من بيروت إلى التراث.. تأشيرة عبور باسم جورج طرابيشي


سعيد ناشيد
الحوار المتمدن - العدد: 3115 - 2010 / 9 / 4 - 09:07
المحور: بوابة التمدن     


حين ترى الياسمين نابتاً فوق الرّماد فاعلم أنك في بيروت. تنسّم ما يكفيك من الهواء واحذر أن تنفخ في الرّماد. بيروت تفتح حضنها للعابرين إليها من أقصى المجيء إلى آخر نقطة للتفتيش قبل العبور الأخير. ماذا بعد بيروت؟ بيروت هي آخر القصة. هنا ينتصب الجدار الأخير لسؤال المشروع النهضوي العربي، من شبلي شميل وفرح أنطون إلى من التحقوا بها من الرعيل الذي أخشى أن يكون الجيل النهضوي الأخير، أمثال قسطنطين زريق وجورج طرابيشي وآخرين هم أكبر من أن تذكرهم ذاكرتي الصغيرة. كم نحن مدينون لهؤلاء الذين امتزج فيهم شيء من بقايا دم المسيح «العربي»، قبل أن يُصلب ثانية ويتفرّق دمه، هذه المرة، بين كافة الطوائف. كم نحن مدينون لهؤلاء «الكتابيين» بقوة الكتابة حين يكتبون نيابة عن الجميع؟ أنت إذن في آخر الذات الهجرية. احترس؛ فمن هنا تكون الهجرة الأخيرة.
بيروت التي تفتح حضنها للجميع، لا مساحة يلتقي فيها الجميع بالجميع. هي حاضنة الافتراقات ومفترق الطرق الموصدة في وجه كل الفرقاء ومن يفتشون عن نقــط التوازن المروري. لكنك أينما توقفت في بـيروت فأنت تقف في المكان الخطأ؛ لا تتــوقف إذن. وإن أعياك السّير فاحذر أن تقول لبيـروت «أف»؛ لأنك ستنفخ مباشرة في الرّمـاد. إن ريحاً خفيفة تكفي لتشـتعل كل الأزهار. بيـروت التي صمدت مرّات ومرّات أمام نيـران الجحيم، لا تصمد أمام أعواد الثقاب. اقتـراح بســيط، أن نكتب على مداخل المدينـة: ممنوع التدخين!
رغم ذلك الحب العذري الذي منحه لها، خلال الأزمنة الصعبة، فإن حرّاس المدينة المتنابذين على إحصاء أعواد الثقاب بالعد العكسي لساعة الانفجار، لم يمنحوه تأشيرة الإقامة الدّائمة في حضن المدينة المحروقة مراراً. كان مطلوبا منه أن يكون شاهد زور لفائدة من سيمّنون عليه بالحماية، وفق أعراف الذين يمنون حين لا يمنعون الماعون. بيروت، لكي لا ننسى، كم مرّة فتحت حضنها لشهود الزور. لم يشأ أن يكون رقماً ضمن المعادلة الطائفية، لذلك كانت حقائبه على محمل الرّحيل إلى ما بعد بيروت.
امتعض البعض من أصوله السورية في أوراق مسقط الرأس، آخرون لم يغفروا نبعه المسيحي في بقايا ماء التعميد، وأطراف ثالثة أو رابعة أو خامسة لم تتساهل مع اختياراته اليسارية، في وقت كان فيه الوجود كله يسارياً. لا رقم له للإقامة إذن، دنا الرّحيل.
صبيحة يوم الثالث من تموز من عام 1984، توجه المفكر العربي جورج طرابيشي صوب مطار بيروت برفقة زوجته الروائية هنرييت عبودي وابنتيه الطفلتين وقتها يارا وريم. لم يحمل معه من بيروت سوى حقيبة الملابس وكتاباً واحداً فقط. لم يلتفت إلى بيروت ليقول لها «أف»، فقد كانت أحلامه أكبر من منتجعات ملوك الطوائف والسلالات السياسية، كانت أحلامه بحجم سؤال النهضة. لم يكن خروجه من نيران بيروت وقتها، رحلة الطلاق مع الذات، بل كانت رحلة العبور إلى أعماق الذات ليكتشفها مجدّداً عبر قراءات ثم قراءات مضادّة، بعيداً عن خطوط اشتباك الذات مع الذات. إنه المنفى الذي نصفه بالاختياري حين نلتمس ظروف التخفيف من ثقل الكلمات.
من مدينة الياسمين والرّماد، إلى مدينة الجن والملائكة، لم يحمل معه من الكتب سوى كتاب واحد، لم يصبر على قراءته وهو في الطائرة، وكان أنيسه خلال الأيام الأولى من المقام الباريسي. إنه كتاب «نقد العقل العربي» لمحمد عابد الجابري.
احتفى بالكتاب وكتــب عـنه في الأعداد الأولى لمجلة الوحدة، والتي كان يشرف عليها رفقة إلياس مرقص ومحي الدين صبحي وآخرون ممن أخشى دائما أن يكونوا الرّعيل الأخير لسؤال النهضة. وضمن الأعداد الأولى للمجلة ساهم أيضا محمد عابد الجابري بقلمه وساهم معه كثيرون ممن سيتوارون بعدها عن المشهد الثقافي العربي في زحمة المتغيرات المتواترة.
في لحظة من لحظات استكشافه لمشروع الجابري، استيقــظت عنده «غريزة» التمحيص، التي يشهد له بها كل من راجع مخطوطاتهم، وبدأ يسجل أخطاء علمية تعتور مشروع الجابري، بدءا من ثغرات في الإحالات، وانتهاء بأحكام قيمة لا تنمّ سـوى عن تمركز حول «عقلانية» مغربية مزعـومة؛ أحكام جزافية قادت الجابري إلى أن يصنف ظاهرية ابن حزم ضمن الاتجاه العقلاني في الفقه الإسلامي.
تلك الأعطاب وغيرها، سيكشف عنها طرابيشي في مشروع عملاق حول «نقد نقد العقل العربي». قاده في الأخير، إلى مشروع يكاد يكون مستقلا ضمن مجلد ضخم بعنوان: «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: النشأة المستأنفة». حتى خصومه، وفي أدنى مستويات الاعتراف، قد شهدوا له فيه بتماسك الأطروحة وسعة الاطلاع.
كان بصدد تدوين خاتمة لكتابه الأخير عندما راسلته:
ـ أستاذنا، الذي كشفتَ لنا عن حدوده، توفي اليوم.. لقد مات محمد عابد الجابري، وبحسب تقديري سيكون لأية شهادة تأبينية منك، وقع كبير، لا سيما عندنا في المغرب. يمكنك أن تنشرها في أي مكان تريد، ثم تخبرني لأحاول نشرها في الصحيفة المغربية التي أشرف الرّاحل على تأسيسها ونشر فيها آخر مقالاته.
ـ تلقيت النبأ قبل ساعة فقط، وأنا أتساءل حول ما إذا كان عليّ أن أكتب كلمة في الموضوع، لكني أظن بأن رسالتك قد حسمت الموقف، وسأمضي الآن لكتابة كلمة أبعثها إليك، ولك مطلق الحرية في أن تتصرف في نشرها كما يبدو لك.
شعرت حينها بثقل الثقة من مفكر عربي كبير، أغنى الخزانة العربية كمّاً وكيفاً بعشرات الكتب والترجمات والدراسات، وشعرت بحرج بالغ وهو يضيف قائلا لي : وإذا لم تعجبك الكلمة فيمكنك أن تصرف النظر عنها.
كم هم صغار مفكرون آخرون عرفت بعضهم في غفلة من الزمن الرديء، ولم أر فيهم غير تضخم في الأستاذية يبلغ حد التخمة.
لا بد من جيل ثقافي جديد. هكذا أحسب جورج طرابيشي يقول في خاطره، وهو الذي عرف كيف يجدد دماءه باستمرار.
هل هي مأساة جامعاتنا الخاوية على عروشها إلا من رحم ربك؟ ربما...
جنازة الجابري كادت تكون مسخرة، لولا أن تدارك الأمر رئيس الوزراء الاشتراكي الأسبق عبد الرحمن اليوسفي، وقد طلق السياسة لكي لا يطلق الأخلاق، بتنظيم حفل تأبيني يليق بالمقام خلال الذكرى الأربعينية، وبنحو يجبّ ما قبله ويدفع الهزال بالتي هي أحسن.
في تلك الجنازة، التقيت بطاقم الصحيفة. كان بادياً على الوجوه حزن الفقد والحيرة والخوف من شريعة التنكر والخذلان. أخبرتهم بأني سأحول إليهم في المساء شهادة جورج طرابيشي في حق الراحل.
ساعتها وكأن الدماء انبعثت في وجوه الحاضرين، وكأن بريق الأمل بأن الراحل، الذي لم يحظ بالرعاية اللائقة، لن تخذله أقلام مفكرين كبار في نبلهم وخلقهم، حتى ولو كانوا من أشد خصومه.
كانت الشهادة حدثاً ثقافياً في المغرب، لم أخبر جورج بكل تفاصيله، لأن الكثير من التفاصيل تحتاج إلى تفاصيل شارحة في بلد أحداثه الثقافية نادرة جدّاً.
رُبع قرن من حوار بلا حوار.
هكذا عَنون جورج طرابيشي شهادته التأبينية في حق محمد عابد الجابري.
حينها شعر الجميع بأن جورج انتصر في الأخير، على الأقل، بالأخلاق الترجيحية.
الكثيرون استدلوا بالشهادة واحتجوا بها على مفكرين مغاربة ـ مثل عبد الله العروي (منافس الجابري على مرجعية التيار التقدمي بالمغرب) وبنسالم حميش (وزير الثقافة) ـ قاطعوا كافة الأنشطة التأبينية ولم ينطقوا ولو بكلمة واحدة في حق الرّاحل.
الأسلوب الأخلاقي والحضاري الذي دخل به جورج طرابيشي على خط التأبين كان مناسبة قاس بها كثير من المثقفين المغاربة حجم العطب الأخلاقي الذي يعتور ساحتنا الثقافية.
هل هي أخلاق من يحملون في دمائهم بقايا من دم المسيح الذي افتدى البشرية جمعاء بلا تفرقة بين الأحبة والخصوم؟
سؤال أتركه عالقاً على جدران بيروت، في انتظار الجواب.
لم أكن أعلم بأن الروائية هنرييت عبودي هي زوجة جورج طرابيشي ورفيقة دربه الثقافي الطويل، إلا مؤخراً. حينها قلت له:
يا سيدي إن رفقة هنرييت عبودي لتغنيك عن هوى بيروت وعن الوجع العربي من البحر الميت إلى «بحر الظلمات»..
فطوبى لكما.




السفير