إعادة بناء مركز التجارة العالمي


سعيد ناشيد
الحوار المتمدن - العدد: 1973 - 2007 / 7 / 11 - 10:08
المحور: الارهاب, الحرب والسلام     

هندسة الشعور بالذنب
-1 :من تأثيم الحداثة إلى هندسة التأثيم

إذا كان انهيار مركز التجارة العالمي بمدينة نيويورك، قد جاء صدى مدويا لنزعة معاداة الحداثة والعقلانية، فحسبنا أن نبين كيف أن إعادة بناء مركز التجارة العالمي، ووفق التصميم الهندسي الذي تمت الموافقة عليه، جاء ليصب في رصيد الجوقة المعادية للحداثة وللعقلانية، والتي يقودها اليوم المحافظون الجدد ورفاقهم القدامى في منظمة القاعدة.
كتب ا لمؤرخ البريطاني إيان كيشاو يقول:
"إذا أردنا أن نستخلص "الدروس"من تجربة الهولوكوست (النازي)، (...)فإن الأمر لا يقتصر على مجرد محاولة "تفسير" الهولوكوست بالعودة إلى تاريخ اليهود، أو إلى مجرد علاقة اليهود بالألمان، إذ لا بد من فهم الحالة المرضية التي تعانيها الدولة الحديثة، ولابد أيضا من مساءلة هذه الحضارة "(1)
تختصر هذه القولة المجهود الفلسفي لما بعد الحرب العالمية الثانية الرامي إلى مساءلة المشروع الحداثي العقلاني الأوروبي وتحميله مسؤولية إفراز مظاهر العنف التي طبعت القرن العشرين، فالعديد من كبار الفلاسفة راحوا يعتقدون أن المفاهيم الأساسية للأنوار، وعلى رأسها مفهوم التقدم، ومفهوم العقل، كانت وراء إفراز المشاريع التوتالتارية في شخص النازية والشيوعية.
وبفعل مآسي الهولوكوست، وفضاعات ستالين، تحولت تلك المساءلة والنقد إلى تأثيم وتجريم، سيما وأن الأمر يتعلق باللاوعي المسيحي حيث القابلية اللاشعورية للإحساس بالذنب، وهو الأمر الذي سيحسن المحافظون الجدد استثماره خاصة وأن وعيهم الديني(معظمهم يهود متطرفون) يختزل القدرة على التأثيم، وبين القدرة والقابلية جرى تبادل للأدوار في لعبة الهولوكوست، بين الجلاد والضحية على مستوى المناخ الفلسفي هذه المرة، وأيضا التيارات الاجتماعية والسياسية.
ولعل ما يبعث على الاستغراب هو حجم التأثيم الذي تتعرض له الحداثة من داخل الحقل الحداثي نفسه. والأمر بعيد كل البعد عن أخلاق الاعتراف ذات الأصول المسيحية، فنحن فعلا أمام تلك "الحالة المرضية" والتي يعبر عنها النزوع القوي لتأثيم الذات.
وعلى سبيل البدء، فبإمكاننا أن نلاحظ كيف ظل المسعى التأثيمي للحداثة ثاويا في خطاب الحركات البيئية. فبدعوى الدفاع عن البيئة باعتبارها هي الأخرى من بين ضحايا الاختيارات الكليانية، جرى أيضا، وعلى هذا المستوى، تجريم شامل لقيم العقلانية والتقدم، وكثيرون هم الذين جعلوا ديكارت آثما بسبب الفقرة السادسة من خطاب المنهج، والتي أعتبر من خلالها "الإنسان وكأنه سيد للطبيعة ومالك لها"، فأريد لكلمة "كأنه" أن تمسي دليلا على الجريمة الديكارتية في حق البيئة، ومن ثمة دليل الجريمة التأسيسية للعصر الحديث. وهو ما يتكامل مع تأثيم ليوستراوس لمؤسس الحداثة حين راح يعتبر ميكافيلي" السيد الأكبر للمعصية"(2). فهل جانب الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا الصواب حين ادعى"أن أوربا وبسبب الأنوار والمركزية الأوروبية، تعرضت ثقافتها للشلل أمام ضخامة التأثيم الذي تعرضت له"(3) ؟
يظهر من خلال هذا القول أن التأثيم ليس هو ما ينتقده ديريدا، وإنما "الأنوار"، أي قيم الأنوار فضلا عن المركزية الأوروبية، والحال أن جاك دريدا نفسه يذهب بالتأثيم إلى أقصى درجاته، حين راح يرفض عفو الضحايا عن الجناة في إحالة مضمرة إلى تجربة الهولوكوست.فقد قال بالحرف: " الضحايا وحدهم يمتلكون الحق الافتراضي في العفو، وأما إذا كانوا قد ماتوا أو اختفوا لأي سبب من الأسباب، فمعنى ذلك أن العفو قد أمسى مستحيلا"(4).
في هذا العصر والذي يبدو كما لو كان بمثابة عصر للمصالحة والإنصاف، عصر لنسيان جرائم الماضي، وعفو الضحايا عن الجناة و الجلادين من أجل المشروع الإنساني المشترك...لابد لهذا العصر من أن يحتفظ بالاستثناء الوحيد، وهم ضحايا تجربة الهولوكوست، والذين ما عاد إلا القليل منهم على قيد الحياة، إنه الاستثناء الذي يخدم قضية الحرب على المشروع الحداثي العقلاني الأوروبي، وهو الاستثناء الذي يريده البعض قاعدة للهجوم على تجارب المصالحة والإنصاف.
لقد هيأت روح العصر الأجواء للتبشير بإفلاس وعود عصر الأنوار وانهيار المشروع الحداثي العقلاني، وهو الأمر الذي مهد الأرضية أمام بروز عصر الأصوليات، سواء في أمريكا، في إسرائيل أو في العالم الإسلامي.
وليس من باب النباهة في شيء أن ننكر بأن تلك الروح المعادية لفكر الحداثة و الأنوار قد سرت حتى في جسد بعض الحركات اليسارية في أوربا، وحتى في فرنسا على سبيل المثال:
ولنقرأ ما كتبه مناضل فرنسي يساري بارز:
" إننا لا نعيش فقط نهاية تلك الحقبة المنطلقة عقب ثورة أكتوبر 1917، وإنما أيضا نهاية تلك الحقبة المنحدرة من فلسفة الأنوار، تلك الفلسفة التي أضفت على التقدم طابعا تراكميا يجعلنا قادرين على تأطير معاركنا اليومية ضمن مستقبل لن يكون إلا أفضل. وأما اليوم فقد أصبحت المرجعيات أكثر تعقيدا وانشطارا، وأما المستقبل فلم يعد بالإمكان حسمه إلا بمعارك جزئية تفتقد لأي ضمانات".(5)
كم هو جلي هنا الدرس الفوكوي (نسبة إلى مشيل فوكو) داخل الاختيارات الثورية التي تقدم نفسها على أساس أنها متحررة من"يوتوبيا التقدم" وجاحدة بفرضية "المعركة الأخيرة"، وغني عن القول أن هذا النمط من الخطاب يستبد بأذهان أبرز منظري ومناضلي ما يسمى بالعولمة البديلة (Altermondialisme). هؤلاء، قد أعلن ديريدا، قبيل وفاته, تعاطفه معهم.(6)
عقب الحرب العالمية الثانية، بدت الأجواء ملائمة لانتشار ذلك التأويل الذي يقضي باعتبار مآسي الهولوكوست وفضا عات ستالين، هي المحصلة النهائية للمشروع الحداثي و العقلاني، وانتهى الأمر إلى أن أصبح كل نقد حتى لما يفترض أنه من مظاهر معاداة الحداثة، ليس سوى نقد للحداثة نفسها، وقد وصل الأمر مع ديريدا إلى الحد الذي أصبح فيه ابن لادن نفسه إفرازا للنسق الحداثي العقلاني.(7)
على أن موقف جاك ديريدا لم يأت معزولا عن مجمل النقاش الفلسفي الدائر داخل الحركات الاجتماعية الأوروبية، فبإمكاننا أن نقرأ ما قاله ماثيوبوت – بونفيل (Mathieu potte Bonneville ) رئيس تحرير مجلة فاركام (varcame) في حوار مع جريدة بولتيس (politis) اليسارية الشهيرة. سنجده يدعو للعودة إلى قراءة مشيل فوكو، إذ من شأن ذلك حسب رأيه أن يعيننا على فهم تجربة السجن و الاعتقال بل وفهم ظاهرة غوانتانامو أو سجن أبو غريب، باعتبارها من مظاهر المشروع الحداثي، بحسب ما يدعيه.(8)
هكذا، لا يبقي لنا بونفيل من أمل، إذا رغبنا في توجيه بعض النقد لحروب المحافظين الجدد، سوى أن نشاركهم استراتيجيتهم الفلسفية في نقد وتأثيم الحداثة.
في لقاء خطابي يوم 8 ماي 2004 وقف جاك ديريدا بقصر الرياضة بباريس ليقول:
"يبدو لي دون أية أوهام أو ادعاءات أورومركزية، ومن دون أية نزعة قومية أوروبية، ولا بالأحرى كبير ثقة في أوربا كما هي الآن وكما يتم بناؤها، أن علينا أن نناضل في سبيل ما يعبر عنه اسم الأنوار، من خلال ذاكرة الأنوار، بالطبع، لكن مع الحفاظ أيضا على مشاعر الإحساس بالذنب والاعتراف به، وذلك بسبب جرائم الأنظمة الشمولية، و الابادات الجماعية، وتجارب الاستعمار "الماضية".(9)
لعل الحداثة وجدت نفسها في الأخير أمام لائحة اتهام تضمنت كل شيء:الاستعمار، تخريب البيئة، الهولوكوست، معاداة السامية، الإرهاب"الإسلامي"أسلحة الدمار...وحتى طرد المحتجبات من المدارس الفرنسية ...ولم يتوان جاك ديريدا عن جعل منع تعدد الزوجات هو الآخر ضمن اللائحة الطويلة وغير المبررة لتأثيم الحداثة وتجريمها، ففي حوار معه حول مسألة (زواج المثليين) صرح داعية التفكيك يقول: "لو كنت مشرعا لاقترحت بكل بساطة إلغاء كلمة ومفهوم الزواج من قانون يفترض أنه مدني وعلماني"(10)
إلى هنا قد لا يكون كلام ديريدا سوى إخبار بإحدى اتجاهات التطور الممكنة، لكننا سنكتشف في الحال، أن الأمر يتعلق باستراتيجية لتقويض الحداثة وليس للدفاع عنها، يقول:"إن الزواج" كقيمة دينية مقدسة، وكرابطة جنسية بين ذكر وأنثى- بنية الإنجاب و الإخلاص الأبدي.... ليس ذلك إلا إرث ورثته الدولة العلمانية عن الكنيسة المسيحية، على اعتبار أن الأمر يتعلق بالزواج الأحادي (monogamisme) وهو ما لا يدخل ضمن عادات اليهود (فلقد فرضه الأوربيون على اليهود- والكلام دائما لديريدا – خلال القرن الماضي...)، و لا هو من عادات المسلمين، وهذا الأمر معروف . (11)
هكذا لم يتردد داعية التفكيك في استدعاء حتى بعض العناصر الثقافية المهزومة أصلا أمام الحداثة، من أجل اعادة توظيفها ضمن المشروع التفكيكي للحداثة، يقول في هذا الصدد: "نتخلى إذن عن كلمة أو مفهوم"الزواج" وبالتالي عن اللبس أو النفاق الديني أو القداسي، والذي من المفروض ألا يكون له موقع داخل دستور علماني، وبدل ذلك نستخدم كلمة "الرباط ألمدني" (union civile) التعاقدي، كنوع من الميثاق... بين شركاء بصرف النظر عن جنسهم أو عددهم. (12)
يظهر أن الأمر كما لو كان يتعلق بمخرج " لما بعد الحداثة" من أجل رد الاعتبار لتعدد الزوجات لدى اليهود أو المسلمين، ورفع الإحراج الذي فرضته الحداثة على اليهود والمسلمين، وذلك ب (.... صرف النظر عن عددهم). فهل نكون مخطئين إذن حين نقول بأن نزعة معاداة الحداثة و العقلانية لم تفسح من طريق آخر سوى طريق الأصوليات الدينية؟ !
غني عن التذكير إذن أن الجو الفلسفي العام الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، وتحت صدمة مآسي الهولوكست النازي والرعب الستاليني، انخرط في حرب مفتوحة على مفاهيم عصر الأنوار والحداثة وذلك مقابل التسامح غير المسبوق مع الأديان والتي استفادت أيضا من صفة الضحية، وإن كان القرن العشرين يوسم أحيانا بأنه القرن الذي انتهى إلى لا شيء، فلا شك أن هذا الحكم يبدو أكثر جلاء من وجهة نظر تاريخ الفلسفة.

- 2: هندسة الشعور بالذنب:
في عام 1919 بألمانيا، قام المهندس المعماري الألماني والتر كروبيوس (Walter cropius) بتشييد معهد لدراسة فنون المعمار، أطلق عليه اسم الباوهاوس (Bauhaus)، وعقب وصول هتلر إلى السلطة اضطر ذلك المعهد، والذي ما انفك يستند إلى البعدين العقلاني والاجتماعي في عملية البناء، إلى أن يغلق أبوابه أمام حملات القمع النازية. ثم فر أبرز أساتذة وطلبة المعهد إلى الخارج، فمنهم من لجأ إلى الاتحاد السوفياتي، ومنهم آخرون لجأوا إلى دول أوروبية أخرى، وبعضهم فضل الدهاب لإسرائيل، وقصد بعضهم الآخر، من ضمنهم مؤسس المعهد، الولايات المتحدة الأمريكية. ومع انتشار معظم رواد أساتذة الباوهاوس في مختلف أرجاء المعمور، فقد انتشرت أيضا أفكارهم الأساسية، مستفيدين من صفة ضحايا القمع النازي والتي كانوا أول من حملها.
لقد استطاع المعهد المنكوب أن يتحول إلى تيار بات الأبلغ أثرا والأكثر تأثيرا في معمار القرن العشرين، ويقوم على مبدأ الاستجابة والتجاوب مع كل من البعد العقلاني والبعد الاجتماعي اللذين طبعا كلا من المناخ الفلسفي السائد وقتها وكذا المناخ الاقتصادي المستند إلى عقلانية كينز وفورد ودولة الرعاية الاجتماعية.
ولذلك، نجد مظاهر الباوهاوس تتميز بطابع التسلسل التكعيبي التكراري على مستوى البناء الواحد أو الأبنية المتعددة، سواء بشكل أفقي أو عمودي، مما كان يستجيب لاحتياجات المشروع العقلاني ذي المضمون الاجتماعي والذي كانت أوروبا ماضية فيه إلى غاية السنوات الأخيرة، أي انهيار ما يسمى بدولة الرعاية الاجتماعية.
فضلا عن الطابع العقلاني الذي وسم هندسة الباوهاوس، فإنها قد نجحت أيضا في الجواب عن الأبعاد الاجتماعية مثل مساكن العمال، المساكن الوظيفية، ناطحات السحاب... إلخ.
لقد كان برجا مركز التجارة العالمي المنهارين يمثلان إحدى أهم ثمرات تيار الباوهاوس في الفن المعماري، فالبرجان التوأمان ظلا عبارة عن مدينتين عموديتين ومتوازيتين وفق النمط الأوقليدي، تتجه شوارعهما نحو الأعلى بأزيد من 200 مصعد كهربائي، وفي امتداد عمودي وتسلسل تكراري وتكعيبي يخاطب العقل بالأساس و يعيد صياغة الزمان والمكان وفق احتياجات المشروع العقلاني ذي البعد الاجتماعي. لقد انتهت اعتداءات الحادي عشر من شتنبر الى اختفاء البرجين المتوازيينن وربما كان الأمر يتعلق باستراتيجية هندسة الرقم 11. إلا أن المؤكد أنه قد سبق دلك الانهيار المعماري انهيار المناخ العقلاني والاجتماعي الذي جاء مركز التجارة العالمي ثمرة من تمراته.
لذلك سيكون التصميم الهندسي الأوفر حظا ضمن مقترحات إعادة بناء مركز التجارة العالمي، هو الأقدر على التعبير على المناخ الجديد الذي لم يعد يستجيب أو يتجاوب مع احتياجات المجالين العقلاني والاجتماعي.
في يوم 09 شتنبر 2001، أي قبل يومين من الواقعة، جرى حفل افتتاح المتحف اليهودي ببرلين. يتعلق الأمر بإحدى أهم معالم ما يسمى بالنزعة التفكيكية في الفن المعماري (Déconstructivisme)، والتي يعد مهندس المتحف دانيال ليبسكيند من أبرز مؤسسيها. وكان من المقرر أن يفتح المتحف المذكور أبوابه للجمهور بعد يومين أو ثلاثة أيام من حفل الافتتاح، إلا أن واقعة 11 شتنبر والتي شهدتها مدينة نيويورك قد أدت إلى تأجيل ذلك بضعة أيام أخرى. وكان مجد آخر في انتظار ليبسكيند.
تقوم النزعة التفكيكية في الفن المعماري، شأنها في ذلك شأن النزعة التفكيكية في الأدب والفلسفة، وربما بشكل أقوى، على فرضية إفلاس المشروع الحداثي، العقلاني والانواري، وهو إفلاس تشهد عليه جرائم الابادة ، الاستعمار، تدمير البيئة، وفوق دلك جرائم الهولوكوست. ولذلك تعتبر النزعة التفكيكية أن ضحايا مآسي الهولوكوست هم أيضا ضحايا قوى سياسة آمنت بالمشروع العقلاني ووعود الأنوار.
ونظرا للأثر الكبير لمظاهر المعمار سواء في أذواق الناس ، في مشاعرهم وفي أفكارهم، فإن الهندسة المعمارية، تصبح بالنسبة للتفكيكيين وأنصارهم، إحدى أهم وسائل وطرق "تحرير" الناس وتخليصهم من قيم العقلانية والأنوار، والتي لم تنته حسب زعمهم سوى إلى مآسي الهولوكوست النازي.
لذلك فقد اتسمت المرحلة التأسيسية للمعمار التفكيكي، منذ سنوات الثمانين و التسعين ، ببناء المتاحف اليهودية في كبريات مدن العالم، وقد كان دانيال ليبسكيند نفسه وراء غالبيتها العظمى.
قبيل واقعة 11 شتنبر، أي مباشرة عقب وصول جورج وولكر بوش إلى السلطة عام 2000، تمكن المحافظون الجدد في مرحلة أولى، من السيطرة على أهم مناصب وزارة الدفاع الأمريكية، وهم يلتقون مع النزعة التفكيكية في القول بإفلاس المشروع الحداثي العقلاني، وسوف لن يكون ثمة إذن أفضل من المهندس المعماري دانيال ليبسكيند لترجمة الأفكار إلى لغة الأحجار.
بين 10 و 14 شتنبر 2003، وبمناسبة الذكرى الثانية لافتتاح المتحف اليهودي ببرلين، والتي صادفت الذكرى الثانية ل 11 شتنبر، أقام دانيال ليبسكيند معرضا داخل المتحف المذكور، عرض من خلاله لأول مرة أمام الجمهور، التصميم الذي سبق أن اقترحه لإعادة بناء مركز التجارة العالمي وحظي بالفوز.
وإذا كانت إعادة البناء لا يمكن أن تتم إلا بعد الهدم، فإن الأمر بالنسبة لمركز التجارة العالمي لا يتعلق بمجرد إعادة بناء من حيث هي محو لآثار الهدم وانتصار عليه، وإنما يتعلق الأمر بتخليد لحظة الهدم وتأبيد تجربة الانهيار، بل وبالأحرى، فإن الأمر يتعلق بإعادة الهدم أكثر من إعادة البناء.
بتاريخ 4 يوليوز 2004، وفي غمرة الاحتفال بذكرى يوم الاستقلال في أمريكا، تم وضع الحجر الأساس لأولى البنايات، ضمن خمس بنايات زجاجية، ستؤلف، في مجموعها، مركز التجارة العالمي الجديد، على مساحة تقدر بحوالي 6.4 هكتار، أطلق على هذه البناية اسم برج الحرية (Freedom Towr)، ويبلغ طولها 541 مترا، وهو ما يوازي 1776 قدما، رقم أراده المهندس المشرف على المشروع أن يحيل إلى تاريخ استقلال الولايات المتحدة الأمريكية.
غير أن أهم ما يثير الانتباه، هو أن برج الحرية هذا، سيتخذ في الأعلى شكل سهم زجاجي ضخم بطول 82 مترا وبارتفاع غير مستقيم، حيث أنه يميل قليلا في اتجاه الغرب. طبعا فالزجاج يفتح إمكانية الخروج عن الطابع الهندسي الاوقليدي للأشكال التي تعتمد في العادة على الاسمنت والحديد، لكن الرسالة تكمن أيضا في أن الأشكال المستقيمة والزوايا القائمة ، ليست قدرا حتميا في عملية البناء. من المنتظر أن يكون برج الحرية، عقب الانتهاء من أشغال بنائه أعلى بناية في العالم (في انتظار أن يكتمل بناء برج دبي)، أو على الأصح أعلى بناية فوق النمط المسمى بالمعمار التفكيكي.
قبل أن يقوم المهندس الشهير دانيال ليبسكيند بوضع تصميم إعادة بناء مركز التجارة العالمي، فقد سبق أن أشرف، خلال سنوات التسعين، على بناء العديد من المتاحف اليهودية في كبريات المدن والعواصم العالمية. فسواء في برلين، أو براغ، أو سان فرانسيسكو، أو مانشيستر أو غيرها، نجد هناك سلسلة من المتاحف التي تخلد لمآسي الهولوكوست، وقد بناها ليبسكيند على نمط المعمار التفكيكي Déconstructivisme، والذي يعد من أبرز مؤسسيه رفقة بيتر ايزنمان، وقد قامت النزعة التفكيكية عموما، وداخل مجال الهندسة المعمارية على وجه الخصوص، على فرضية ضرورة إحداث القطيعة مع المشروع الحداثي العقلاني، هذا الأخير تعود جذوره إلى العصر اليوناني، مع حضارة أثينا، مرورا بعصر الأنوار، وانتهاء إلى الهولوكوست والمشاريع الكليانية بحسب المعتقد التفكيكي.
لنتأمل المتحف اليهودي ببرلين (الصورة 3)، إن الأمر هنا يتعلق بمعلمة كبرى من معالم المعمار التفكيكي: حيث تنعدم الخطوط المستقيمة، لا أثر للزوايا القائمة، لا وجود للمتوازيات. الوجود هنا غير يوناني، فالإله لم يخلق العالم بالمسطرة والبركار كما جرى في اعتقاد العقلانية المنحدرة من أثينا. هناك حقيقة نزداد بها اقتناعا كلما نفذنا إلى داخل المتحف المذكور؛ إذ حتى الثنائيات الارسطية الأكثر بداهة تكاد تنعدم، حيث يصعب على الناظر في الداخل أن يميز بين ما يقع في القمة وما يقع في التحت، بين ما يوجد في الداخل وما يوجد في الخارج، بين ما يكون هو الأعلى وما يكون هو الأسفل... الأمر يتعلق بتجربة الإحساس بالتيه والدوار وانعدام اليقين الذي ينظر إليه باعتباره أصل المشاريع الشمولية والعنف، ومع كل هذا، فلا شيء يوحي بالاكتمال، إذ كل شيء هناك يشبه ركاما من الانكسارات، الشقوق والفراغات المأثمية، وفضلا عن ذلك ثمة ثقب كبيرة داخل المتحف من اجل تخليد ذكرى من غيبتهم تجربة الهولوكوست ومعتقلات النازية. فإذا كانت الطبيعة تخشى الفراغ، عند اليونان وعند أرسطو على وجه التحديد، فإن الخلفية الفلسفية لمعمار ليبسكيند تقوم على رد الاعتبار لوجود الفراغ.






أما في الواجهة الخارجية للمتحف، حيث لا يستطيع الناظر أن يحدد عدد الطوابق، فهناك ترتسم صورة نجمة داوود منكسرة ومنشطرة، كأنما أقيمت من أجل التذكير بالمأساة (الصورة 3).





إن ما نجده في المتاحف اليهودية، التي أشرف علي بنائها دانيال ليبسكيند، من تمرد على العقلانية، هو تأبيد للحظة المأساة وترسيخ للتأثيم، من خلال ترسيخ أثر الفقد والغياب، من خلال الفراغات المأثمية والانكسارات، فذلك هو المبدأ الأساسي الذي حدد استراتيجية إعادة بناء مركز التجارة العالمي. ويمكننا أن نستخلص ذلك البعد المأثمي و التأثيمي من خلال ثلاثة أمثلة:
1- سيبقى مكان كل من البرجين المنهارين فارغا، وسيتم تحويل مكان البرجين إلى حوضين كبيرين يحملان اسم (Reflecting Absence)، وذلك من أجل ترسيخ أثر الفقد وتخليد ذاكرة الغياب (الصورتان 1 و 2).


التصميم الذي وقع عليه الاختيار من اجل إعادة دنيا ل ليبيسكيند يستعرض تصميمه
بناء مركز التجارة العالمي لإعادة بناء مركز التجارة العالمي

2- سيقام متحف وطني، داخل ساحة مركز التجارة العالمي الجديد، يضم بعض أشلاء وأشياء الضحايا.
3- صبيحة كل يوم 11 شتنبر من كل سنة، وبين الساعة 8:46 صباحا (توقيت الضربة الأولى) والساعة 10:28 صباحا (وقت انهيار البرج الثاني) سيختفي ظل الشمس عن مجموع ساحة مركز التجارة العالمي الجديد.
لا يتعلق الأمر بمجرد إعادة البناء والتي تعقب كل هدم، وإنما باستراتيجية الحرب على المشروع الحداثي العقلاني. ولذلك نفهم كيف يحاول جاك ديريدا أن يجعل الجلاد والضحية في عملية 11 شتنبر كلاهما جزء من النسق الحداثي العقلاني، ولذلك نفهم أيضا أن الفاعلين الأساسيين داخل المشروع الأمريكي اليوم، إما أنهم ناجون أو أبناء ناجين من الهولوكوست: دانيال ليبسكيند، بول وولفويتس (مدير البنك الدولي والنائب السابق ووزير الدفاع الأمريكي)، طوم لانطوس (العضو الأبرز داخل مجلس الكونكريس)، ليوستراوس (الفيلسوف المرجعي للمحافظين الجدد)، وآخرون.
يقول فيلسوف التفكيك "جاك دريدا " في إحدى حواراته:" إن العفو Le pardon الذي يؤدي إلى النسيان...لا يمكننا أن نعتبره عفوا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى .إنما يستدعى العفو الحفاظ على الذاكرة قوية وفعالة"(13) وفضلا عن ذلك يضيف ديريدا، إن "الضحايا وحدهم يمتلكون الحق الافتراضي في العفو، غير أنهم إذا كانوا قد ماتوا أو اختفوا لأي سبب من الأسباب، فمعنى ذلك أن العفو أمسى مستحيلا".(14)
لا شك أن الإحالة هنا إلى مأساة الهولوكوست و إلى ضحايا تلك المأساة واضحة، ولذلك قامت النزعة التفكيكية في الفن المعماري مع رائدها الأبرز دانيال ليبسكيند، على أساس تخليد أثر الفقد والنجاة من الموت، أو ما يسميه ديريدا بالعزاء الأصيل (Deuil originaire).(15)
إننا من منظور النزعة التفكيكية، لسنا سوى ناجين من تجربة الموت أو العنف الذي أنتجته الحداثة والعقلانية مع هتلر، ستالين، الحرب العالمية الثانية، الحرب الباردة، تدمير البيئة... ومن أجل الذين لم يعودوا بيننا، فإن الثورة الدائمة على المشروع العقلاني و الانواري تصبح واجبا أخلاقيا على الذاكرة، وهو ما تسميه الصحافة الأوروبية اليوم، كلما تحدثت عن مآسي ما بعد وصول هتلر إلى السلطة، بواجب الذاكرة (Le devoir de la mémoire). وهو بالأساس، رهان النزعة التفكيكية في معاداة المشروع العقلاني والحداثي الأوروبي.
يمكن أخيرا التذكير بأن الذين دافعوا منذ البداية عن التصميم الهندسي المناهض للعقلانية والذي اقترحه دانيال ليبسكيند من اجل إعادة بناء مركز التجارة العالمي، فضلا عن المهندس المعماري، هم يهود متطرفون وموالون لليمين الإسرائيلي، على رأسهم عمدة مدينة نيويورك وقتها مايكل بلومبورغ (M.Blomberg)و لاري سلفرشتاين (L.silverstein) ، وهو الذي تعود إليه ملكية مركز التجارة العالمي، وآخرون.
يمكن أن نستخلص في الأخير، بأن هناك نزعة أصولية كانت وراء تدمير مركز التجارة العالمي، وإلى جانبها نزعة أصولية أخرى مسنودة بالمناخ الفلسفي العالمي، هي التي تكفلت بإعادة بنائه.




الهوامش
(1)- Dominique vidal, le monde diplomatique,mars2005
(2)leo strauss ,qu est ce que la philosophie politique, traduit par olivier sedeym , éditions PUF,1992,p:45.
(3) le monde ,18 août 2004
(4) le monde de l éducation , septembre2000
(5) cristophe aguiton , ATAC contre la dictature des marchés , éditions syllepse,1999,p:125
(6) le monde 18 août 2004
(7) le monde diplomatique, février 2004
(8) politis , 24 juin 2004
(9) le monde diplomatique, novembre 2004
(10) le monde 18 août 2004
(11) le monde 18 août2004
(12) le monde 18 août 2004
(13) le monde de l éducation, septembre 2000
(14) ibid
(15) le monde,18 août 2004

*

من إصدارات الكاتب:
* ماوراء الإرهاب، الفلسفة و ظاهرة الإرهاب العالمي
*اليسار الفرنسي و الإسلام