنا أمام الغرب ّالكافرّ الذي يحلم كثيرون بالعيش في كنف حضارته وجني ثمارها من الرفاه والحرية.
بيد أن الأثر الحي القائم يعود إلى الرياضيات، الجبر والحساب، بدءًا باللوغاريتمات والعلامة ذات الأصل العربي. وهنا أحيل إلى علامتين، لهما وقع السحر في تطور رياضيات الماضي والحاضر وعولمة اليوم، تشكلان عمدين من أعمدة التقدم الإنساني، أعني هنا الصفر وعلامة المضمار @، الآت بالانجليزية أو الأرَّوبة بالإسبانية، ودونهما لما كُتب للعالم ما هو عليه الآن من تقدم. فرمز الشبكة المعلوماتية الأشهر @ ذي الأصل العربي، إذ يعود إلى وحدة الكتلة العربية القديمة "الربع.ويحتفظ هذا الرمز الطباعي بأصله العربي في الإسبانية بعد تطويعه تماشيًا مع صوتياتها فأصبح يُكتب arroba ويُلفظ بشكل شبيه للأصل العربي محرفًا "أرُّبا" ويستخدم في شبكة المعلومات، من بريد إلكتروني وتدوين مصغر إلى إنستغرام. كلاهما تحول إلى أوروبا عبر بوابة الأندلس العربية، أي أيام التفاعل مع الآخر بينما كنا نصنع الحضارة الإنسانية.
تُرى كم عربيًا، من المستلبين أمام نتاج الآخر، يعرف أن هذا الرمز الطباعي، المعلوماتي، ذو أصل عربي؟ إنه يمثل أكثر الكلمات استخدامًا اليوم في دنيا العولمة، صنيعة الرأسمالية الجديدة. وهنا لا أعنى الشباب فقط، بل من النخبة أيضًا، أولئك الذين يلهثون خلف الآخر بحجة التجديد دون أن يتقنوا ما لديهم أولاً، وعلى رأسها اللغة العربية التي أصبحت في مهب الريح بسبب أدوات التواصل الجديدة ما أصبح يمثل خطرًا على الوعاء الثقافي القومي للأمة وعنصر رئيس في ضميرها وجوهرها وثوابتها.
هناك من يمسك بمعول الهدم، هدم الثوابت، بدءًا بالثقافة ووعائها، بحسن نية وجهل أو سوء طويلة من أجل لغات وثقافات أخرى. وأحدث معاول الهدم التي تكاثرت عبر وسائل التواصل الحديثة يكمن في رسالة أدعياء الأقليات ومأجوريها بشتى أشكالها في الوطن العربي. ولعل تكالب الكثير من الأصوات الإسلامية، غير العربية، على اخراج الأندلس من صبغتها العربية التاريخية مثال جلي للخطورة التي أشرت إليها. نجحت أبواق معروفة، ليست ببريئة، في نزع الصفة العربية عن حضارة الأندلس، بدءًا بهوية القائد العسكري طارق بن زياد الذي أسله موسى بن نصير على رأس أول حملة لغزو الأندلس، مرورًا بتسمية مدريد، العاصمة الأوروبية الوحيدة التي بناها عرب الأندلس، إذ كانت تُسمى تلك المدينة، حتى سنوات قليلة مضت، بمدريد العربية، سواء من قِبل الباحثين العرب أو الإسبان، وبعد حملات ممنهجة وأبواق عالية الصوت أصبحت مدريد الإسلامية، نزولاً على رغبة وصراع الأشقاء البربر. والبربر في هذا السياق، في ظني، لا يعملون بسوء نية، لكن هناك من يحرك الأمور في هذا الاتجاه لجني ثمار زرع الشقاق بين العرب والبربر في عهد ليس ببعيد.
على النخب العربية أن تتحمل مسؤوليتها التاريخية لتحمي وعاء ثقافة الأمة وبوتقة إبداعهها، فالمأساة أكبر من الصمت درءًا للمشكلات التي قد تسقطع على رؤوس المثقفين وطمعًا في "الصرة"، متمثلة اليوم في جائزة أو تكريم أو نشر كتاب هنا أو هناك. هناك ضرورة ملحة للخروج بالثقافة العربية من براثن هيمنة وسائل الإتصال بعد أن بات وضحًا أنها الحلقة الجديدة في التغريب، في ضرب الثوابت، عن قصد أو دون قصد، بعد أن نجح التعليم الأجنبي ومدارس اللغات في تمهيد الطريق أمام من نشهده اليوم من تردٍ وتراجع في الهوية الثقافية والقومية العربيتين.
وعلى أجهزة الإعلام الرسمية والخاصة أن تقوم بدورها في الحفاظ على هذه الهوية، بدءًا بالمعاملة الحسنة مع وعاء الثقافة، لغتنا الجميلة، بدلاً من تركها في مهب الريح. هذه الوسائل التي تضخ طوال اليوم البرامج والأخبار لصالح الأنظمة السياسية قادرة على الامساك بزمام الأمور، دون اتباع سياسة النعام، فهناك أداة بدائية وبسيطة حافظت على لغتنا وثقافتنا قرونًا، نواة المدارس والجامعات: الكتاتيب. عليها أن تبدأ في تشذيب داخلي يؤدي إلى انزواء الشعوبية ممثلة في اللهجات، فهي تمهد الطريق أمام تهشيم الوعاء الثقافي، وكسر جسور التواصل بين الشعوب العربية في زمن لن يتأخر وصوله كثيرًا لنعيش في سياقنا العالمي بدءًا بالعمل بالديمقراطية وما تستدعيه من حريات. وعليه فهناك ضرورة ملحة للالتفات إلى هذا العالم المفتوح عبر أدوات التواصل تفاديًا لتهشيم وتشظي ما اعددناه ديوانًا والعنصر الرئيس في نسغ الثقافة العربية.