إسهامات العربية في الشبكة المعلوماتية بين -الرُّبع- العربية و- -التِّرِنْد- الإنجليزية


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 7748 - 2023 / 9 / 28 - 18:07
المحور: الادب والفن     

"لكنها تدور رغم ملوك الطوائف"
د.خالد سالم
استنطق شاعر النيل لغة الضاد ناعيةً حظها بين أهلها وهوانها عليهم فانتحبت قائلة:" أنا البحرُ في أحشائه الدرُّ كامنٌ فهل ساءَلُوا الغَوَّاصَ عن صَدَفاتي". ازداد واقع الحال، في التعليم والإعلام وبين العامة، رداءة وتراجعًا عما كانت عليه الحال في زمن حافظ إبراهيم. لهذا أثارت إجازة مجمع الخالدين استخدام كلمة "تِرِنْد" الانجليزية زلزالًا في منصات التواصل الإحتماعي ووسائل الإعلام لا تزال تُسمع له هزات إرتدادية قاسية ضد مجمع اللغة العربية في القاهرة، رغم أن أمينه العام الدكتور عبد الحميد مدكور صرح بأن المجمع سيعيد النظر في اجازة استخدام هذا اللفظ الدخيل.
لا غضاضة في أن يعترض المتلقي العربي على ما يراه شاردًا في لغته، دون إساءة لمن اجتهد ولم يُصب. وعلينا في أرض الكنانة أن نفهم أن هذا الموقف من المتلقي في الدول العربية الأخرى أمر يجب أن نستحسنه، فهذا المجمع استاثر بين المجامع العربية الخمسة عشرة بأنه مجمع الخالدين، وعليه فإن مستحدثاته يجب أن تكتسب صفة الخلود من أعضائه.
بيد أن المجمع لا يستطيع أن يضطلع وحده بمهام تجبير لغة الضاد عند استحداث ألفاظ تساير العصر، فهذه المهمة تستوجب سياسات رسمية تُرسم للطرق على كل جديد في سبل بث المعلومة إلى المتلقي، بدءًا من التعليم إلى وسائل الإعلام، وبينهما المسؤلون في تصريحاتهم وخطاباتهم. بعض الدول التي تعني بلغاتها تتبع هذا الأسلوب، من بينها تركيا التي لها تجربة رائدة في هذا المجال. بعض وسائل الإعلام الكبيرة في إسبانيا تصدر "كتاب أسلوب" يعني باللغة، وعلى كل صحفي أن يتبع قواعده في الكتابة والتحرير.
مشكلات لغة الضاد كثيرة نتيجة سياسات وأخطاء متراكمة بدءًا بقبائل التعليم، موزعةً بين التعليم العام والخاص والدولي واللغات والديني. والطالب، منتج هذاالتشتت، منذ أن تطأ قدماه الروضة يتمزق بين ثنائية اللغة العربية، ما بين لهجة وفصحى مشوهة، ولغات أجنبية لا يحسن تعلمها!
يأتي الطالب إلى الجامعة محملاً برفض للغته الأم واستهجان لمحاولات استخدامها في دروسه، وكليات اللغات مرآة لهذا الفشل رغم أن دارس اللغة يفترض أنه سوف يعمل في سياق اللغات، من بينها العربية. يحاول أن يجيد تعلم اللغات الأجنبية ويهمل لغته.
يسري بيننا شعور بالاستلاب تجاه الغرب ومنجزاته، ما يجعلنا نطأطئ الرأس، وهو شعور استمرأناه منذ سقوط بغداد، عاصمة الخلافة، في القرن الثالث عشر وبعدها بقرنين غرناطة، رغم أن اسهاماتنا في صنع الحضارة الإنسانية يحملنا على التأمل واستخلاص الدروس بغية تلمس سبل الخروج من الهاوية التي نعيش فيها منذ حوالي ثمانية قرون.
اسهاماتنا في الحضارة الإنسانية لا يزال الغرب يراها ويرصدها بينما نحن نشيح بوجوهنا عنها، وكأن ماضينا وصمة عار.
كلمة "تِرِنْد" وليدة الشبكة المعلوماتية التي أثارت العاصفة ترقبها علامة "آت @" العربية الأصل، التي تضرب بجذورها في الأندلس العربية وتلامس فروعها الغمام لتخلد بعد إحيائها، ومن خلفها الأرقام العربية التي نصر على إهمالها والإستعاضة عنها بالأرقام الهندية.
ذات يوم سألني مستعرب إسباني: كم عربيًا يعرف أن هذا الرمز المعلوماتي ذو أصل عربي؟! يشكل هذا الرمز السحري، إلى جانب اللوغريتمات والصفر العربي، ركائز مهمة من أعمدة التقدم الإنساني. ويعود إلى وحدة الكتلة العربية القديمة "الرُّبع. ولا يزال هذا المكيال يُستخدم في مواسم حصاد القمح والبقول في صعيد مصر. ويحتفظ هذا الرمز الطباعي بأصله العربي في الإسبانية بعد تطويعه تماشيًا مع قواعد صوتياتها فأصبح يُكتب arroba ويُلفظ "أرُّبا" ويستخدم في شبكة المعلومات، من بريد إلكتروني وتدوين مصغر إلى إنستغرام. كما أنه يدخل في تعابير لغوية في الإسبانية وعند الإشارة إلى الجنسين في نهاية كلمات يُعين فيها المذكر والمؤنث معًا.
و يعود الأصل العربي، في الدلالة والكيل، إلى الأندلس، إذ استخدمه تاجر إيطالي يُدعى فرانشيسكو لابيون كان يعيش في إشبيلية في مطلع القرن السادس عشر، واستخدمه في رسالة تُعد أقدم وثيقة تصور هذا الرمز بشكله الحالي. ومن إشبيلية انتقل على أوروبا. واليوم أسأل: هل نجرؤ على انتشال هذا الرمز من عجمته ونعيده إلى العربية؟ أظن أن كلمة رُبع العربية تتسق مع الذات.
وهنا تحضرني واقعة معرفتي بعربية الأرقام التي تستخدمها غالبية شعوب العالم ودول المغرب العربي دون دول المشرق. فذات مساء، فور وصولي للدراسة في إسبانيا، بينما كنت أتابع جلسات مجلس النواب الإسباني على شاشة المرناة لمعت عيناي وانفرجت أساريري عندما سمعت رئيس الجلسة يشير على النواب بفتح الوثيقة التي يناقشون محتواها في الصفحة كذا، بالأرقام الرومانية، والفقرة كذا بالأرقام العربية. فجأة اكتشفت أن الأرقام المستخدمة في الغرب هي العربية، وما نستخدمه هي الأرقام الهندية! وبعدها بقليل كان موضوع الأرقام العربية وأصولها، خاصة الصفر، ضمن درس لتأثير العربية في الإسبانية. وكان أستاذ المادة رفائيل لابيسا Rafael Lapesa العلامة المعروف في اللغويات، وبعدها أعاد علينا الدرس نفسه بشكل موسع وأدق أستاذ، شاب سنتئذ، متخصص في المادة، ماركوس مارين Francisco Marcos Marin . والحقيقة أنهما انبريا في الحديث عما أسدته العربية إلى لغة ثربانتس. كان هذا في مرحلة الليسانس في جامعة مدريد، يومها أضيفت مساحة جديدة لاعتزازي بالذات القومية.
حوادث الاستلاب كثيرة، لعل من أبرزها كلمة "شيّر" الانجليزية التي استعرناها وأصفناها إلى مفردات الشبكة المعلوماتية. هذه الملحوظة تجعلنا نتساءل: هل أصاب اليباب لغة الضاد وأهلها إلى هذا الحد المهين؟ ألا يوجد في العربية أفعال مثل شارك، نشر، تقاسم... لنستخدمها مثل أصحاب اللغات الأخرى بدلاً من هذا الفعل الإنجليزي سالف الذكر؟ وماذا عن "غروب" و"أدمن"! أليس في لغة الضاد "مجموعة" و"مسؤول"؟! لقد أصبحت مسألة وجاهة بين مستخدمي الشبكة العنبكوتية.
اللغة العربية تخضع للتفكيك التدريجي وتمازج الفصحى بشظايا اللغات الأجنبية ما يؤدي إلى ظهور عاميات هجينة من اللهجات المحلية وقليل من العربية. ولعل المثال الحي لهذا يكمن في لغة الدردشة العربية في الشبكة العنكبوتية أو ما يُطلق عليه "العربيزي" أو "العربتيني"، وهي لغة مشفرة تستخدم أرقاماً ورموزًا وتكتب بأحرف لاتينية. وقد "اهتم" موقع ويكيبيديا بهذا الأمر واقر قواعده مثلما تنشر بعض مواضيعها باللهجة المصرية تكريسًا لها على طريق فصل مصر عن محيطها. الدراسة بلغات أجنبية في المراحل الأولى من حياة الطالب تمثل إحدى ركائز هذا التمزق على مستوى الهوية واللغة الأم.
وهنا ألجأ إلى العلامة التونسي الدكتور المسدي إذ يدعو إلى صيانة اللغة العربية، ففي ذلك صيانة للهوية العربية وللأمن القومي ومعه الوطني، فالعرب لن يربحوا رهان التاريخ من خلال اللغات الأجنبية أو من خلال اللهجات العامية، بل سيكون متعذرًا عليهم الانخراط في مجتمع المعرفة من خارج دائرة العربية.
لغتنا الجميلة تستغيث مطالبًة بحراك وطني وقومي لإنقاذها ومعه الهوية بأغلبيتها وأقلياتها. هناك ضرورة ملحة لمبادرات إستراتيجية فاعلة. وكونها لغة القرآن لا يكفي لحمايتها.