سعيد ناشيد- كاتب ومفكر حر من المغرب - في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: هل هناك من نص مقدس؟.


سعيد ناشيد
الحوار المتمدن - العدد: 3831 - 2012 / 8 / 26 - 15:12
المحور: مقابلات و حوارات     

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا - 86 - سيكون مع الأستاذ سعيد ناشيد- كاتب ومفكر حر من المغرب - حول: هل هناك من نص مقدس.



كانت الأديان -ولعلها لا تزال- ثورة روحيّة، غايتها تهذيب بعض الانفعالات البدائية للإنسان. لكن، مشكلتها الوحيدة أنها ظهرت في حقبة ما قبل العلم وما قبل الحداثة وما قبل حقوق الإنسان، حيث كان يسيطر نمط الفكر الخرافي والطقوسي والأسطوري. وبسبب ذلك جاءت الأديان موسومة بمَيسم النظرة السحرية للعالم.
الإصلاح الديني رهين بتحرير الخطاب الديني من تصورات العالم القديم، من مفاهيم الطاعة والولاء والتحريم، من عقلية العار والعورة والحريم، ومن وساوس التعويذات والرّقية والتّنجيم.
عدا هذا، لن يكون هناك لا إصلاح ديني ولا هم يحزنون.

لكن، هل أفق مثل هذا ممكن التحقق؟

لعل المُمكن هنا يلامس قعر السؤال ويخدش الحساسية الدينية أحياناً. لكن، هل غير هذا يكون إصلاحاً دينياً !؟
ربّ سائل يسألني استباقاً : ألا ينتمي الدين إلى العالم القديم والبائد؟ وبالأحرى، فقد سمعتُ سائلا يسألني : أليس مكان الأديان هو متحف التاريخ !؟ فما جدوى الإصلاح الديني ابتداء !؟
قد يحتاج المرء لخيال خارق حتى يتصور وجود عالم بلا أديان. لكنه في المقابل سيحتاج إلى دماغ جاحد وجامد كالحَجر حتى يظنّ أن الأديان ستستمر بنفس صورها وتصوراتها الأسطورية إلى أبد الآبدين.
ينطبق هذا القول على الإسلام أيضاً. بل هو عليه أشد انطباقاً.
من الرّاجح أن يُعمِّر الإسلام زمناً طويلا، لكن ثمن البقاء أن الكثير من "مسلمات" الإسلام ستندثر حتماً وتباعاً.
بكل وضوح، شيء واحد في الإسلام يستحق البقاء. بل، ما هو بشيء، إنما هو الرّوح والجوهر : مبدأ التّوحيد الرّبوبي الخالص ( لا إله إلا الله ) بلا زوائد أو شوائب تنتمي في الغالب أو على الأرجح إلى العالم القديم. لكن في المقابل، ثمة في الإسلام ما ينتظر شهادة الوفاة : شريعة الأحكام البدائية، من قبيل القصاص والفيء والحدود والجزية والسبي والرّجم أو الجلد، وكل ما ينتمي إلى أزمنة ما قبل الدولة، وبالأحرى ما قبل دولة المؤسسات.


الأصوليون قلبوا الآية. إذ، بدل التركيز على العقيدة والتي هي الجانب الأهم في الإسلام، صار همّهم كثرة الكلام عن الشريعة. وفي المقابل، أمست العقيدة بمثابة المسكوت عنه داخل الخطاب الأصولي. لماذا؟ من جهة أولى، لأن الشريعة تمثل البُعد التسلّطي المنسجم مع المزاج الأصولي؛ وفي المقابل، لأن العقيدة تمثل البُعد التحرّري للتوحيد الرّبوبي، وتفضح ابتداء من يزعمون الكلام باسم الدين، ومن يُنصبون أنفسهم حرّاسه، ومن يدّعون أنهم هم الدِّين.
بالطبع، سنحتاج إلى غير قليل من الخيال حتى نتصور إسلاماً مختلفاً عن هذا الإسلام الذي ورثناه عن تراثنا. لكن، أليس الخيال نفسه هو جوهر التجربة الدينية كما كان يرى ابن عربي، والفارابي، وسبينوزا؟
بل، لا يجوز أن ننسى أن الخيال شرط لكل إبداع.
وإذاً، آفة الدين أن حرّاسه منعوا النّاس من إِعمال الخيال وإِجلال الجمال وطلب المُحال، ومن ثم حرموا الدين من روح التطور وطاقة الإبداع، وجعلوه مجرّد شعائر شكلية وصلوات صورية وتعاليم ميِّتة وحركات تكرارية تُرسخ الزّمن الدّائري في الوعي وفي الأفعال.
آفة الدين "إيمان العجائز" الذي يُعطل الطموح ويقتل الإبداع ويردد في كل مناسبة أو من دون مناسبة : كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
آفتنا أن فقهاءنا المتأخرين أغلقوا باب النقاش في كل المسائل : الذات الإلهية وصفاتها، والمصاحف واختلافاتها، والأصحاح وإسناداتها، إلخ. في المقابل، لم يكن الانغلاق العقائدي داخل تراثنا بهذا النحو الذي صار عليه اليوم؛ كان مجال النقاش أوسع وأرحب.

فهل ضاقت الصدور؟ أم ضاقت الرّؤية واتسعت العبارة ( إذا قلبنا مقولة النفري الشهيرة ) !؟

من أمثلة هذا الضيق أن كان علماء القرآن والمصاحف والتفسير في الماضي أمثال السجستاني والطبري والقرطبي والسيوطي، يتكلمون بلا حرج عن الآيات التي ضاعت أو فُقدت، أو الأخطاء النحوية في المصحف العثماني، أو المجاز القصصي في القرآن، بل حتى المجاز الأخروي، ومسائل كثيرة في الإلهيات والنقليات والأخرويات، من دون أدنى حرج. أما اليوم، فيعدّ الخوض في هذه القضايا ضرباً من الكفر والإساءة للمشاعر الدينية "الهشة" للمسلمين. كما لو أننا أصبحنا فجأة أمّة من المعاقين واليتامى وممن وجب مراعاة مشاعرهم.
هل هي أعراض متأخرة لمرض الهزيمة، بمعنى الهزيمة التي انتقلت من واقعة تاريخية، فصارت جرحاً نرجسياً، ثم عصاباً وسواسياً، ثم نكوصاً جماعياً؟
حاصرنا أنفسنا وحبسنا أنفسنا وسط المعابد المقفرة. وما عدنا نبحث عن الله في سعة الحياة الرّحبة، ومجاري المياه العذبة، وعذوبة الشفاه الرطبة، وإنما نفتش عنه بين القبور المظلمة لأسلافنا الموتى، نعبُد ما يقولون ونُقدس ما يفعلون، لا نَجرؤ على عصيانهم ولا نقدر على إحيائهم. وبهذا النّحو نقلب الآية ( وإليه ترجعون )، فيغدو الرجوع إلى السلف الميت بدلا عن الرّجوع إلى الله الحي.
باسم الإسلام وبدعوى حماية الإسلام ((ممن !؟)) جاءت ردّتنا هذه المرّة نحو عصور العشائر البدائية. إذ، ليست السلفية سوى ديانة بدائية أساسها عبادة الأسلاف.


فضيحة بكل المقاييس.
في هذا المنحدر الانتكاسي انقلب العقل الديني الإسلامي على مبدأ التوحيد الرّبوبي، وسقط في شرك تقديس -بل تأليه- النصوص الدينية القديمة. مع أن تلك النصوص هي مجرّد نصوص في الأول، وهي في الأخير نصوص تنتمي إلى عالم ما قبل دولة المؤسسات، وما قبل العلم الحديث، وما قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
تقديس النصوص الدينية والعجز عن تخطيها يبلغ بنا اليوم مبلغ الجمود العقائدي والتجمّد العقلي. وهذا الوضع لا يترك للحس السليم مجالاً لأي كلام زائد عن الحاجة أو ساقط في أسواق المزاد الديني العلني؛ إذ سيحاسبنا الله والتاريخ عن ضياع الوقت الباقي وهو قليل.


لذلك، سنقول تحذيرنا أمام الملأ :
كلّما علا شعار " القرآن دستورنا "، إلاّ وكان مدخلاً إلى فتن لا تُبقي ولا تذر.
كلما حُمل القرآن الكريم بالأكف أو على السيوف، إلاّ وكان سبباً في تناحر يأكل اليابس والأخضر.
كلما دُعي إلى تحكيم القرآن في الاختلاف بين الفرقاء، إلا وكان مبعثاً لخلاف لا أول له ولا آخر.


لماذا؟
لأن آيات القرآن حمّالة أوجه، يضرب بعضها بعضاً، وينسخ بعضها بعضاً، ويُعطِّل بعضها بعضاً، وقد أنزلت على سبعة أحرف، معظمها آيات متشابهات، مبهمة المعنى ملتبسة الدلالة، وأنزلت منجّمة متناثرة، وكتبت على أشياء متفرقة وبلغة كانت لا تزال بلا قواعد. وحتى باعتماد الحرف الواحد الباقي، انفجرت عشر قراءات على الأقل، وتطايرت عشرات التفاسير. وبين ثنايا تفسير كل آية من الآيات لازمة أجمع عليها كافة المفسرين وتكرس أزمة اليقين إذ تقول : " اختلف علماء الأمة في قراءة هذا اللفظ ( أو ذاك )، أو تحديد معنى هذه الآية ( أو تلك ) ".

فهل مثل هذا يكون دستوراً؟!

تذكيراً نقول، القرآن الكريم كلام تعبُّديٌ خالص، لكنه في المستوى المعرفي يصبح صعب المراس، غارقاً في الالتباس، وقابلاً بالمقابل لكل توصيف أو توظيف في أي اتجاه نبتغي أو لا نبتغي. إن ابتغينا الرّحمة والتسامح وجدنا آيات تدعو لذلك، وإن قصدنا العنف والقتال ألفينا آيات تأمر بذلك. وفي زحمة آيات العنف والعدوان وآيات الرّحمة والغفران، تمنحنا الكثير من العبارات إمكانية تقويلها ما لا تقوله إملاء أو إيماء.
لكن المؤكد أن التوظيف الإيديولوجي للنص القرآني يجعل القرآن الكريم يبدو كأنه طيِّع في أيدي الأصوليين الأكثر أصولية، والسلفيين الأكثر سلفية؛ طالما سلّم قيمه "السياسية" لا يتخطى سقف البيئة القروية التي نزل فيها، بيئة الطاعة والبيعة والحاكمية والقوامة والولاء والبراء والغلبة والاتِباع، إلخ.


رغم ما قيل ويقال، المؤكد أن شعار " القرآن دستورنا " لا هو بشعار قرآني ولا هو بشعار دستوري :
إذ الملاحظ، من جهة أولى، أن الدّستور ليس مفهوما قرآنياً، طالما لم يرد في أي آية من آيات الذِكر الحكيم، كما لم يرد في أي تفسير من التفاسير القديمة أو المحدثة، بل دخل إلينا من باب المفاهيم المستوردة.
والمؤكّد، من جهة ثانية، أن القرآن ليس مفهوماً دستورياً، طالما أن من بين الخصائص الأساسية لبنود الدستور أن تكون أولاً، مصاغة بلغة تخلو من المجاز والاستعارة ولا تحتمل سوى هامش ضيق من الخلاف في التأويل، وليس هذا حال القرآن الذي يكاد يكون نصا مجازيا من ألفه إلى يائه؛ وأن تكون ثانياً، قابلة للتعديل تبعاً للمعطيات ولما تقتضيه الأحوال، وبالتأكيد ليست آيات القرآن على ذلك الوجه.
رغم ذلك، لا تخلو الأجواء من تشويش مقصود، إذ يرتفع الشعار مدوياً : " القرآن دستورنا " بدون أن يعرف أهل العقل والحكمة منّا كيف يعترضون، وبأي وجه يردّون. وإذ يبدو وكأن النصّ القرآني جامع للأحكام والشرائع، وشامل لقواعد السلوك والمعاملات، ومستوفي لكل القوانين والشرائع والقواعد التي أرادها الله للمسلمين أجمعين، بل للبشرية جمعاء، وأحكامها تصلح لكل زمان ومكان.


لكن المعادلة تقول :
كلمات النص -أيّ نص كيفما كان- محدودة، وأشياء الواقع العيني غير محدودة؛ كلمات النص -أي نص كيفما كان- ثابتة في مواضعها، وأشياء الواقع العيني تتبدل على الدوام. وكما صرّح الأصوليون الاجتهاديون، النصوص تنتهي وحوادث العباد لا تنتهي. النتيجة، إذاً، من المحال أن يكون النص –أي نص كيفما كان- مرجعاً مطلقاً وصالحاً لتفسير أو تدبير كل الحالات والأحوال.
إزاء هذا الإشكال، كيف تصرّف الفقهاء؟
لم يظهر الفقه أوّل الأمر إلاّ أملاً في تقليص الفارق المتعاظم بين النص والواقع، أي توسيع مجال سلطة النص لتشمل أقصى ما يمكن من المستجدات والمستحدثات. وذلك بواسطة آلية القياس.


طيب، أين المشكل؟
كلما اتسع الفارق الزّمني بين النص الديني والواقع العيني، اتسعت مساحة الفراغ التشريعي، ومن ثم استعصى القياس. بل قد لا ينتج القياس إزاء اتساع الفارق الزمني بين النص والواقع غير السّخرية المرّة أحياناً. من قبيل حكاية " عشر رضعات للكبير " في مجال العلاقات بين الموظفين، أو " زوّجتك نفسي " في الحياة الجامعية، أو تلقي معونات من السفارات الأمريكية على أنها باب من أبواب الجزية، إلخ !
تلك أزمة الاجتهاد الديني اليوم والذي كثيراً ما يُدعى إليه ولا يُستجاب.
غير أن الوعي بأزمة صلاحيات النص بدأ منذ الوهلة الأولى، مع ظهور ما يُعرف بـ " أسباب النزول ". ذلك أن الجهد المبذول في تحديد أسباب النزول يفضح وعياً -مسكوتاً عنه- بمحدودية ما يُعرف بالأحكام الشرعية.


لماذا؟
عندما يُنظر إلى أي نص قانوني باعتباره تشريعاً كونياً وأبدياً وصالحاً لكل زمان ومكان، فمن العبث أن نبحث عن أسباب نزوله لغاية تفعيله. بل الرّاجح أن طابع الكونية والإطلاق يستدعيان تجريد النص القانوني إلى أبعد مدى ممكن من سياقه النزولي.
لكننا نضطر للعود إلى أسباب النزول عندما ندرك محدودية الحكم، فنحاول تجاوز تلك المحدودية عبر آليات القياس كما يفعل الفقهاء، أو عبر تعطيل الحكم "الشرعي" كما درجت عليه "العادة السرية" لجلّ المسلمين وإن كانوا قليلا ما يبوحون.
إننا نعلم أيضاً إن الإصرار على ترسيم القرآن كدستور إلهي هو محصلة مسار طويل من الانتقال من "إسلام الفطرة" إلى "إسلام النص". إنه مسار بدأ عقب وفاة الرّسول، حين تحولت آيات القرآن الرّباني إلى نص مُصحفي وَرَقي، وصار المصحف نصاً رسمياً، والنص سلطة مطلقة ومقيِّدة للعقل والجسد والوجدان.
في السياق ذاته، انتقل مركز الثقل داخل الثقافة الإسلامية من الذات الإلهية، حسب التوحيد الرّبوبي وتبعاً لمباحث علم الكلام، إلى النص الديني، حسب الإسلام النصوصي وتبعا لمباحث الفقه.
ومن دلائل العجز العلمي أن ينظر المسلم إلى القرآن كما لو أنه مغارة علي بابا، في داخله كل شيء؛ أو كأنه عصا موسى أو خاتم سليمان، بضربة سحرية يُقدم الحلول الناجعة لكافة المشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل يعتبره البعض ترياقاً شافياً أو رُقية واقية من الأمراض الجسمية والنفسية وحتى العقلية !


وهذا منتهى اللاّمعقول.
ولعل الصعود الانتخابي للإسلاميين في أول انتخابات حرّة بمصر وتونس -ليس على أساس أي برنامج تنموي- إنما يعكس هذا الرهان السحري على الحل الديني.
في المحصلة، انتقل القرآن الرّباني من آيات للتعبّد الرّوحي الخالص، وللصلاة الرّوحية المتحررة من مغريات السلطة وجشع المال، إلى نص كهنوتي مقدس وسلطة جبروتية قاهرة للعقل والوجدان.
وهذا ضربٌ الشرك.


ولذا، سأضع بعض الأوراق على الطاولة مكشوفة.
صدقاً، فكرة وجود الله (الواحد الأحد والذي لا إله إلا هو) فكرة نبيلة وجميلة، بل لعلها من أنبل وأجمل ما أبدع الفلاسفة والأنبياء على السواء، وهي أساس النزعة الإنسانية في الغرب، بل أساس النزعة العقلانية أيضاً. لكن الأسلوب الذي تناولت به كافة النصوص الدينية فكرة التوحيد الربوبي، لا يناسب في الغالب سوى المستوى الإدراكي والخلفية الأخلاقية والذوق الجمالي لإنسان العالم القديم : عالم المشكاة والعودج والقبيلة والسيف والطاعة والقصاص والجن والعفاريت والشياطين والسحرة والرقية.


المطلوب بالتالي، أن نخلص فكرة الله من لغة وثقافة وقيم ونصوص العالم القديم.
وإلاّ، ما معنى عبارة ( الله أكبر ) إن لم تكن تعني أن الله أكبر من كل الكلمات والأشياء، وأكبر من التراث والأصحاح والمصاحف، وأكبر من العالم القديم بخيره وشره؟
ما معنى عبارة ( وإليه ترجعون ) أو ( إلينا مرجعكم )، والتي تكررت في القرآن الكريم عدة مرات، إن لم تكن تعني أن لا مرجع دائم ولا مرجعية أبدية لأي شيء آخر إلا الله؟
بل، حتى الذات الإلهية نفسها هي أقرب إلى الصيروة منها إلى الثبات. ويكفينا دليلا أن الله يوصف في القرآن بأنه ( كل يوم هو في شأن ) الرحمان- 29. وربما نجازف قليلا بالقول إنه ما كان عرشه على الماء، إلاّ بنحو رمزي، لما يرمز له ركوب الماء من فقد للثبات، بخلاف اليابسة.
أيا يكن، فقد كان مبدأ الألوهية في العالم القديم يقوم على أساس العبودية، بما يعنيه ذلك من خنوع وخضوع وخشوع. وهذا ما كان ينسجم مع التركيبة النفسية لإنسان العالم القديم.
مثل هذا التجلي للألوهية لم يعد يناسب إنسان الحداثة.


ما نحرص على تأكيده هو أن تقديس النصوص الدينية –وهو تقديس لا يجوز لغير الذات الإلهية- قد حرم فكرة الله من ذلك الامتياز الشفوي الذي كان يسمح لها بأن تواكب النمو العقلي والمعرفي والأخلاقي للإنسان.
ولذلك، فإن انتقال فكرة الله في الإسلام من مستوى الخطاب الوحياني والآيات البَينات ذات الطابع الشفوي، كما تركها الرّسول الأمين قبل وفاته، إلى مستوى نص كتابي ثابت ومقدس ومحكم الإغلاق، قد جمّد الألوهية عند مستوى النمو العقلي والأخلاقي للحظة تدوين النص القرآني. أي، لحظة "مصحفة القرآن"، وفق تعبير المفكر العربي جورج طرابيشي.
بالجملة التّوكيدية نقول : إلهنا أو ربنا أو خالقنا -أو هذا الذي هو بلا تعيين وفق الرّؤى الأكثر دقة وإشراقاً- بات محتجزاً داخل سياج مفاهيم وتصورات نصوص تنتمي عموماً إلى العالم القديم، عالم القدامة.
لذلك، نؤكد ونردد بأن انتقال فكرة الله من عالم القدامة البائدة إلى عالم الحداثة المتجددة، مشروع نبيل وجميل أيضاً، لكنه يستدعي في المقابل قدرتنا على تحرير صورة الله من تصورات التراث، وتخليص مبدأ التوحيد الرّبوبي من شوائب تقديس وتأليه نصوص الموتى.


بمعنى أوضح، يتوجب علينا أن نُجمِّد أو نلغي أو نُعطل أحكام ما يُسمى بالشريعة، أو يكفي أن نسقطها بالتقادم.
هذا واجب أخلاقي، ومصلحة واقعية، وضرورة عقلية.
ولا غرو، إذن ( يبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) سورة الرحمان، الآية 27.