في حاجة أرض الحرَمين إلى الإصلاح الديني


سعيد ناشيد
الحوار المتمدن - العدد: 3806 - 2012 / 8 / 1 - 08:51
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

وأنا على غير عادتي، أنصت هذه الأيام إلى عدد من الدّعاة والوعاظ السعوديين وأشاهد بعض البرامج الدينية السعودية، خرجتُ بخلاصة أولى. وهي أن الغوغائية الدينية تعتمد تقريباً أو دائماً على نفس التكتيك الدّعوي، منذ قرون مضت وإلى غاية اليوم. إذ أنها لا تتردّد في استغلال فرصة وجود ملك نافذ هنا أو أمير طموح هناك، به تستقوي وبها يستغلب. ليس لها من برنامج غير " الحرب المقدسة "، بالسيف، أو باللسان على أضعف الإيمان، ضدّ من؟ ضدّ المثقفين، وضدّ النساء، وضدّ الأقليات. وليس لها من وسيلة غير تجييش الشعوب وتهيج الجموع واستلاب وعي الناس لغاية تبديد طاقاتهم في غزوات غوغائية على الثالوث المحرّم : العقل (الفلسفة) والمرأة (الحريم) والأقليات (أهل الذمة). إنه نفس الثالوث المحرَّم ونفس الكهنوت المحرِم ونفس الجهلوت المستفحل، باختلاف الأسماء وتطابق السمات، منذ الانغلاق اللاّهوتي الذي أحدثه الخليفة العباسي المتوكل بسند من إمام العوام ابن حنبل.
هذا بالتمام وبالكمال، هو نفس المجهود الذي تبدله اليوم كل من الغوغائية الإسلاموية في علاقتها مع الأمير الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، والغوغائية السلفية وهي تحاول استغلال العلاقة مع بعض الأمراء الموصوفين بصقور التشدد الوهابي.
وأنا أستمع إلى عدد من رجال الدين السعوديين، خرجت بخلاصة ثانية. وهي أن الغوغائية الدينية تقذف بالإنسان المسلم في جحيم من الحيطة والحذر والخوف والتوجس من كل شيء؛ من الفلسفة أن يغريه كفرها، ومن المرأة أن يغويه سحرها، ومن الشيعة أن يزعزعوا عقيدته، ومن الأقليات أن يوالوا أعداءه ويعادوا أولياءه، ومن السفارات والسياح وحتى من عابري السبيل أو عابري الثقافات. بل، يتوجب عليه أن يجتنب طوال الوقت معاشرة المثقفين، وأن يتبرأ كل يوم من العلمانيين، وأن يتوجس باستمرار من وجود مؤامرات تحاك ضده، وأن يحذر على الدوام من تلبيسات إبليس ومكائد النساء وطلائع الفتن ما ظهر منها وما بطن، عساه ينجو في الدنيا والآخرة إن هو استطاع إلى النجاة سبيلا. وبهذا النحو، ينشأ مناخ عام من العصاب الوسواسي، والذي هو المناخ المسؤول في الأخير عن إنتاج الإرهابيين والمتطرفين.
دعونا نعترف بأن الذين يفجرون أنفسهم اليوم في المزارات والأضرحة الشيعية بالعراق، أو داخل بعض المواقع السياحية في آسيا أو غيرها، أو حتى الذين فعلوها سابقا في حي مانهاتن بنيويورك، ليسوا في آخر التحليل سوى ثمار مرة لخطاب ديني غوغائي يجعل المسلم يشعر وكأنه يعيش وسط جحيم لا يطاق من الأعداء الحاقدين عليه، ومن الخصوم المتآمرين ضدّه.
وأنا أستمع إلى عدد من رجال الدين السعوديين، خرجت بخلاصة ثالثة. إذ ظننت –وبعض الظن إثم- أن المسلمين قد توقفوا فجأة عن القيام بأي إرهاب ديني أو عنف عقائدي أو جريمة بتفويض إلهي. لكننا، بعد أن نجونا من آفة الإرهاب (والحمد لله !) أصبحنا نواجه موجة تسونامي إلحادية تضرب العالم الإسلامي طولا وعرضاً، وتجتاح أرض المملكة العربية السعودية، ولعلها بلغت منطقة الحرمين، كما يردد الكثير من الدعاة التلفزيين والوعاظ الاستعراضيين.
يحاول هذا الخطاب، بنحو ماكر وأرعن أيضاً، أن يحرج السلطات المدنية في السعودية –كما يفعل مع سائر ملوك وروؤساء العالم الإسلامي- بادعاء وجود حالات ردة بلا وازع ولا رادع. ويحاول أن يقنع الجميع بأن الإرهاب الذي خرج بعضه من أرض الحرمين قد مات ميتة الجاهلية. ومن ثمة لا ضرورة ولا مشروعية لأي حديث عن الإصلاح الديني أو اللاهوتي. والنتيجة، لا حاجة إلى مواجهة المتشددين في الدين، لكن كل الحاجة إلى مواجهة المتشككين في الدين. وهو ما يستدعي شحذ سيوف التكفير مجدّداً، وإطلاق ألسنة الدعاة بلا حسيب ولا رقيب.
المشكلة، أن هذا الخطاب، يحاول أن يوهمنا بأن وجود آلاف من الدّعاة والوعاظ والخطباء، ومعهم آلاف من أعضاء لجان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، موزعين في شتى مناطق وربوع المملكة، هو عدد لا يكفي في مواجهة تسونامي الإلحاد الذي يضرب الأراضي المقدسة، وأننا سنحتاج إلى مضاعفة العدد، حتى ولو صار لدينا واعظ ومطاوع على رأس كل مواطن ! أي نعم، لعله منتهى العبث والاستخفاف بالألباب. بل هو الغثاء الأحوى.
دعونا نقول : أرض الحرمين، باعتبارها أضخم آلة لإنتاج الخطاب الديني الإسلامي، هي الآن أمام مفترق طرق حاسم. إما أن تستمر في إنتاج خطاب إسلامي ينجب مسلمين خانعين خائفين متواكلين متوجسين من الآخر ومن المختلف دينياً وجنسياً وفكرياً، وليكن بعدها ما يكون من نتائج يتكفل بها الأمن الداخلي أو قوات المارينز؛ وإما أن تتحول إلى إنتاج خطاب ديني جديد، يكون قادراً على إنجاب مسلم طموح، مبدع، مسؤول، متصالح مع عصره، يعيش القرن الواحد والعشرين بثقة في الذات ورغبة في الرقي والإبداع، ومن دون خوف وبلا توجس. وبالمختصر المفيد، على مملكة الدعاة أن تحسم اختيارها بين إسلام العجائز والعبيد والقتلة والأموات، وبين إسلام الأحرار والطموح والإبداع وإرادة الحياة.