تحالف الأصوليات


سعيد ناشيد
الحوار المتمدن - العدد: 1974 - 2007 / 7 / 12 - 10:08
المحور: الارهاب, الحرب والسلام     

حسنا فعلت جريدة لوموند ديبلوماتيك ، حين وقع اختيارها على كل من الفيلسوف الألماني هابرماس و الفيلسوف الفرنسي ديريدا لكي تطرح عليهما سؤال الوقت : ما هو الإرهاب ؟ (1) بذلك تكون الجريدة قد أدرجت مشكلة الإرهاب ضمن تاريخ الفلسفة, لكنها أيضا, ومن خلال انتقائها لكل من داعية الحداثة (هابرماس) و داعية التفكيك ،أي تفكيك الحداثة, (ديريدا) ، تكون الجريدة قد تمكنت من تقديم خلاصة سجال فكري شهدته أوروبا عبر تاريخها وظل يقسمها إلى خطين متوازيين يتجاذبان ويتقاطبان إلى اليوم.

إذا كان هابرماس يعد من الفلاسفة القلائل الذين لم تأخذهم رياح ما بعد الحداثة و لم تستهوهم مغرياتها، فظل صامدا في جبهة الدفاع عن مشروع الحداثة و عن مشروعية الأنوار، فإن ديريدا يعتبر من ابرز ممثلي المناخ الفلسفي العام الذي ساد عقب الحرب العالمية الثانية وتميز بمعاداة الحداثة و التبشير بإفلاس قيم عصر الأنوار.
في تقديمها لنصي الحوار، عرضت الجريدة خلاصتها على النحو التالي: « إذا كان هابرماس ينظر إلى الإرهاب باعتباره نتيجة الصدمة الناجمة عن عملية التحديث المتسارعة في كافة أرجاء المعمور، فإن ديريدا يعتبر الإرهاب محصلة العنف الذي تنتجه الحداثة وهي ترسخ في الأذهان نظرة مرضية إلى المستقبل باعتباره وعد، أمل وشيء يثبت ذاته بذاته "(2).

لعل إجراء محاورتين مع كل من هابرماس و ديريدا، يضعنا أمام رهانين لقراءتين مختلفتين لظاهرة الإرهاب؛ ففي الوقت الذي تفترض فيه مقاربة هابرماس أن القضاء على الإرهاب لن يتأتى دون المضي قدما في مغامرة استكمال المشروع الحداثي و الأنواري، فإن مقاربة ديريدا تفترض أن القضاء على الإرهاب يعني القضاء على الحداثة، وأن تقويض فكر الإرهاب يعني بالأساس وبالأولى تقويض فكر الحداثة.
ربما قد نجد أنفسنا، كعرب و مسلمين, ميالين إلى مقاربة ديريدا، على الأقل لأنها ترفع عنا بعض الحرج و تضمن لنا شيئا من الإنصاف و تبرئة ذمتنا و ذمة ثقافتنا من تهمة إنتاج الإرهاب و إفراز دواعيه. لكن؛ ألسنا في حاجة إلى المشروع الحداثي و العقلاني بنفس القدر الذي نحتاج فيه إلى الإنصاف ؟ إن هذا السؤال يضعنا وجها لوجه أمام إحدى أكبر معضلات الفلسفة في الوقت الراهن، ذلك أن المشهد الثقافي الغربي اليوم معرض لهيمنة إستراتيجية ثقافية كبرى تدعمها تيارات و تسندها اتجاهات في جميع حقول الفكر و الإبداع. بموجب تلك الإستراتيجية يكون لزاما علينا ألا نقوم بأي تقييم و لا نصدر أي حكم قيمة على أية ثقافة، فقط من خلال مستوى قربها وحجم قبولها لقيم الأنوار و لمكتسبات الحداثة، وذلك لسبب بسيط، وهو أن الأنوار ليست القدر المحتوم للتاريخ الإنساني، ولسبب أهم، وهو أن الأنوار نفسها قد تورطت في مسلسل العنف و الحروب التي ضاقت بها درعا أوروبا و أصابتها بالشلل الذي يبدو و كأنه لم يفارقها حتى و هي تحاول اليوم بناء مشروع وحدتها الدستورية و السياسية، وهكذا، فإذا صرفنا نظرنا عن مفاهيم الوحدة و التقدم كما نحثثها فلسفة الأنوار و ساقتها إلينا الحداثة، فستبدو كل الثقافات متساوية بإطلاق ولا تقل أهميتها و قيمها عن أهمية و قيم عصر الأنوار، و لأن الأثر الذي أحدثه عصر الأنوار في مستوى الحضارة الإنسانية قد أمسى حاسما، فلا مناص إذن من أن يكون الدفاع عن الثقافات المحلية وعن الخصوصيات الثقافية هجوم على عصر الأنوار و على مؤثرات الحداثة.

إن ما يجدر بنا أن نلفت الانتباه إليه هو أن شعار التعدد و ثقافة التنوع، بصرف النظر عن حسن النوايا، ليس شعارا موجها إلى الأصوليات الدينية المتطرفة كما قد يفهم البعض، فتلك الأصوليات نفسها لا تنتعش و لا تزدهر إلا وسط مناخ ثقافي يتغنى بالخصوصيات المحلية على حساب القيم الإنسانية و الكونية.
حسبنا أن نعيد مساءلة مفهوم التعدد الثقافي و التفكير في ما إذا كانت مراميه تتعلق بتفكيك منظومة الحداثة التي تتميز بالبعد الكوني والبعد الإنساني، فربما يكون الهدف من ذلك هو جعل الثقافة الإنسانية مجزأة، متشظية، و بالتالي عاجزة عن المقاومة أمام منظومة اقتصادية وحدها تتمتع بالكونية و العالمية سواء من حيث برامج الاقتصاد أو من حيث نماذج التنمية، وإلا فلماذا يتم الحديث عن التعددية في كل شيء عدا الحديث عنها في الاقتصاد ؟ إننا إذن، أمام إستراتيجية واحدة لتيارات متعددة طبعت جميعها المناخ الفلسفي العام لما بعد الحرب العالمية الثانية . و من هنا يتأتى لنا أن نفهم الانتقاد الذي يوجهه محمد سبيلا لفكرة وجود حداثات متعددة، وحين يعتبر دلك تعبيرا عن " أشكال من الوعي المضاد للحداثة" 3.

يتعلق الأمر بفرضية تذهب إلى القول بأن ما يفسر الحالة الفكرية لعالم اليوم و للوضع العالمي الراهن، هو وجود صراع دائم و) أبدي( بين خطين حضاريين متقابلين، احدهما ينحدر من تقاليد مدينة أثينا، مهد العقلانية، والآخر ينحدر من تقاليد مدينة أورشليم، مهد الديانات السماوية، على أن كلا الخطين ظلا يخترقان أوروبا على مدى تاريخها الطويل، و لعل هذه الفرضية قد تفتح الباب أمام فهم ظاهرة أمست تثير استغراب العديد من المهتمين، وهي ظاهرة تحالف الأصوليات.

لاختبار هذه الفرضية إذن، سأنطلق من السؤال الأكثر حيرة حول قضايا الوضع العالمي الراهن، وهو كالتالي: كيف تمكن المحافظون الجدد من السيطرة على إدارة أقوى دولة في العالم وأكبر المؤسسات الدولية على الرغم من قلتهم العددية ؟ وسنكتشف خلال استعراضنا لبعض المعطيات، إلى أي حد يتعلق الأمر بتحالف حضاري سيتمكن المحافظون الجدد من خلاله من استقطاب وتوظيف أبرز الأصوليات الدينية في العالم، فضلا عن التيارات الفلسفية المعادية لخط العقلانية، إن الأمر هنا يتعلق بتحالف، ربما قد يبدو غريبا، لكنه تحالف يقع بالتأكيد داخل خط حضارة أورشليم.

ومن المعلوم أن المحافظين الجدد، قادة هذا الخط الحضاري، هم في غالبيتهم العظمى من اليمين اليهودي المتطرف، ولأن الأصوليات التي عودتنا على مدار التاريخ على الاصطدام فيما بينها، قد يحدث أن تتحالف أيضا، فلقد وجد أولئك المحافظون الجدد، في الأصولية البروتستانتية وفي الكنيسة الإنجيلية، الحليف الأساسي داخل الولايات المتحدة الأمريكية، لكنهم، حتى ورغم ما توحي به الحرب على الإرهاب من اصطدام بين الأصوليات، إلا أنهم لم يبحثوا عن حلفاء لهم في العالمين العربي و الإسلامي خارج القوى الدينية الأصولية الممتدة من الخليج إلى المحيط. لقد أعادت جريدة التجديد المغربية –عدد 19يناير 2006- وبكثير من الفخر والاعتزاز ما سبق أن نشره أحد المفكرين الأمريكيين المقربين من الدوائر الفكرية للمحافظين الجدد، ويدعى جون فول ، حين كتب يقول :" إدا كنا نسعى لبناء وتقوية الركائز الأخلاقية للحرية في الولايات المتحدة الأمريكية ، فإننا لا نبحث بالضرورة عن حلفائنا من أشباه الملا حدة أو الدهريين ، وإذا كنا لا نفعل دلك في الولايات المتحدة ذاتها ، فلماذا نفعله عندما نتعامل مع العالم الإسلامي؟"، ثم أضاف يقول: " الصدام المهم في الحقيقة هو بين من يرون أن الدين لا دور له في المجتمع ومن يرون أن له دورا".

أفلا يتعلق الأمر إذن بتحالف داخل خط حضارة أورشليم ؟؟

إن ما نود التأكيد عليه، هو أن التموقع ضمن مقاربة هابرماس، يمكنه أن يغدو أكثر إنصافا للعالم العربي والإسلامي وهو أحوج ما يكون إلى المشروع الحداثي العقلاني. و يمكن أن نبين كيف أن الثقافة المعادية للحداثة لم تتكون خارج المجال الجغرافي لما يسمى بالغرب.
و يمكن توضيح هذا الأمر من خلال المثال التالي:

يحتفل اليهود بعيد يدعى حانوكة لمدة ثمانية أيام في السنة، وذلك بدءا من الواحد والعشرين من شهر دجنبر إلى غاية الثانية عشر ليلا من الثلاثين منه، وهو عيد يؤرخ لديهم لذكرى انتصار الشعب الإسرائيلي على المحتلين اليونانيين خلال القرن الأول قبل الميلاد، وهو ما يضعنا أمام السؤال؛ ما الذي جعل الغزاة اليونانيين يحضون وحدهم بهذه الأهمية البالغة داخل الذاكرة اليهودية، من دون باقي الغزاة ؟
لم يكن الاحتلال اليوناني الاحتلال الوحيد من نوعه الذي تعرضت له أرض إسرائيل، إلا أن اليونانيين يختلفون عن غيرهم من الغزاة، وهو ما جعلهم يحضون بمثل هذه الأهمية داخل التاريخ اليهودي، إذ لم يأت اليونانيون لاحتلال أرض إسرائيل بأساطير و لا بمعتقدات وثنية فقط، مما كان يسهل دحضه واحتقاره من طرف "شعب الله المختار"، وإنما جاءوا يواجهون ألواح موسى و قصص الأنبياء بمنطق أرسطو و هندسة اقليدس... وبصفة عامة فإنهم جاءوا بالمشروع العقلاني، والذي لم تتأت مقاومته من طرف الشعب اليهودي بمجرد الاكتفاء بالأدبيات الدينية على الرغم من ثرائها وغناها.

لقد انتصر المشروع العقلاني اليوناني و امتد في الزمان و المكان، على حساب الفضاءات الدينية المغلقة، ولم يزده عصر الأنوار إلا رسوخا و انتصارا، و هو العصر الذي يشتكي، من خلال أدبياته الشهيرة، من ضعف انخراط و مشاركة الشعب اليهودي في عملية بنائه.

هكذا كان المراد أن تغدو حانوكة الموعد السنوي للثورة الدائمة ضد المشروع الحضاري العقلاني، فقد كتب رئيس المؤتمر اليهودي الكندي لمنطقة كبيك، جوزيف غاباي(joseph gabay ) يقول:" إن الرغبة في اختزال الإنسانية إلى مجرد معادلة، و نفي البعد الروحي، ذلك هو ما يسمى في التقليد اليهودي بالظلامية ، و أما تأويل الآية الثانية من سفر التكوين (وقد كانت الظلمة على وجه البسيطة)، فإن المقصود بالظلمة هو زمن اليونانيين" ) 4.
لقد انطلقت الثورة اليهودية ضد اليونان عمليا عام 165 قبل الميلاد، فمنذ ذلك الحين توالى عدد من الزعماء الدينيين اليهود على قيادة الثورة ضد الاحتلال اليوناني، و بدءا من يهودا المكابي، اتخذ هؤلاء الزعماء لأنفسهم اسم المكابيين maccabées، وهي كلمة تعني باللغة اليونانية، المطرقة؛ وهي كلمة عزيزة على جماعة التفكيكيين المعاصرين و أنصار تقويض العقلانية.

ولعل الأمر يتعلق بالصراع الأبدي بين حضارة أثينا و حضارة أورشليم، وربما هذا ما جعل دعاة التفكيك يتميزون بنسب كل ما هو سيئ إلى الحداثة و العقلانية، أي إلى خط حضارة أثينا، و في هذا الإطار يعتبر دريدا أن زعيم القاعدة أسامة بن لادن جزء لا يتجزأ من المشروع الحداثي و النسق العقلاني المعاصر، ولم يتردد رئيس المؤتمر اليهودي الكندي لمنطقة كيبيك ، في اعتبار أن " المعركة مع الإرهاب تدخل ...في إطار امتداد ثورة المكابيين". (5)

أفلا يجدر بنا أن نقول اليوم بأن نزعة معاداة الحداثة و الأنوار داخل اليمين اليهودي المتطرف على العموم، ولدى تيار المحافظين الجدد على وجه الخصوص، هي امتداد لثورة المكابيين القدامى ؟ !

من دون شك أن نزعة معاداة الحداثة لم تتمكن من الهيمنة على المشهد الثقافي الأوروبي إلا في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ منذ ذلك الحين انطلقت، ومن داخل الفضاء الأوروبي، موجة نقد الحداثة و تأثيم الأنوار، وقد كانت الشواهد على صحة من سلموا بإفلاس الأنوار، هي أن تقاليد الأنوار لم تمنع أوروبا من قتل "ستة ملايين يهودي"، و لم تحل دون قيام أوروبا باحتلال بقية العالم و إبادة العديد من الثقافات، و لم تجعل أوروبا في منأى من صعود النازية و الفاشية...الخ. و إذا كانت تهمة الأنوار لدى البعض تتمثل في أنها لم تحل دون وقوع الجريمة، فإن الجريمة في اعتبار آخرين هي إفراز لتقاليد الأنوار بالذات، على أن هؤلاء الدين يتهمون قيم الحداثة هم امتداد لتقاليد هي جزء من تاريخ أوروبا و راسخة فيه بمثل رسوخ تقاليد العقلانية و الأنوار، على أن كلا من ثقافة الحداثة و ثقافة معاداتها، على حد سواء، هما معا محصلة للتاريخ الأوروبي، وكلاهما امتداد لصراع يضرب بجذوره في أعماق التاريخ الأوروبي و الإنساني.

وإذا لم يكن المعادون للحداثة و المناهضون لقيم عصر الأنوار أحسن حالا مما هم عليه اليوم، فقد أصبح بإمكانهم أن يقدموا أنفسهم باعتبارهم حاملي مشروع فكري لا صلة له بما قبل الحداثة، وإنما يتجاوز قيم الحداثة والأنوار مستوعبا لقيم الحرية و حقوق الإنسان.
إن ما يستدعي الانتباه اليوم، في سياق التدافع بين كل من خط حضارة أورشليم، وخط حضارة أثينا، هو أن موازين القوى بدأت، ولأول مرة منذ انتصار عصر الأنوار، تختل لصالح القوى المعادية للأنوار، وبدا الاتجاه العام ميالا إلى نصرة قيم حضارة أورشليم.


وفي هذا الصدد، جاء إعلان ميلاد دولة إسرائيل عام 48, متوافقا مع المناخ الفلسفي العام لما بعد الحرب العالمية الثانية، إيذانا ببداية انزياح التاريخ المعاصر عن الخط العام الذي رسمته الأنوار؛ فلقد كان الأمر بمثابة اعتراف، ومن داخل الشرعية الدولية، بدولة تقوم على أساس نظرية الحق الإلهي، وهي النظرية التي لم يقم عصر الأنوار إلا على أنقاضها، ولأن الأمر يتعلق ببداية الطريق، ففي عام 1964 حصل بابا الفاتكان على العضوية داخل الأمم المتحدة بصفة مراقب دائم، وفي عام 1979 نجحت الثورة الإيرانية كأول ثورة شعبية في العصر الحديث تقوم على إحياء نظرية الحق الإلهي. ومنذ عقد الثمانين بدأ يسطع نجم الزعماء الدينيين داخل الدوائر الإعلامية وعلى مستوى القواعد الشعبية، من أمثال مارتن لوثركينغ في أمريكا، الدلايلاما في الصين، البطريرك نصر الله صفير في لبنان، آية الله علي السيستاني في العراق، الخ.

وبحلول انتخابات عام 2000 في الولايات المتحدة، تمكن الأصوليون البروتستانت بقيادة الكنيسة الإنجيلية وبتحالف مع المحافظين الجدد، من الوصول إلى مراكز قرار الدولة العظمى التي تقود العالم اليوم.
تشارك الكنيسة الإنجيلية، والتي ينتمي إليها الرئيس الأمريكي جورج والكر بوش، في الحرب التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية على العراق، وتخوض معركة نشر الرسالة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. إنها لأول مرة تأتي الرسالة إلى الشرق بدل أن تصدر عنه، هو الثأر الروحي للغرب من الشرق، هو اندحار الغرب أيضا وانتحار التاريخ داخل أسوار أورشليم، و التي ستشهد مجدها الأخير على طريقة الأرماجيدون، أي: بداية نهاية العالم في الفكر الأصولي البروتستانتي.





الهوامش



1 / le monde diplomatique ‘février 2004
2 / ibid
مجلة مدارك ، العدد 2 ، يناير06 |3


com 2003 / 12/ 24 / 43623.html. http://www.ledevoir 4
5 / ibid