حوار لم يكتمل مع قيادة حزب البديل الحضاري المنحل


سعيد ناشيد
الحوار المتمدن - العدد: 2237 - 2008 / 3 / 31 - 11:22
المحور: التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية     

قبيل اعتقاله المفاجئ ، اتصل بي الدكتور أمين الركالة، كان يظن بأني مازلت أقيم بمدينة فاس المغربية، وكان يريدني أن أكون من بين جملة من المثقفين الذين بوسعهم، حسب تأكيده، أن يساهموا، ولو من بعيد، في إغناء المرجعية الفكرية لحزب البديل الحضاري، هذا الحزب الذي صنفه العديد من المراقبين ، سيما في المشرق العربي، ضمن اليسار الإسلامي. وشخصيا، لم أتخل عن تبني هذا المصطلح إلا بعد أن تخلى عنه صاحبه، المفكر المصري حسن حنفي، الذي أكد لي،حين التقيته في إحدى المناسبات، وسألته عن ممكنات هذا اليسار الإسلامي اليوم، فما كان منه إلا أن رد علي بصرامة : تلك حكاية تقادمت، وفكرة قد خلت ( !).
كان الدكتور أمين الركالة دائم الانشغال بسؤال المرجعية الفكرية لحزب صغير، مع أنه حزب حير الجميع في مسالة تصنيفه، فبين من رآه صنفا من اليسار الإسلامي، تبعا لفرضية حسن حنفي قبل أن يتخلى عنها، ومن اعتبره تجليا للإسلام الديمقراطي، على منوال المسيحيين الديمقراطيين في أوروبا، ومن قال عنه؛ إنه يمين الوسط، على شاكلة حزب العدالة والتنمية في تركيا، وبين من حكى عنه أشياء، واتهمه بالتشيع، أو بالتبعية لإيران، اختلفت الآراء وتضاربت، وأحيانا توزعت المراهنات في ما بين بعض الساسة والمسؤولين.
لم يكن د. أمين الركالة يكترث كثيرا بمسألة التصنيف، كان يؤمن نشئ واحد، وهو أن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، فالتوافق السياسي في المغرب ليس مجرد قرار ظرفي، إنه مرحلة حاسمة ليس لها ما بعدها، فهي نهاية تاريخ المغرب، بالمعنى الفوكويامي للنهاية، فلقد حسمت المعركة الإجمالية، ولم يبق أمامنا سوى إصلاحات على مستوى التفاصيل، تلك أيضا كانت قناعة رئيس الحزب، مصطفى المعتصم، الذي التقيته أول مرة، فاستضافني في بيته، وكان قد عاد للتو من إيران على أثر دعوة تلقاها من الحكومة الإيرانية في عهد الدكتور محمد خاتمي ، و زودني بالكثير من المعطيات حول الوضع الداخلي في إيران، وقد كان مستاء من حملات المحافظين الإيرانيين، والمتشددين الخمينيين ضد المسار الإصلاحي الذي انتهجه محمد خاتمي، و صدقت تخوفاته من انهيار المشروع الإصلاحي بفعل تكالب المتشددين، غير أنه كان في المقابل متفائلا بعملية الانتقال الديمقراطي الجاري في المغرب، وكتب في هذا الصدد مقالا من وحي عناوين ثلاث مقالات كنت قد نشرتها في بعض الصحف الوطنية.
قبل أن يتصل بي الدكتور الركالة آخر مرة، كان الإخوة في حزب البديل الحضاري، قد استدعوني لإلقاء محاضرة أفتتح بها ندوة احتضنها الحزب بفاس، يوم الأحد 20 ماي 2007 ، كان الأمر يتعلق بإشارة تضامنية قوية معي، عقب تهديد كنت قد تعرضت له، ويحتمل بعض الدلالات الإرهابية، أخبرتهم بأني قد أكون في تدخلي قاسيا وربما جارحا في حقهم، لكن لا بأس إن كنت أنوي توجيه رسالة بأني لا أملك ما يمكنني أن أتنازل عنه.
اعتقدت بأني سأجد داخل قاعة الندوة جميع الحاضرات محجبات، وقد أخطأ ظني ، وبناء على ما اعتقدته، فقد آثرت أن ترافقني صديقة، وهي أستاذة لمادة الفلسفة، متحررة المظهر، دمثة الخلق، واتفقت معها على أن تحجز مقعدها ضمن الصفوف الأمامية .
قلت في محاضرتي أهم ما كنت أقصد قوله:
قلت بأن بعض أنماط التدين، قد تفسد الأخلاق حين تستند على قيم الترهيب والترغيب، وهو ما سبق أن انتقده علي بن أبي طالب في نهج البلاغة، حين قال: "إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، و إن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، و إن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار".
أكدت أيضا، بأن حاجتنا إلى أخلاق الحرية، المسؤولية والالتزام، هي نفسها حاجتنا إلى أخلاق وقيم فلسفة الأنوار، ولعل معضلة المسلمين تكمن في اعتقادهم بأنهم يتمتعون بنوع من الاكتفاء الذاتي في مجال الأخلاق، ولذلك تراهم لم يكلفوا أنفسهم عناء الاطلاع أو ترجمة سوى النزر القليل من بين عشرات الكتب التي أسست أخلاق عصر الأنوار.
إننا نخطئ حين نعتقد بأن الدين يغنينا عن سؤال الأخلاق، فالحديث نفسه يقول: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، والمقصود أن الدين لا يبني الأخلاق، وإنما يتممها متى وجدها.
وقد توقفت في ختام هذه المحاضرة على ما يشبه النداء، قلت فيه: إن من يريد لهذه الأمة عزة، ولهذه الحضارة نهضة، عليه أن يدرك بأن لا سبيل إلى ذلك من دون تبني قيم فلسفة الأنوار. إن تراجع قيم العلمانية في عالم اليوم بفعل هيمنة الأصوليين الدينيين من سائر الديانات، المحافظين والمحافظين الجدد، لم يزد وضع أمتنا إلا تدهورا وترديا، كما أن خصومنا في الحضارة، لتجدهم من أشد الناس عداوة لمبادئ الثورة الفرنسية وقيم فلسفة الأنوار، بدءا من اليمين الإسرائيلي، مرورا بالأصوليين البروتستانت، وبعض المنظمات شبه السرية للفاتيكان، وانتهاء بالمحافظين الجدد.
وللحقيقة، فأثناء النقاش، أذكر أني وجدت من الامتعاض والاعتراض من طرف ممثلين عن منظمة شبابية ليبرالية الاهتمام، والذين رموني بتهمة الاستلاب من طرف الفكر الفرنسي، ما لم أجده لدى الإخوة في حزب البديل الحضاري، الذين رأوا فيما قلته اعتزازا صادقا بالانتماء وبالهوية الحضاريين.
وبعد أن عاود الدكتور أمين الركالة الاتصال بي مؤكدا رغبته في التعاون من أجل بناء مقترحات لتجديد المرجعية الفكرية للحزب، أدركت بأن للإخوة من رحابة الصدر ما لم أكن أتصوره، وبعد دردشة سريعة على الهاتف، تبين لي أن الرجل يمتلك نزعة هابرماسية متدينة، وتذكرت لماذا كنت أنصحه، وبروح لا تخلو من دعابة، بأن عليه أن يكمل دينه بدراسة فلسفة كانط.
وعندما يسمع الآذان، كان يستأذنني في وقت قصير للصلاة، ثم يعود لنتابع حديثنا، وأحيانا كان يتأخر عن موعد الصلاة، فقط تجنبا لإحراجي، فقد كان على علم بنزعتي اللاأدرية على مستوى العقيدة، ومع ذلك فلا أذكر أنه تجرأ يوما ليناقشني في ذلك، إنه كان بالفعل، يحترم صدقي و ذكائي.
ولما استضافني في بيته بفاس حيث قضينا معا يوما كاملا، وجدت الفرصة سانحة كي أقتحم الأجواء الداخلية لرجل بدأ يفرض نفسه داخل المشهد السياسي المغربي، فسألته عن كل ما كنت أنوي معرفته عنه، وباعتباره أستاذا جامعيا لمادة البيلوجيا، سألته عن موقفه من نظرية داروين ، فرد علي بجواب لم أكن أتوقعه: داخل الجامعة أومن بنظرية التطور، وداخل المسجد أومن بنظرية الخلق، ولا أحاول الجمع بين هذا وذاك، كما سألته عن موقفه من مشاهد الجنس في الإعلام العمومي، فكان جوابه بأنها لا تخلق لديه أية مشكلة طالما أنه يؤمن ، بحسب تعبيره ، أن الطبيعة نفسها جعلت للشهوات حدودا متى استوفاها الإنسان تفرغ لقضايا أخرى ، وهذا هو المهم.
وهكذا يبدو د. أمين الركالة رجلا متفتحا ومنفتحا في الحوار والنقاش، الشيء الذي شجعني على الإدلاء بملاحظات طلبها مني حول مشاريع بعض الأوراق السياسية التي كانت تهم المؤتمر التأسيسي للحزب، وبدون شك، فإن صحبتي له منحتني متعة خاصة وأنا أرقب عن كتب التحول التدريجي الذي عاشه مناضل إسلامي ظل يتجه بتبات نحو القيم الكونية لحقوق الإنسان، ومبادئ فلسفة الأنوار، كنت أتوسم فيه أن يكون أول النازحين من تدين متسامح مع العلمانية ، إلى علمانية متسامحة مع الدين.
في آخر اتصال له بي، وكان عبر الهاتف، طلب مني أن نلتقي، فاعتذرت له بسبب ظروف صحية طارئة، وفي نفس الوقت، فكرت في أن أهيئ له ورقة ، ربما تفيده في ما يقلقه، ولعلي على بينة مما يقلقه، مثلما أنه على بينة مما يمتعني، وفي الحال، فكرت في أن تكون الأرضية تحت عنوان؛ المسلمون والأنوار، وقدرت أن المجهود سيأخذ مني أسابيع من أجل التأريخ لأهم مراحل احتكاك المسلمين بفلسفة الأنوار.
وفيما أنا أهم في الإعداد للورقة، إذا بالصحف الوطنية، ومختلف وسائل الإعلام، تنبئنا بخبر اعتقال الرجل، بدعوى- يقول وزير الداخلية- أنه متورط في شبكة إرهابية صحبة رئيس الحزب مصطفى المعتصم، بل إن الحزب نفسه الذي تعاونت لأجله مع الرجل لفترات متقطعة، لم يتأسس – حسب تصريح الوزير- سوى من أجل التغطية على النوايا الإرهابية لما يعرف بشبكة بليرج.
والآن، وأمام هذا الخطب الجلل، الذي نزل كالصاعقة على الجميع، ليس لدي من تعليق الآن على بعض التصريحات الرسمية، سوى ما قاله وزير العدل: يجب انتظار القضاء، فليس بوسعنا غير ذلك، على أني وفي غمرة الانتظار، أكون قد أدليت بشهادة صدق أخلص بها ضميري في ما أردت من واجب الشهادة في حق أصدقاء كنت وسأظل أعتز بصداقتهم، حتى إشعار آخر من لدن القضاء، القضاء النزيه طبعا.