زُرت بلاد الرافدين


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 7759 - 2023 / 10 / 9 - 22:26
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

"لكنها تدور يا ملوك الطوائف"


د.خالد سالم
هناك مواقف مفاجئة قد يعجز المرء عن وصفها لكثافتها والتوق لوقوعها. وعندما تحل تتلبسه حالة من الوجد، وعدم القدرة على التعبير الشفاهي ليفسح المجال أمام مشاعر أخرى تجد مخرجها في عبرات تطول لتختفي لحظيًا ثم تتملكه مجددًا إلى أن يغادر السياق. هذه الحالة لازمتني وأنا أرقب بغداد من نافذة الطائرة التي كانت تتأهب للهبوط في مطارها. فقد تلبستني حالة يصعب وصفها، حالة قشعريرة، حالة رهبة أمام بلاد الرافدين بتاريخها، ماضيها القريب وحاضرها الآخذ في الاشراق، رغم كثافة الضباب، نحو مستقبل عظيم.
العراق بتاريخه الطويل العظيم أمسك بروحي منذ صباي ما جعلني أقترب منه، وكانت فنونه وآدابه وآثاره جسرًا لي عبر أصدقاء عراقيين أمدني بهم الزمان طوال حياتي منذ أن درست في جامعة مدريد.
أظن أنني لم أحلم بزيارة بلد عربي ولا أجنبي كما حلمت بزيارة العراق ومعه سورية، إلا أن النزاعات التي فرضوها عليه عنوة، ما بين خداع وإيهام، أجلت الزيارة إلى أن دعيت للمشاركة في المؤتر العلمي الدولي الثاني للملكية الفكرية والتنمية المستدامة، الذي نظمته وزارة الثقافة والسياحة والآثار.
وضمن حلمي الطويل كان منه فصل الحلم بزيارة المتحف الوطني العراقي، وتحقق الحلم الثري، رغم كل ما نهبه لصوص الحضارة وسُراق تراث العراق بعد الاحتلال الأميركي للعراق. في المتحف تصورت أنني سأزور قاعة نبوخذنصر لكن الترميم حال دون تحقيق هذا الحلم. وبينما كانت تتطاير أخبار طوفان الأقصى خلال الزياة، توقفت أمام المسلة السوداء للملك الأشوري شلمنصر الثالث تظهر ملك يهودا، إسرائيل، تحت أقدام ملك آشور يرجو السلام مع العراق بعد الاعتداء عليه. ربما هذا كان سببًا آخر للعودة إلى العراق في مستقبل قريب.
مع انشقاع مؤقت لحالة الوجد الأولية التي تملكتني منذ أن وطأت قدماي أرض العراق إلى أن رحلت منذ ساعات، وفي اللحظات القليلة التي استطعت فيها السير في بغداد، تلبستني ضرورة الرؤية، تأمل دجلة من نافذة فندق المنصور الذي دخل التاريخ. كنت أتخيل شحة مياهه، لكنني وجدتها تسير فياضة نسبيًا، ما حملني إلى النيل وسد النهضة الذي يهدد مصر، وسدود تركيا وتأثيرها السلبي على مياه بلاد الرافدين.
حالة الوجد حالت دون رؤية الكثير من آثار الماضي القريب، لكنني اقتربت من معنى المراقد الشيعية بزيارة ليلية لمرقد الإمام موسى الكاظم، كان دليلنا فيها الصديق العزيز دكتور محمد عبد الرضا شياع، العراق الأصيل الذي يعمل في جامعات أميركا. زادت دهشتي أمام هذا الشعب الكريم، المضياف، العاشق لرموزه الدينية. المسجد الضخم مزار يؤمه مريدو الكاظم على مدار الساعة، فعندما انتهت زيارتنا في الثانية صباحًا كان لا يزال يعج بالزوار الذين ينهون مهمتهم بالصلاة. كنت أتصور أن المصريين أكثر الشعوب العربية قربًا من الأولياء، لكنني وجدت العراقيين يقدسونهم. الأجواء المحيطة بالمرقد أجواء احتفالية حيث المحلات تبيع كافت أنواع الحلوى والملابس والذهب والفضة، وكلها أجواء جعلتني أسمو في أفق المكان، حالة من الروحانية لم أعشها سوى عند زيارتي لمقام الحسين في القاهرة.
لم يكن لي أن أزور بغداد دون التعريج على الحي الذي ولد فيه الشاعر العظيم عبد الوهاب البياتي، فقد استرقت بعضًا من وقت الاستراحة لزيارة مسجد وضريح الشيخ عبد القادر الجيلاني. وهو المكان الذي ولد فيه البياتي وصوره بدقة في شعره وسيرته الذاتية حيث "كان يعج بالفقراء والمجذوبين والباعة والعمال المهاجرين من الريف وصغار البرجوازيين". تمنيت لو أسعفني الوقت للبحث عن البيت الذي ولد فيه عام 1926، لكن لا أحد يعرفه. وهذا سبب آخر للعودة بلاد الرافدين.
العراق بلد مدهش، استطعت خلال هذه الزيارة السريعة، المليئة بأنشطة المؤتمر، أن أتعرف عن كثب على طبيعة شعبه الكريم المضياف وعزيز النفس. والمدهش أن الحروب التي فرضت عليه خلال العقود الماضية لم تؤثر في نفسه، إذ وجدت فيها شعبًا مقبلاً على الحياة، يحاول تجاوز الماضي القريب، بجراحه ومثالبه المتعددة والمتشابكة. رسائله واضحة، تحدق في أفق المستقبل، ورغبة في تجاوز ماضٍ مؤلم، اكتوى به واكتوينا به نحن العرب. إنني على يقين من أنه سيتجاوز الماضي ويعود قويًا شامخًا ومهابًا في فضائه العربي بفسيفسائه العرقي والديني والثقافي الذي يزيده قوة وصلابة رغم خطوب الدهر الثقيلة.