بين مدريد العربية ومدريد الإسلامية


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 7430 - 2022 / 11 / 12 - 11:16
المحور: الادب والفن     

هناك اعتقاد بوجود لعنة الفراعنة على إثر الحوادث التي طالت بعض من شاركوا في اكتشاف مقبرة الملك الفرعوني الشاب توت عنخ آمون على يد هوارد كارتر في العشرية الثانية من القرن العشرين، وممن اقتربوا من آثار هذا الملك الشاب. إلا أن من يقترب من الأندلس وتاريخها يدرك أنه ربما كانت هناك لعنة تاريخية سابقة، هي لعنة الأندلس. فالصورة الفردوسية التي في مخيلتنا الرومانسية، عربًا ومسلمين، ليست مطابقة لواقع تخللته فتن وصراعات بين أطياف أهل الأندلس، ما شغلهم عن العدو الحقيقي، شمالي شبه جزيرة أيبيريا وأفسح له الطريق لبدء الكر والفر على الأراضي التي استقر فيها الحكم للعرب بعد الوصول إلى شبه الجزيرة الأيبيرية عام 711م.
حريّ أن أشير إلى أن ذكر اسم إسبانيا يحملنا للوهلة الأولى على التحليق في سماء الأندلس، فهذا البلد الأوروبي تربطنا به وشائج تاريخية ونفسية عبر ماضٍ مشترك خط سطوره وفصوله بشر ينتمون إلى الثقافتين العربية الإسلامية والمسيحية لمدة تربو على تسعة قرون، من الفتح أو الغزو، حسب المتلقي، في مطلع القرن الثامن حتى طرد الموريسكيين نهائيًا في مطلع القرن السابع عشر. طوال هذه القرون شهد هذه الأراضي الأوروبية تزاوجًا فريدًا في تاريخ البشرية لم يتكرر بكل ما له من مآثر ومثالب. وفي خضم هذا الزهو بالأندلس، زمردة تارج الحضارة البشرية، نقصر هذه العلاقة على إسبانيا، وننسى الجزء الآخر من الأندلس، أي البرتغال الذي لم يكن أقل أهمية من الشطر الشرقي.
تمثل الأندلس نقطة مفصلية في تاريخنا، ففرادتها، سلبًا وايجابًا، تستدعي منا في هذا السياق العالمي أن نتوقف أمامها حتى لا يمحوها الِآخرون من تاريخنا، بمشاركة بعضنا. وهذا الفردوس غير المفقود يربك من يقترب منه بالدراسة والبحث العلمي الجاد، إذ لم يكن مساره كله ترفًا وحضارةً، أي لم يقتصر على قصر الحمراء و مسجد قرطبة وقصر الجعفرية، ولا على ابن زيدون وولادة بنت المستكفي وقصة غرامهما، والموشحات والأزجال. لقد خضبت دماء الطرفين، المتناحرين أحيانًا والمتعايشين أحيانًا أخرى كثيرة، ثرى الأندلس، وأحيانًا كثيرة أسلنا دماءنا بأيدينا، فكانت بمثابة لعنة تطاردنا روحها اليوم.
الأسئلة التي تُطرح حول هذه الحقبة من الحضارة العربية الإسلامية كثيرة وبعضها شائك: هل كانت لنا، أم أنها كانت مشتركة، نتاجًا للثقافتين العربية والمسيحية؟ هذا دون أن ننسى أن أشقاءنا البربر، الأمازيغ اليوم، يصارعون لنسب الأندلس إليهم، وهذا أمر مشروع نسبيًا، غير أن طرحهم هذا يُفرغ من معناه إذا تحدثنا عن حضارة بشقيها العربي والإسلامي. الطرح العسير هنا هو أن يُنسب دور لليهود يقف على حد المساواة مع الدور العربي والمسيحي.
وسط هذا الركام التاريخي والمعرفي يغيب عن البعض أن عاصمة هذا البلد، المرتبط في ذهنه بالأندلس، تحمل اسمًا عربيًا، مدريد أو مجريط قبل تحوره طبقًا لصوتيات اللغة الإسبانية المعاصرة، فقد أسس نواتها الأولى الأمير محمد الأول لتكون ثغرًا عسكريًا وفيه قصر صغير في منتصف القرن التاسع الميلادي – لا تزال آثاره باقية على مقربة من القصر الملكي الحالي. ويتيه بعضنا في زهوه عندما يعلم أن العاصمة السابقة تحمل اسمًا عربيًا أيضًا، وهي مدينة بلد الوليد، وسط إسبانيا. هناك اعتراض لغوي على المسميين قدر التأييد لوجاهتهما، لكن في الوقت نفسه نجد أن المنطق يساند اللفظين العربيين. والحق أنه لا يجتمع هذا الترف والثراء الحضري للعرب سوى في إسبانيا، سواء أكان المسميان العربيان متجذرين في الحقيقة أم طُرحت لهما تفسيرات منافية لا تخلو من مسحة استعلائية.
لا يستطيع العربي، أو المسلم، أن يبرأ من جلد الذات عندما يجد نفسه أمام السياق الأندلسي، وبعد أن تروح السكرة وتجئ الفكرة، فإن أول سؤال يطارده: كيف ولماذا فقدنا هذا "الفردوس"؟ ثم ينتهي في بعض الحالات إلى هذيان لحظي عبر تساؤل آخر: ماذا لو حافظنا على الأندلس عربية إسلامية؟ هل كان للغرب أن يواصل استعلاءه لو حافظنا على امتدادنا داخله؟ ويستمر الهذيان أحيانًا إلى تمني استرداد "الفردوس المفقود"! ويواصل حديث جلد الذات بذلك الفتح، فتح الأندلس، ولا يجرؤ، حتى مع ذاته، الاسرار بأنه كان غزوًا إذ كان هناك شعب ودولة رغم هشاشة نظامها الحاكم، ويصعب عليه الاعتراف بأن الفتح ما هو إلا غزو مسربل بغلاف ديني. إنها أمور يجب حسمها، وهي لن تنقص مما أسديناه للحضارة الإنسانية عبر الأندلس أو الجغرفيات الأخرى التي عمُرت باسهاماتنا.
بعيدًا عن الهذيان، وعودة إلى الواقع المرير، فإن العربي عند تأمل الآثار العربية في ربوع شبه جزيرة أيبيريا يحيل اللحظة إلى حالة عصية على الوصف، فلا هو حزن ولا هو فرح، بل حسرة تكتم أنفاسًا وفخر سرعان ما يتوارى داخلك، لتخرج مشدوهّا، مذهولاً في كل زيارة، مهما تكررت. هذه الحالة عشتها على المستوى الفردي والجمعي مع مصريين وأشقاء من دول عربية أخرى، ومن أعمار ومستويات ثقافية متنوعة.
إنها حالة تتلبس الزائر العربي والمسلم، وتتجلى أكثر لحظة الغروب، مجردًا وملموسًا، عندما يلف قصر الحمراء، وسط الأشجار الوارفة، وتشاهده من ربوة حي البيازين الذي يشرف على غرناطة، -التي غربت منها شمس الأندلس نهائيًا في مطلع عام 1492- بينما الشفق يحتضن القصر المنيف. إنها لحظة آسرة لا تتكرر إلا عند تأمُّل تداخل الحضارتين في مسجد قرطبة، أو كما يسمونه المسجد الكاتدرائية. ففي هذه اللحظة يلف لون فريد قصر الحمراء، ليكمن التناغم الانسجام مع لون جدرانه، لون يميل إلى حمرة مدهشة، ليس أحمر تمامًا، بل يعلوه لون عاجي عتيق، يصبغ هذه الرؤية العجائبية، ويشارك في هذا الاحساس المربك للزائر الحائر بين الماضي والحاضر. ترسم أشعة الشمس التي لا تزال تطل على استحياء خلف الجبال لتسهم في تشكيل خلفية اللوحة، فالشفق يلف مركزها من الخلف في أعلى نقطة في المدينة، بينما تفصل بينهما سلسلة جبال سييرّا نيفادا التي لا تزال الثلوج تكسو قممها حتى مع اقترابنا من حلول شهر الصيف مناخيًا، فيستنسخ جزءًا من لوحة "استسلام غرناطة" الشهيرة. إنها لحظة عصية على تصويرها بدقة ما لم تكن في هذا السياق الساحر، لحظة اجلال وهيبة يتقاسمها الحضور، فلا يُسمع فيها سوى صوت آلات التصوير.إنها لحظة اختلاط مشاعر تغمر العربي والمسلم أمام بقايا مجد بناه الأجداد ولم يصونوه.
بيد أن العربي اليوم قد تساعده مآقيه على ذرف الدموع ليظل يتأمل ويتيه في دهاليز الماضي رابطًا إياه بالحاضر، فالماضي مر والحاضر أكثر مرارة منه، لتزداد معاناته أمام جرائم لم يرتكبها، لتأتي الدموع وتنهي حالة الانفعال، وتمثل ضريبة آنية، يشعر صاحب الشأن بعدها باسترخاء وتسليم أمره إلى الماوراء لعله يحل له مشكلاته العصية التي خلقها من كان بأيديهم الأمر بنزواتهم وافتقارهم إلى الرؤية والرؤيا.
المشهد يحمل الزائر العربي على اجلال للحظة بقدر حسرة تلك العجوز وزفرة ابنها الذي أضاع جهوده في اقتتال عائلي رخيص على عرش لم يدم له طويلاً. حاولنا دائمًا قراءة الكلمات والوقائع دون الغوص فيها لاستخلاص الدروس من أجل حاضر ومستقبل أقل وطأة، إلا أن ماضينا لا يزال الاكثر اشراقًا وانسانيةً من حاضرنا ومستقبلنا المنظور.
وهنا استشهد بجملة حاسمة على لسان أبي عبد الله الصغيرة، آخر ملوك غرناطة، إذ استنطقه الكاتب المسرحي خيسوس غارثيا أميثكوا في مونولج كتبه مؤخرًا، إذ يقول: "الأندلس كانت حلمًا ضيعناه نحن أنفسنا". وهذا ليس لجلد أنفسنا، فأنا لا أميل إلى جلد الذات، رغم فائدته أحيانًا بغية استخلاص العبر، لكنه يلازمني منذ أن وطأت قدماي الأراضي الإسبانية للدراسة، من يومها يطاردني سؤال: كيف ولماذا ضاعت الأندلس؟ هذا دون أن يغيب عني أن شبه جزيرة أيبيريا كان يسكنها شعب وكان فيها نظام حكم قائم، قبل الغزو، أو الفتح، العربي لها. ولا أدعو لاسترداد الفردوس غير المفقود إذ لم يكن فردوسًا ولا جحيمًا. ولكن ما يتنازعني مجرد أفكار، بعضها شارد والبعض الآخر يضرب بجذوره في تاريخ خططناه بأفعالنا وأيدينا، دون أن أنسى وطأة أصول عائلتي التي تمتد إلى الأندلس مرورًا بالمغرب العربي إلى أن رمت عصا الترحال في أرض الكنانة.
أسئلة كثيرة يطرحها خيالنا الفضفاض، خيال الفيافي مسربلاً بضوء القمر، لعل المتعلق باسترداد ذلك "الفردوس المفقود" هو الأكثر خرافة، وفرضية دمج الحضارتين العربية الإسلامية والغربية من خلال عروبة وإسلام الأندلس، على افتراض أنه كان من الممكن أن يستمر حتى اليوم، مثلما حدث للدول التي عُربت بعد دخول الإسلام إليها، مصر ودول شمال إفريقيا. ألم تكن هذه الفرضية كفيلة بدمج الحضارتين، العربية الإسلامية والغربية، في منظومة واحدة؟ تواتر علامات الاستفهام يأخذ بتلابيب الزائر العربي والمسلم عند الوقوف أمام آثار الأندلس التي لا تزال شاهدة، رغم الدم المسال، على حضارة نعتها الأوروبيون بالمتسامحة في تلك الحقبة. كل هذا إذا ما امتطى العربي والمسلم صهوة جواد العقلانية والمصارحة والمصالحة مع الذات، دون قراءة هشة، كاذبة للتاريخ وأمنيات واهية للعودة بالتاريخ إلى الوراء.
بعد سقوط غرناطة مطلع عام 1492م، آخر معقل عربي إسلامي في الأندلس، كانت هناك نقاط دامغة في العلاقة بين الطرفين، لعل أبرزها يكمن في مأساة الموريسكيين، أي العرب والمسلمين الذين ظلوا تحت الحكم المسيحي ابتداءً من رحيل أبي عبد الله الصغير بموجب معاهدة الاستسلام، التي وصلت ذروتها بطردهم نهائيًا بين عامي 1609م و1614م. وشمل الطرد حوالي نصف مليون موريسكي من بلد يسكنه سنتئذ ثمانية ملايين، ما أضر باقتصاده الناشئ الذي كان يشكك الأوروبيون في مسيحيته لوجود مسلمين على أرضه.
رغم مرور قرون تفصلنا عن فض الاشتباك فلا تزال الأندلس تلقي بظلالها، إذ لا يمكن الحديث عن تاريخ العلاقات العربية الإسبانية بمنأى عنها، فنحن لا نزال نجرجر نعوتًا، سلبية وإيجابية، ترسبت في أذهان وحياة الإسبان، لعل أبرزها نعت "مورو moro" - تاريخيًا يعني مسلمًا من شمالي إفريقيا، لكنه اليوم ينسحب على العرب والمسلمين كافة- بما يعنيه من ذم، لما له من دلالات تاريخية غذتها الكنيسة ومشاركة الحرس المغربي(2) في الحرب الأهلية الإسبانية (1936/1939م) في صفوف الإنقلابيين على الجمهورية الوليدة. وازدادت دلالات هذا اللفظ السلبية جراء هجرة المغاربيين غير الشرعية إلى إسبانيا هربًا من الفقر وطلبًا للرزق. إلا أنه ظل يستخدم للنيل من العربي الفقير وليس الغني، فالمهاجر بطبيعة الحال فقير، بينما الذي يذهب إلى شواطئ ماربيا في الصيف هو العربي الغني.
لا شك في أن الأندلس تضمخ العلاقات بين الجانبين، ولا تزال تمثل نموذجًا، رغم نقاطها السوداء، يحتذى به في العلاقة بين الوطن العربي الإسلامي والغرب، فالإيجابيات يمكن أن تكون نبراسًا لعلاقات متوترة، يطغى عليها استعلاء غربي أمام وهن عربي إسلامي استمرأنا معه إبادة الذات، في حال اختفاء الاستعلاء الغربي والتشرذم العربي الإسلامي.
وددت مما سطرت أعلاه التقديم لمحتوى كتاب بين يدي، عنوانه مثير للجدل، هو "مدريد الإسلامية"، إذ كانت تُوصف دائمًا بالعربية، والآن تماشيًا مع رغبة البعض في اضفاء ضبابية على ماضٍ عربي في شبه جزيرة أيبيريا بغية تغيير صفته من الحضور العربي إلى الحضور الإسلامي. ففي السنوات الأخيرة ظهرت نعرة، كانت موجودة من قبل لكن على إستحياء، تبذل ما في وسعها لسحب الصفة العربية عن الأندلس وجعلها إسلامية، وكأن الإسلام ليس وليد العروبة. وهذه الجهود، مؤسسية وفردية، لا تصب في صالح العرب ولا المسلمين، إذ تفتح المجال أمام انشقاق نحن في غنى عنه ولا وجود له، لكن هذه النعرة زادت بعد ثورات الربيع العربي من طرف الأشقاء البربر، أو الأمازيغ كما يريدون أن يسموا أنفسهم في السنوات الأخيرة.
في خضم السير على هدى من يزرعون الفتنة بين أبناء الوطن العربي بفسيفسائه المتنوع والقوي، نجد متسعًا لسؤال يطرح نفسه: هل الأندلس كانت عربية أم بربرية؟ لهو جديد بينما ظهرت هناك أقلام مسمومة تسحب أي صفة مشرقية عن الأندلس، إذ تنفث فكرة قديمة جديدة، وهي أن الأندلس صنعها الإسبان وأن لا حضور للمسلمين فيها. لم يشحذ أحدهم سلاحه ولم يجدد مداد قلمه الإلكتروني لتفنيد هذه التي تذكرنا بأكذوبة أخرى، مفادها عبيد المصريين القدماء، اليهود، هم بناة الأهرامات. ولِمَ لا وقد سرقوا التراث الفلسطيني، ومعه فلسطين، ونسبوه لأنفسهم! مع ذلك لا يمكن انكار الدور المسيحي في صناعة الأندلس التي كانت بوتقة لحضارات المتوسط بقيادة عربية.
لا مزايدة على اختلاط الدم العربي بالبربري والمسيحي في الأندلس، وهناك مسميات اجتماعية تدلل على مشاركة الطرفين في صنع تلك الحضارة: المُوَلّدون، المُدجنون، المُسْتَعْرَبون، الموريسكييون، فكل مجموعة لها دورها في كنف الحكم العربي أو المسيحي قبل وبعد سقوط غرناطة.
الحوليات التاريخية تقر باسهام البربر في الحضارة الإسلامية قديمًا، ومثلهم الشعوب الإسلامية الأخرى من خارج الدائرة العربية، لكن هذه الشعوب الأخيرة لا تنازع العرب على ماضٍ بناه الجميع تحت لواء دولة الخلافة في دمشق وبغداد وبعد أن تفرقت الإمبراطورية العربية على الأمصار. وفي الأندلس أبلوا بلاء حسنًا وحالوا دون سقوط الأندلس حوالي ثلاثة قرون، لكن ثوراتهم المتواترة في الأندلس أضعفت حكامها العرب والبربر. بيد أن كل هذا لا يجعلهم يرغبون في نشر فكرة لا جدوى منها وهي أنهم هم الذين غزوا شبه جزيرة أيبيريا، الأندلس لاحقًا، نظرًا لأن طارق بن زياد كان بربريًا، وهذه النقطة محل جدل إذ يقر البعض بأنه كان من المشرق العربي. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا لم يغزُ البربر شبه جزيرة أيبيريا قبل وصول العرب إلى شمال إفريقيا؟! وإذا كانو هم أول "الفاتحين"، الغزاة، فلماذا لم تتكلم الأندلس اللغة البربرية وهي اللغة التي ينطقها الملايين في شمال إفريقيا؟ ولماذا كانت مظاهر الحضارة الأندلسية بالعربية؟
أعتقد أن العلاقات بين أطراف الأندلس، عربًا وبربرًا ومسيحيين ويهودًا، كانت أكبر وأكثر ثراءً وسلاسة من الالتفات إلى علامات الاستفهام المستهجنة هذه. وهنا يذكرني موقف الأشقاء البربر بادعاءات اليهود في الأندلس وإن كانت خافتة، بأنهم لعبوا دورًا في صناعة حضارة الأندلس، ولهذا هناك حديث عن الثقافات الثلاثة في الأندلس: الإسلامية والمسيحية واليهودية، إذ يعلمون جيدًا أنهم نسخوا كل ما عندهم من قواعد لغة وعلم عروض من علوم اللغة العربية في هذه الحقول. ومن يتأمل الألفاظ العربية التي دخلت الإسبانية، وتزيد عن أربعة آلاف، يجد أن جلها عربية وبعضة كلمات بربرية. المتأمل لما يحدث من نزاع على تراث الأندلس من طرفين نشيطين، البربر وبعض الأقلام الإسبانية المسمومة، تجاه الطرف الأصيل، العرب، يدرك أن العرب في صمت مريب، يغطون في سُبات عميق، وكأن على رؤوسهم الطير والأمر لا يعنيهم.
قد لا يرضي هذا الكلام الكثير من الأصدقاء المغاربيين، وقد عاتبني بعضهم على طروحاتي هذه في سياق آخر، وهنا أذكر لهم واقعتين لعلهم يتفهمون الأمور. وأولها هي أنني أنتمي إلى أسرة ذات أصول موريسكية، هُجرت قسرًا من الأندلس، أو بغية الحفاظ على هويتها، في القرن السابع عشر، لترمي عصا الترحال في دلتا النيل في القرن التاسع عشر، بعد أن كانت قد دقت أوتاد خيامها في فاس المغربية ثم في وهران الجزائرية. وهناك أخبار متواترة مفادها أن عائلة سالم كانت منتشرة في ربوع الأندلس، فهناك مدينة سالم، في إقليم أراغون، وعائلة سالم المقيمة في مدريد عند بنائها، وبني سالم في بالما دي مايوركا، وربما كانت الأصول بربرية.
وبقدر ما كانت الأندلس عربية إسلامية كانت مسيحية أوروبية، إذ كانت امتدادًا للتمازج والتناضح بين حضارات البحر المتوسط، البوتقة التي انصهرت فيها ثقافات شعوبه. قام العرب باعادة قولبة ما اغترفوه من حضارتهم التي ارتوت من الحضارة الهلينية الرومانية.
وعليه فإن الولوج في مثل هذه الأمور يعد سفسطة واضعاف للأمة بفسيفسائها العرقي والثقافي والحضاري والديني، ولا يصب في المصلحة المشتركة للعرب والمسلمين. وعلى أشقاء الثقافة والدين والوطن ألا ينزلقوا إلى هذه الهاوية التي ستؤدي إلى مزيد من التشظي، وسوف يبقى التاريخ في مكانه دون قدرة أحد على تزويره أو طمسه. وما يحدث يجئ نتيجة شعور بالخواء أمام غياب الحريات والديمقراطية التي من شأنها أن تجمع أبناء الوطن كافة دون تمييز حيث يصبح الجميع سواسية عملاً بروح ثقافتنا المستقاة من روح التسامح الإسلامي. العروبة ليست عرقًا، بل هي ثقافة منذ أن دخلت الإسلام شعوب واتسعبت الرقعة كثيرًا من بغداد إلى قرطبة.
وهنا أستشهد برأي عالم الأندلسيات الدكتور محمود علي مكي في برنامج تلفزيوني عن الأندلس إذ رد على الخلاف حول تسمية الأندلس بالعربية أو الإسلامية قائلاً "عندما نتحدث عن العروبة لا نعني هنا العرق، بل عروبة اللسان، عروبة الثقافة، فكل المسلمين في تلك الفترة كانوا يعيشون في كنف الدول العربية لقرون طويلة" (3).
إن وصف غزو الأندلس بالفتح يوازي تعريف الأندلس بالإسلامية. هناك مفهوم جارٍ مفاده أن الفتح يكون لمنطقة مهجورة، بلا شعب ولا دولة، أو لنشر الدين حسب المفهوم الإسلامي المبطن. وحسب لسان العرب المحيط فإن "الفتح نقيض انغلاق، والفتح: افتتاح دار الحرب، وجمعه فتوح، وهو: النصر، وفي حديث الحديبية: أهو فتح؟ أي نصر." تسمية الأشياء بأسمائها الصحيحة لن ينقصنا شيئًا، فلا هو فتح ولا الأندلس فردوس مفقود، فالأندلس موجودة في ما تركناه من حضارة وآثار شاهدة على رقي الحضارة العربية وتسامح الإسلام.
ما طُرح في السطور السابقة يحملنا إلى الحديث عن مدريد، لنتفهم ما إذا كانت عربية أم إسلامية. فعندما قرأت عن كتاب "مدريد الإسلامية"، في طبعته الأصلية، توقفت أمام العنوان، إذ السائد بيننا هو مدريد العربية منذ أن اكتُشف الأصل العربي للكلمة ووضع عن هذه المسألة الدكتور محمود علي مكي كتابه، المتداول بين أجيال، "مدريد العربية" (4) . وقبله كان قد اكتُشف أن أصل اسم مدريد عربي ينتهي بمقطع التكثير المأخوذ عن اللاتنية، وهو ما أقره الباحثون الإسبان ولم يعرض هناك مكان لفرضيات استعلائية سادت خلال قرون:
" فهذه الكلمة تتألف من لفظ عربي خالص "مجرى" أضيف إليه مقطع نهائي من اللاتينية الدارجة (-يط)، الذي يدل على التكثير.... فمعنى الاسم اذن "المدينة التي تكثر فيها المجاري"، والإشارة هنا إلى المجاري أو القنوات الجوفية التي كانت تحمل الماء إلى سكان المدينة وبيوتها وحدائقها وزروعها وحماماتها" (5).
هناك يقين بين سكان مدريد بأن مدينتهم أنشئت على بحر من الماء، وهو ما حمل بعض الكتاب على الاشارة في أعمال لهم على هذه المقولة المنتشرة، ومن بينهم المؤلف المسرحي خوان رويث دي ألاركون(6) الذي يقول في "إحدى مسرحياته إن مدريد تفضل البندقية في كثرة مياهها" (7) . وكان عرب الأندلس يستخدمون في كلامهم عناصر مستعارة من اللغة الرومانثية، اللاتينية الدارجة، ما يمثل صورة صادقة لذلك المجتمع المُوَلَّد. ولهذا فإن النصوص الأندلسية تتضمن كلمات من تلك الرومانثية، وكان المؤلفون العرب يدعونها "لطينية الأندلس"، أو كلمات عربية أدخلت عليها نهايات إسبانية، وهو ما سجلته الموشحات والأزجال الأندلسية (8)، ومن بين تلك الألفاظ كلمة "سمراء" العربية التي كانوا يلحقون بها النهاية الدالة على التصغير"ella" فتصبح الكلمة samaraella أي "سميراء".
وتوجد كتب وبحوث أوروبية تشير إلى مدريد العربية وإلى الغزو العربي لجنوبي فرنسا، وليس شبه جزيرة أيبيريا فقط، ولعل أحدثها كتب "من مجرط إلى مدريد. مدريد والعرب، من القرن التاسع إلى القرن الحادي والعشرين"، أذكر من بينها كتاب من اعداد مؤلف "مدريد الإسلامية"، دانيال خيل بن أُمية بالاشتراك مع باحثة أخرى هي ماريا دولوريس ألغورا ويبر (9) ، شارك في البحوث الذي تضمنها في متنه باحثون من ضفتي البحر المتوسط، وحُوفظ في العنوان على الصفة العربية دون الإسلامية. وقد صدر في طبعة بالإسبانية وأخرى بالعربية عنوانها: " من مجريط إلى مدريد. مدريد والعرب من القرن التاسع إلى القرن الحادي والعشرين". هذا بينما ذهب بعضهم إلى إحالة إسم المدينة إلى قبيلة بربرية كانت تعيش في تلك المنطقة. وبعيدًا عن الإستناد إلى المصادر والبحوث الأجنبية، فإذا كانت صفة الأندلس هي الإسلامية وليست العربية، وهو ما ينسحب على مدريد، فلماذا نُعت الشعر بالعربي وليس بالإسلامي؟ ولماذا خُطت الكتب الأندلسية بالعربية؟
ومن ناحية أخرى نجد أن كلمة مُسْتَعْرَب «mozárabe» لم يستعملها المسلمون، بل نحتها واستخدمها مسيحيو ممالك شمالي الأندلس، وكانت تُطلق على المسيحيين الذين يعيشون في أراضي العرب في الأندلس. وكان هؤلاء المُسْتَعْرَبون قد أخذوا تقاليد وعادات الحكام العرب، بما في ذلك استخدام اللغة العربية. لماذا لم يُشتق اللفظ من الإسلام ولا من البربر؟ أي "مستسلم" أو "مُتبَربِر" على سبيل المثال.
الفرنسيون أنفسهم الذين كانوا يريدون مواصلة استعمارهم لدول عربية بعينها تكلموا في البداية عن عروبة الوقائع وعندما أرادوا ضرب اسفين الفرقة بين أبناء الأمة اخترعوا المسألة البربرية وبدأوا كتابة اللغة البربرية الشفاهية واليوم يريدون القطيعة مع الماضي أكثر فاخترعوا بدعة جديدة، الاستعاضة عن البربرية بالأمازيغية. وعندما تناولوا الحضور العربي جنوبي فرنسا في بحوثهم نعتوه بالاستعمار العربي في فرنسا، ولم يصفوه بالإسلامي" La colonisation arabe en France " (10) . وكما أشرت مسبقًا فإننا عندما نتحدث عن العروبة، فإننا لا نعني هنا العرق، بل عروبة اللسان، عروبة الثقافة، فكل المسلمين في تلك الفترة عاشوا في كنف الدولة العربية قرونًا طويلة.
عناوين الكتب والبحوث الإسبانية التي تصف الحضور المشرقي في الأندلس بالعربي كثيرة، ومن بينها، على سبيل المثال، كتاب المستعرب خوسيه أنطونيو كوندي "تاريخ هيمنة العرب على إسبانيا" (11) ، الذي نشر في عشرينات القرن التاسع عشر، وله حضور بين المستعربين المعاصرين. وبفضل طروحاته أخذ التاريخ الأندلسي يشكل جزءًا جوهرياً من تاريخ إسبانيا، وإن كان هذا الادراج يتم على استحياء. وفهيي هذا السياق يقول دانيال خيل بن أُمية في مقدمة كتابه:
" من الجلي أن نظرة إسبانيا للغزو العربي-البربري الذي وقع عام 711م وسنوات تاريخ الأندلس وثقافتها الثمانمائة ليست هي نظرتها للغزو الروماني والقوطي وافرازاته التاريخية، خاصة عندما لا تكون هناك فروق جوهرية بين الغزو الأول والغزوين الأخيرين على مستوى الواقع. إنه أمر طبيعي عادة لا يُدرك، لكننا تعلمنا أن الرومان والقوطيين جزء من شجرة عائلتنا، هم منا، في حين أن دور الأندلس في الصورة التي نكونها عن أنفسنا لا تزال موضع نقاشات تتخطى حدود التكهنات الأكاديمية" (12).
أرقام المحاربين الذين صاحبوا طارق بن زياد في أول حملة لغزو الأندلس بتكليف من موسى بن نصير والحملات التالية معروفة، ودور الموحدين والمرابطين في القرون الأخيرة من حياة الأندلس واضح كالشمس، لكن كل هذا كان بمبادرة أطلقها قادة عرب وتحت مظلة الدولة العربية، فقد أطالوا عمر الأندلس قرونًا رغم كل المآخذ عليهم. لهذا فإن الخوض فيها يعد اجترارًا لأمور معروفة. وهنا أكتفي وأذكّر من تنفع معهم الذكرى بقوله تعالى:" ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب". وأشير إلى أن بداية الهجمات المسيحية على المناطق الواقعة تحت الحكم العربي كانت عندما انشغل قصور الحكم في ثورات تزعمها البربر في صراعهم على الحكم مع العرب (13).
بقي أن أشير إلى أنني لجأت إلى النسخة الرقمية التي زودني بها المؤلف الكريم، وهي النسخة التي أضاف عليها بعض الأسطر في فقرات بعينها، كان أكبرها فصل "سان إيسيدرو" كله، والعنوان الفرعي للكتاب، الأصول الخفية لعاصمة مسيحية، ولهذا وددت التنويه بالفارق بين الطبعة الورقية والنسخة الرقمية التي أدخلت عليها هذه الاضافات غير الكثيرة على متن الكتاب. وبهذا أعرب عن امتناني للمؤلف دانيال خيل بن أُمية (14) على كرمه في تزويدي بالنص والصور مجانًا، وهي الصور التي تعود إليه. إننا أمام كتاب يمثل قيمة مضافة جديدة لما نُشر عن الأندلس وعن مدريد، العاصمة الأوروبية الوحيدة التي أسسها العرب في القرن العاشر الميلادي، لتضاف إلى ما أثرينا به الحضارة الإنسانية قرونًا.
الهوامش:
1.ترجم هذا الكتاب عن النسخة الإسبانية بعنوان:
Daniel Gil- Benumeya, Madrid islámico. Los orígenes ocultos de una capital cristiana Ediciones La Librería, Madrid, 2015
2. الملفت للنظر أن هذه الظاهرة كانت لها سابقة في نهاية الأندلس، إذ كان هناك حرس موريسكي يحكي ملوك قشتالة وهو ما تعالجه أستاذة تاريخ إسبانية: آنا إتشببارّيا أرسواغا، فرسان على الحدود: الحرس الموريسكي لملوك قشتالة (1410-1467)، مدريد: جامعة التعليم عن بعد، 2013.
Ana Echevarría Arsuaga, Caballeros en la frontera: la guardia morisca de los reyes de Castilla (1410-1467), Madrid: UNED, 2013

3. https://www.youtube.com/watch?v=49xgmbjjX3A
منقول من شبكة المعلوماتية في 15 أبريل 2021 وكان العنوان المكتوب تحت الفيديو" الحضارة الإسلامية في الأندلس | لقاء يجمع د محمود علي مكي و د الطاهر أحمد مكي "
4. د.محمود علي مكي، مدريد العربية، وزارة الثقافة، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر. دار الكاتب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة. (لا توجد سنة النشر).
5. محمود علي مكي، المصدر نفسه، ص. 65.
6. خوان رويث دي ألاركون إي مندوثاJuan Ruiz de Alarcón y Mendoza مسرحي إسباني ولد في المكسيك عام 1572 وتوفي في مدريد عام 1639، ينتمي إلى العصر الذهبي للأدب الإسباني.
7. المصدر السابق ص. 45.
8. محمود علي مكي، المصدر السابق ص. 66.
9. Daniel Gil Flores, María Dolores Algora Weber (ed.), De Maŷrit a Madrid: Madrid y los árabes, del siglo IX al siglo XXI. Madrid/Barcelona, Casa Árabe/Lunwerg, 2011.
10. https://www.persee.fr/doc/linly_1160-641x_1886_num_5_1_16264
M. Bertholon, “La colonisation arabe en France “, Publications de la Société Linnéenne de Lyon Année 1886.
José Antonio Conde, Historia de la dominación de los árabes en España, sacada de varios manuscritos y memorias arábigas. Madrid, 1820-1821, tres vols., muy reimpresa y traducida.
11. هناك إعادة طباعة جديدة لهذا الكتاب صدرت عام 2017.
12.. صفحة 12 من النسخة الإسبانية.
13. محمود علي مكي، المصدر نفسه.
14. واضح من لقب دانيال أنه من أصول موريسكية. وهذا مجرد إستنباط مني، لم أسأله أبدًا عن هذه المسألة، حفاظًا على خصوصيته، فهذا أمر لا يعني العامة.
وهو مستعْرِب إسباني (الرباط، 1970)، أستاذ في قسم اللسانيات والدراسات العربية والعبرية ودراسات شرق آسيا في الجامعة ذاتها. وهو أيضًا باحث في مجموعة تحليل الإسلام في أوروبا بالجامعة المذكورة أعلاه. كما هو المنسق العلمي لمركز الدراسات حول مدريد الإسلامية، التابع لمؤسسة الثقافة الإسلامية، وهي مؤسسة علمية غير طائفية لتعزيز التراث التاريخي للحضارة الإسلامية (وخاصة الحضارة الأندلسية) باعتبارها التراث الجماعي لجميع الإسبان والأوروبيين. في الماضي، كان مسؤولاً عن قسم المطبوعات في البيت العربي، وهي مؤسسة تابعة لوزارة الخارجية الإسبانية.
أخذ من شبكة المعلوماتية يوم 12 نوفمبر 2022.