كارمن رويث برابو المستعربة العربية


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 7829 - 2023 / 12 / 18 - 13:57
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

"لكنها تدور يا ملوك الطوائف"

إنها عربية، ليست مستعربة، وهذا مستمد من عشقها للثقافة العربية منذ أن تعرفت إليها مع بدء دراستي في جامعة مدريد أوتونوما بينما كانت هي أستاذة شابة في قسم الدراسات العربية، تملأ قاعات الدرس حياةً ونشاطًا، ما جعلها نقطة استقطاب لطلاب الأقسام الأخرى، من بينها قسم فقه اللغة الإسبانية حيث كنت أدرس المعادلة.
تتمتع بجاذبية ثقافية نادرة وسلاسة في خطابها، ودقة في اختصاصها، وهي خصال خبرتها فيها منذ أن تعرفت إليها قبل أربعة عقود مع بدء دراستي في الجامعة. كانت هي والراحل دكتور صلاح فضل أحد اثنين وراء شروعي في التمكن من لغتي الأم، كلّ من زاوية مختلفة، لكنهما التقيا بطريقة مستترة في تحفيزي وشحذ همتي على التمكن من لغتي، واعتزازي بهويتي العربية.
كنت قد وصلت توًا من الشرق فتوسم فيّ زميلان في قسم فقه الإسبانية خيرًا وعلمًا نافعًا في مجال لغتي الأم، فطلبا منّي مراجعة بعض دروس العربية التي كانا يدرسانها كلغة أجنبية. أخذت أقرأ معهما قصة جحا وابنه والحمار. وأصررت على نطق كلمة حمار وألفاظ أخرى حسب قواعد العامية رافضًا النطق السليم الذي تعلماه. نقل الزميلان طريقتي بالنطق إلى أستاذة المادة، الشابة التي لم أكن أعرفها، وبعد قليل عدنا إلى درسنا في المكتبة، فمرت علينا وسمعت نطقي فتوقفت لبرهة لتقول لي: " يا مصري هذا النطق حسب العامية المصرية ونحن هنا نعلمهم الفصحى!" قبلها بقليل بينما كنت أتكلم مع مستشارنا الثقافي حينئذٍ، الدكتور صلاح فضل، حول امكان تدريس العربية في المعهد المصري فكان رده الموجع: " منهج العربية لأقسام اللغات في كلية الألسن قش!"
هاتان الواقعتان كانتا وراء قراري بضرورة التمكن من لغتي الأم، فأخذت أدرسها من خلال كتب النحو والصرف التي وضعها المستعربون الإسبان، خاصة غارثيا غوميث وفدريكو كورينطي، ومنهما تعلمت قواعد اللغة وكأنّها مسائل رياضيات ومنطق، وكان لي أن انتقلت إلى مستوى آخر.
مواقف مثل هذه على المستوى الأكاديمي لكارمن عشتها عن كثب في الجامعة وفي المؤتمرات والندوات وأنشطة مجلة إيدياأربيا Idearabia السيالة. ولا حصر لجهودها في التعريف بالثقافة العربية. إذ تقوم بعملها في صمت، دون جلبة، كما لو كانت راهبة تعكف على قراءة النصوص والمخطوطات لتفسيرها في معبد قصي. إنها بؤرة نور في عالم ملبد بغيوم تعصب وكراهية لما هو عربي في ساحة أصبحت الغلبة فيها للأعداء، بعد أن كانت لنا، منذ عقود قليلة.
ورغم أنها وصلت إلى التفرغ في جامعتها إلا أنّها لا تزال تشارك في غزل خيوط الاستعراب الإسباني، القوي العرى والمؤثر في سياقه الغربي. وتملأ أفقها الإسباني نشاطًا وحيويةً، من خلال محاضرات وندوات وبحوث ومجلة Idearabia العلمية المحكمة والرصينة التي تنكب على إدارتها ومعها فريق من صفوة مستعربي إسبانيا.
إنها المستعربة الإسبانية كارمن رويث برابو التي بدأت مسارها في عالم الاستعراب بدراسة مهمة عن الجدل الفكري حول القومية العربية في النصف الأول من القرن العشرين، وكانت من أولى الدراسات الجادة التي أصدرها المعهد الإسباني العربي للثقافة في عصره الذهبي، في سبعينات القرن العشرين. قد لا يسعفني المداد الإلكتروني في أن أوفيها حقها في عالم الاستعراب والجامعة. لكن عملها الدؤوب ومثابرتها ماثل في الساحة الإسبانية وفي الدول الناطقة بالإسبانية.
الهم الثقافي المشترك حملها على إنشاء دار نشر كانتآرابيا CantArabia التي رفدت مناقل المكتبات الإسبانية بعشرات الدراسات الرصينة والأعمال المترجمة عن العربية، وكل عام تجد للدار منفذ لبيع كتبها في معرض كتاب مدريد الذي تستضيفه حديقة إلرتيرو الغناء، إضافة إلى المعارض المحلية في الأقاليم.
تنتمي كارمن رويث برابو إلى حركة الاستعراب الإسباني التي ظهرت في سبعينات القرن الماضي والتي تعني بالعالم العربي المعاصر. جاء هذا التيار بعد قرون من انكفاء الاستعراب الإسباني على الحقبة الأندلسية. ويعود الفضل في هذا التوجه الجديد إلى رائده بدرو مارتينيث مونتابيث الذي توفي في فبراير الماضي. ومن عباءته ، عباءة الاستعراب المعاصر، خرجت كارمن ومعها عشرات المستعربين الذي يشغلون الساحة في الوقت الراهن ليغطوا مساحات واسعة تعني بدراسة العالم العربي من جوانب متنوعة بعد أن كان مقصورًا على الجانب الأدبي.
تنتمي كارمن رويث برابو إلى حركة استعراب نشطة وفاعلة في محيطها الإسباني والهيسباني، حركة قدمت وتقدم الكثير ضمن محاولات تقليص المسافات بين الغرب والعالم العربي. وفي اطار هذه الحركة تنتمي إلى سياق أراه في نقاء زهرة السوسن، فلم تلوثه المصالح ولا الأجهزة التي كانت وراء نشأة حركات استعراب أوروبية أخرى. ويظل الاستعراب الإسباني المعاصر الأكثر فاعلية وأكاديمية.
ورغم هذا تشغل حركات الاستعراب في دول أوروبية أخرى حيزًا أكبر من الاهتمام والنشر في العالم العربي. فلو قُدر لكارمن أو لبدرو مارتينيث مونتابيث أو لآخرين من الرعيل التالي لهما أن يُولدا في حضن حركات استعراب في دول أوروبية أخرى لكان لهما شأن أعظم عربيًا وعالميًا.
وددت بهذه الكلمات أن أفي كارمن بعضًا من حقها أمام قارئ العربية في يومها العالمي الذي يحتفى بها اليوم في أجواء قاتمة جراء ما يقترفه الصهاينة من إبادة جماعية في غزة المقاومة.