أخلاق الحداثة و-أخلاق- النفاق


سعيد ناشيد
الحوار المتمدن - العدد: 3792 - 2012 / 7 / 18 - 23:00
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

                                        
المدخل الأساس، بل الوحيد والأوحد، إلى الحداثة هو المدخل الأخلاقي. إذ لا حداثة فعلية من دون حداثة أخلاقية.
هذا الدرس ربما نسيناه أو تناسيناه، ظنا منا إن النص الديني يكفل لنا اكتفاءً ذاتياً لا يضاهى من الأخلاق، يكاد يبلغ حد التّخمة والتضخم. وهو الوهم الذي يرسخه عندنا صنفان من الناس :
أولاً، الأصوليون الانتكاسيون بكافة أصنافهم والذين يظنون إن الحداثة عمل لا أخلاقي مرفوض، ومن ثم يؤكدون الحاجة للعودة إلى الرّصيد الأخلاقي للنص الديني.
ثانيا، التقدميون السطحيون والذين يعتقدون إن كل القواعد الأخلاقية سواء كانت دينية أم عقلية، ليست سوى عائق أمام حرية الإنسان. لذلك يظن بعض هؤلاء أن الحداثة ( التي نريد ) بدأت فعلياً مع نيتشه، وليس سبينوزا أو روسو أو كانط.
درءاً للخلط، ثمة جزئية أساسية قد نغفلها إما في غمرة الفهم السطحي لفلسفة نيتشه، أو في سياق تجريم أو تكفير الحداثة : الحرية لدى سبينوزا وروسو ولوك وكانط ليست شيئا يقابل أو يعارض الأخلاق، كما هي نظرة القدامة والتي لم تترك لأنصار الحرية من هامش عدا التسوية بين مطلب الأخلاق ومطلب الحرية، وكأنهما خصمان متنازعان. بل، مع التأسيس الأخلاقي للحداثة، أصبحت الحرية شرطاً أولياً لأخلاق المواطنة والسلوك المدني. يقول كانط : " الإرادة الحرّة والإرادة الخاضعة لقوانين أخلاقية شيء واحد "[1].
تبسيط السؤال قد ينتهي إلى أجوبة تبسيطية. لذلك نوضح، ليست المشكلة مع أو ضد الأخلاق. وإنما السؤال، عن أي أخلاق نتحدّث، أخلاق المواطنين الأحرار والذين يتّفقون ويتعاقدون ويلتزمون بوعي وحرية ومسؤولية، أي أخلاق الحداثة السياسية، أم أخلاق الرّعايا والعبيد الخائفين والخانعين والذين يمارسون السياسة بغرائز الكيد والمكر والكتمان، أي أخلاق القدامة، من قبيل " فلتة السقيفة "، و" فتنة الخديعة "...؟
الردّ الحداثي واضح وصريح، إذ يقول سبينوزا : " لا يتصرف الإنسان الحر بمكر أبداً "[2].
لم يكن نيتشه يتقبّل قيم الغدر والخديعة والمسكنة. كانت مهمته تحرير المنظومة الأخلاقية الحداثية من الرواسب القدامية والتي قد تدمر طموح الفرد وتشل طاقته الحيوية وتصيبه بالخمول والتواكل. فقد كان نيتشه، عكس التأويل السطحي لمشروعه، يقدم درساً متقدماً في أخلاق التنوير، أخلاق الفرد الحر، المستقل، الطموح، المبادر، والمبدع.
مشكلتنا نحن المسلمين أننا بالفعل لا ننكر تخلفنا العلمي والتقني والصناعي والسياسي والحقوقي، إلخ، لكننا في المقابل ننكر تخلفنا الأخلاقي. بل نتوهم أننا أكثر شعوب الأرض أخلاقا، ونظن أن منطق " الحاكمية والعبودية لله " يغنينا عن أي تأسيس أخلاقي للحداثة؛ ففي " كلام الله " كل مقومات السلوك الحسن : ( بالوالدبن إحساناً )، ( أما السائل فلا تنهر )، ( العفو عند المقدرة )، ( عتق رقبة )، ( إطعام ستين مسكيناً )، ( الذين هم يُراؤون ويمنعون الماعون )، إلخ.
لكن الحقيقة أيضاً، إن هذه الأعمال الحسنة تناسب بالكاد مجتمعا قروياً بسيطا تُختزل علاقاته في عبارت مثل : " زوجتك ابنتي "، " أنت طالق "، " أنت عليّ كظهر أمي "، " أبسط يدك أبايعك "، إلخ. إنه مجتمع ما قبل بناء الدولة، وبالأحرى ما قبل بناء دولة المؤسسات بقرون طويلة.
المؤكد، إن العقل الأخلاقي البشري يتطور -بسرعة أحياناً- عبر مجرى التاريخ. لذلك فالكثير من الأفعال التي كانت مقبولة لدى القدماء، بل وتندرج ضمن تصورهم للخير والفضيلة، لم تعد كذلك اليوم.
في المجتمعات القديمة كان تزويج طفلة صغيرة دون سن الثانية عشر يعدّ فضيلة، كانت مشاركة أطفال دون سن الرّابعة عشر في الأعمال القتالية يعدّ بطولة وشهامة، كان القتل والاغتصاب أثناء الحروب والغزوات حقا من حقوق المنتصرين، كان تنفيذ عقوبة الإعدام أمام مرأى الجمهور نوعا من العدالة والإنصاف. لكن ضمائرنا اليوم لم تعد تتحمل مثل هذه الأعمال؛ فقد صرنا ميالين إلى تجريم الكثير من فضائل القدماء. ما يؤكد أن العقل الأخلاقي يتطور عبر التاريخ، ولا شيء يمنعنا من القول إنه يرتقي نحو الأفضل.
والمحصلة، إن المصدر الوحيد والأساس للتشريع الأخلاقي لا يمكن أن يكون أي نص ديني كيفما كان، طالما أن كل النصوص الدينية تعكس مستوى العقل الأخلاقي لعصرها، وإنما تحديد معايير الحكم الأخلاقي مهمة دائمة ومتجددة للعقل الأخلاقي البشري على وجه التّحديد. وبسبب ذلك نستطيع أن نقول بكل حزم وجزم : العقل هو المصدر الوحيد للتشريع. وهذا هو " سوء التفاهم الكبير " مع الحداثة السياسية.
وكمثال على ذلك، يقول سيد قطب : " ليس عبداً لله وحده من يتلقى الشرائع القانونية من أحد سوى الله "[3].
وإذ نرفض هذا الادعاء الأرعن، فنحن نؤكد مرّة أخرى أن ليس للقرآن من وظيفة غير الوظيفة التعبدية الخالصة. وهي أقوى وأتقى وأبقى وظيفة. وكل إقحام للقرآن في الأمور السياسية هو مجرد تدنيس لآيات " حمالة أوجه "، وتكريس لسياسة الخواء الأخلاقي.
فانطلاقا من معايير النص الديني، لا يمكنني أن أصدر أي حكم أخلاقي على تزويج طفلة من مغتصبها مثلا، لا يمكنني أن أصدر أي حكم أخلاقي على قاتل بالعمد يودّ دفع الدية لتجنب العاقب، لا يمكنني أن أصدر أي حكم أخلاقي على عقود عمل لا تضمن أي تعويض عن حوادث الشغل. لكن، إن كنت لا أعتبر مثل هذه "التسويات" عادلة ومنصفة، فلأني أنطلق من معايير أخلاق الحداثة.
لقد شاهدنا خلال ثورات الربيع العربي، كيف إن التيار السلفي -وبدرجة أقل التيار الإسلامي- لم يلتحق بالثورتين التونسية والمصرية إلا بعد نجاحهما في طرد " الإمام الجائر ". أما في الأول، لم يكف السلفيون ألسنتهم عن التشهير بثوار الفايسبوك والتويتر والقصبة والميدان. وما أن انتصرت الثورتان حتى أصبح السلفيون في طليعة الداعين إلى تعميم نموذج الربيع العربي، ولو بالعنف والإرهاب أحيانا، وصاروا في طليعة التحريض على إقصاء كل " فلول الأنظمة البائدة ".
اعتقد الكثيرون إن الأمر يتعلق ببوادر انقلاب سني في الموقف من الخروج والثورة. هذا خطأ؛ فالأمر امتداد لنفس الإيديولوجية البرغماتية القائمة على ثلاث مسلمات :
1-   إمام جائر خير من عدمه.
2-   عدم المشاركة في الفتنة ( أي عدم الخروج ).
3-   الصلاة وراء من غلب.
شاهدنا أيضا كيف أطلق الإخوان المسلمون أثناء الثورة المصرية وعداً بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية، لكنهم نكثوا في الأخير بهذا الوعد، وتقدموا إلى الرئاسيات بأكثر من مرشح واحد.
ولا عجب، إذ يحكي لنا تاريخ الإسلام كيف قامت الدولة الإسلامية، بمعزل عن أي نسق أخلاقي، على أساس الفلتة ( فلتة أبي بكر كما سماها عمر )، والخديعة ( خديعة التحكيم زمن معاوية )، والعصبية ( الأموية والعباسية والفاطمية ...).
لم يكتف فقهاء الإسلام بالتساهل مع الكذب، بل شرعنوه أيضا، فأجازوا كذب الأب على أبنائه لـ "مصلحة" الأسرة، وكذب السلطان على شعبه لـ "مصلحة" البلد، وكذب الفقهاء أنفسهم لـ "مصلحة" الإسلام. ساهم التراث الفقهي في شرعنة الكذب بدعوى "المصلحة". لكن، يقول كانط : " الصدق واجب مطلق أيا كانت الظروف"[4].
ثم، ساهم الفقهاء في بناء مجتمع الكراهية بدعوى ما يسمى بـ" الولاء والبراء ". لكن، يقول سبينوزا : " لا يمكن للكراهية أن تكون خيراً "[5].
لقد جاء الفقه الإسلامي ليعكس حجم الأزمة الأخلاقية داخل الفكر الديني الإسلامي. وهي الأزمة التي انتقلت ولا غرو،  إلى صفوف الحركة الإسلامية.
ولذلك، حتى آية الله العظمى محمد حسين فضل الله، والذي هو من أكثر الشيوخ والدّعاة صدقاً وتخلّقاً فيما يبدو، جاءت الكثير من فتاواه كاشفة لحجم الفراغ الأخلاقي داخل بنية الفكر الديني.
يقول في إحدى فتاواه : " يجب على المرأة الزّوجة أن تمكن زوجها من نفسها بأن لا تمنعه من ذلك إذا أراد "[6]. بل لا يتردد الشيخ في تجويز كذب الأب على أبنائه من أجل "المصلحة". إذ أنه في جواب عن سؤال لـ "أخ" من ألمانيا طلق زوجته الألمانية، وفي سبيل المحافظة على حضانة ابنتيه " يضطر أحيانا إلى أن يكذب على بناته من أجل تمرير بعض القضايا "، فكان جواب الشيخ : " يجوز ذلك في الفرض المذكور "[7].
لا شك أن أكذوبة "التفوق" الأخلاقي للإسلام تحرمنا من رؤية ضحالتنا الأخلاقية، والتي عادة ما نكتمها ونحجبها بثوب داكن من النفاق الديني والحشمة الكاذبة والحياء الماكر، لكنها تحرمنا أيضاً من إدراك الأسس الأخلاقية للحداثة. إذ لا حداثة فعلية من دون تأسيس أخلاقي للحداثة.
وهذا هو الدّرس الأهم لقوم يعقلون.
 


 إيمانويل كانط، تأسيس ميتافزيقا الأخلاق، ترجمة ع. الغفار مكاوي، منشورات الجمل، كولونيا (ألمانيا)، 2002، ص : 146.[1]
 باروخ سبينوزا، علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، تشرين الأول (أكتوبر) 2009، ص : 299.[2]
 سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق بيروت ودار الثقافة الدار البيضاء، 1993، ص : 94.[3]
[4] André Comte-Sponville, petit traité des grandes vertus, PUF 1995 , p : 300.
 باروخ سبينوزا، علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، تشرين الأول (أكتوبر ) 2009، ص : 274.[5]
 آية الله محمد حسين فضل الله، المسائل الفقهية، دار الملاك، بيروت، الطبعة الثامنة، 1998، ص : 433[6]
 آية الله محمد حسين فضل الله، المسائل الفقهية، دار الملاك، بيروت، الطبعة الثامنة، 1998، ص : 435[7]