الإنفصال ونكسة يونيو في مرآة الأندلس


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 7170 - 2022 / 2 / 22 - 15:07
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

"لكنها تدور يا ملوك الطوائف..."

د.خالد سالم
ما نعيشه في العالم العربي من هوان لم يكن ليخطر على بالنا نحن الأحياء من الأجيال التي شهدت الفترة الحية والتالية للتحرر العربي. إننا نعيش وضعًا يشبه أهوال يوم القيامة، كلٌ يحاول، على طريقته، أن ينجو بنفسه متزلفًا إلى جلادي الأمة وشراء رضاهم. طُرحت الأفكار القومية في النصف الأول من القرن العشرين، وكان هناك من حاولوا تحويلها إلى واقع بدءًا بمحاولة الوحدة المصرية السورية بقطريها الشمالي والجنوبي، مكونا الجمهورية العربية المتحدة التي ولدت في مثل هذا اليوم، الثاني عشر من فبراير عام 1959. وقد أثبتت الأيام أن من نادوا بالوحدة، قبل وبعد عبد الناصر، كانوا على حق، خاصة عبد الناصر الذي كان يسعى للحوؤل دون اتساع الهوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة في المنطقة، خوفًا من حدوث ما نشهده اليوم.
تجرع أبناء جيلي في مدارس الحقبة الناصرية أخبار وبطولات وانتصار مصر المعنوي على العدوان الثلاثي ورمزية أسطورة جول جمال، الضابط المسيحي السوري الذي شارك في التصدي لسفن ذلك العدوان الثلاثي ردًا على استرداد مصر لقناة السويس التي أزهقت في حفرها عشرات الآف من أرواح أبنائها. حاول عبد الناصر، أول مصري يحكم مصر منذ انتهاء الأسر الفرعونية، آخذ زمام المبادرة ليكون قرارها مستقلاً، والقضاء على حفاء شعب ألهبت ظهره أسواط شمرشجية الأسرة العلوية التي اشترت ذممهم بتوزيع أراضي الدولة عليهم، فكان الفلاح "القراري" فيها أجيرًا وحفر لهم قناة اختتمت بافتتاح باذخ لا يتماشى مع غالبية عظمى لشعب يعيش بؤسًا أزليًا، بينما كان الفلاح الفراري أكثر دهاءً فلجأ إلى الفيافي. ورغم هذا اشتكثروا على أبناء الفلاح القراري تأميم قناته التي حفرها بأرواحه.
لم تكن الوحدة بين مصر وسورية نزوة ناصرية، بل جاءت استجابةً لظروف إقليمية وشعبية بدءًا من العدوان الثلاثي ومرورًا بالثورة الجزائرية على المحتل الفرنسي ومشكلات أخرى شهدها العالم العربي. إلا أنها لم تدم كثيرًا لظروف أقوى من النظام القومي الناصري الذي لم يكن يخطط للولوج فيها ولا الإنفصال الذي حدث بعد ثلاث سنوات. ولدت الجمهورية العربية المتحدة استجابةً لظروف قومية وشعبية، لكنها لم تدم كثيرًا فأحدث الانفصال جرحًا غائرًا في بعض رموزها لكنها ظلت حلمًا يرواد شعوب القلب العربي وبعض أطرافه.
بيد أن فشل تجربة الوحدة المصرية السورية، أي الانفصال، تبعتها ضربة قاصمة للخط القومي العربي تمثلت في كارثة يونيو 1967، وما حدث لاحقًا من كوارث وحروب وغزو في الشرق الأوسط والخليج العربي كان نتيجة حتمية لأخطاء وخطوات غير محسوبة وتمزق وتمزيق تخيم ظلاله الداكنة والخانقة على العالم العربي كله بدءًا بتطبيع بلا ثمن ومرورًا باستقواء نعرات إقليمية وعرقية محلية على العرب مدعومة من دول بعينها يعرفها القاصي والداني.
هذه الأوضاع تحملنا إلى قراءة في الماضي الأندلسي، في القرون الأربعة الأخيرة التي سبقت سقوط غرناطة وخروج آخر حكام العرب، أبي عبد الله الصغير، ذليلاً من آخر القلاع العربية في شبه جزيرة أيبيريا في مطلع عام 1492. لست هنا بصدد التباكي على فردوس ليس مفقودًا، فالأندلس حلقة من حلقات التاريخ ولا عودة إلى الماضي. المشكلة في الحاضر والمستقبل القريب الذي لا نريد استشرافه، وكأن على رؤوسنا الطير.
مر على سقوط غرناطة، وقبلها سقوط بغداد في عام 1258، دون مراجعة جادة سوى البكاء على الماضي ورثائه والحديث الموتور من قِبل البعض عن الفردوس المفقود والاستنجاد بالسماء بغية استرداده وكأننا شعب الله المختار الوهمي الجديد. لهذا ليست لدينا خطط استراتيجية للخروج من مياه التخلف الآسنة، تبدأ بإصلاح ديني ممنهج يؤدي إلى نهضة وثورة صناعية، لا استهلاكية، على غرار ما فعلتها أوروبا التي نتشدق بانجازاتها.
كان انفراط عقد دولة الخلافة في قرطبة ثم بزوغ ممالك الطوائف أول مسمار في نعش الأندلس. كما كان انفصال القطر الشمالي عن القطر الجنوبي في الجمهورية العربية المتحدة ثم كارثة يونيو 1967 مسمارًا غائرًا في نعش القومية العربية والانقسام الذي نعيشه اليوم في أبشع صوره من تطبيع وتقزيم للكبار ونعرات عنصرية تنهش لِحمة الأمة وروحها.
بيد أن المسمار الأكبر في نعش الأندلس، مثل هزيمة 1967، تمثل في سقوط طليطلة عام 1085، عاصمة طائفة طليطلة، تلاه تساقط كبريات حواضر الأندلس الأخرى. كان سقوطًا مخالفًا لقوانين الطبيعة، إذ أن الوهن عادةً ما يصيب الأطراف وليس الوسط، وطليطة كانت وسط الأندلس جغرافيًا، ما يحمل إلى الموازاة بينها وبين مصر ضمن الخط القومي ونكسة يونيو. وإذا أصاب الوهن القلب فماذا يُرجى من الأطراف؟!
هذا الوضع صوره الشاعر والفقيه الطيطلي عَبْدُ اللهِ بْنُ فَرَج اليَحْصُبِيُّ، المعروف بـابْنِ العَسَّالِ، واصفًا حال العرب في الأندلس وما كان يهدد وجودهم فيها من مخاطر على أثر سقوط طليطلة في أبياته القائل فيها:
يا أهل أندلسٍ شدّوا رواحلكمُ/ فما المقامُ بها إلا من الغلطِ
الثَّـوْبُ يُنْسَـلُ مـِنْ أَطْرَافِهِ/ وَأَرَى ثَوْبَ الْجَزِيرَةِ مَنْسُولاً مِنَ الْوَسَطِ
مَنْ جَاوَرَ الشَّرَّ لاَ يَأْمَنْ بَوَائِقَهُ/ كَيْفَ الْحَيَـاةُ مَـعَ الْحَيَّاتِ فِي سَفَطٍ

أُريدَ تقزيم مصر بأيادٍ إقليمية ودولية "بقتل الطاووس" عبر انزال هزيمة يونيو 1967 بها، وهو ما كان لهم. يُخيل إليّ أن تلك الرؤوس العربية التي أسهمت في الإيقاع "بطاووس" مصر لو قُدر لها أن تنهض من الثرى لندمت على فعلتها، فالثوب الذي ينسل من الوسط يصعب رتقه، على عكس رتقه من الأطراف. ونسل الأطراف أمر طبيعي، يسهل تقويتها، لكن القلب المعطوب ثمن رتقه عصي على البشر، وإذا استُبدل لا يكون في فعالية القلب الأصلي والطبيعي، وهو ما شهدناه منذ أن وارى الثرى جثمان ذلك الطاووس الخلاق جراء هزيمته الشنيعة ومعه هزيمة الأمة كلها.
ثمة شيخ يعرف تاريخ الأندلس رمق الأفق العربي اليوم وما يحدث من تزلف إلى أعداء الأمة خوفًا على سدد حكم أوهن من بيوت العنكبوت، فأطلق رأيه مدثرًا بثوب حكمة لا ينسل "إذا استمرت الحال على ما هي عليه اليوم فلن يكون لديهم وقت لاطلاق "زفرة العربي الأخيرة" مثل أبي عبد الله الصغير حسرةً باكيًا كالنساء على ملك لم يصنه كالرجال". قالها وأشاح بوجهه عن هذا الأفق وسار نحو أفق أكثر رحابةً.