هل ستكون هناك حرب عالمية خامسة؟


سعيد ناشيد
الحوار المتمدن - العدد: 2575 - 2009 / 3 / 4 - 05:51
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

شهد مَفهوم الحرب العالمية الرابعة، خلال العقد الأخير رواجا كبيرا، ثم اختفى فجأة من سياق التداول، دون أثر يُذكر. وتُجمع مُعظم الدراسات على أن هذا المفهوم قد أبدعه المُحافظون الجُدد داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك حين دعوا إلى استبدال مفهوم الحرب على الإرهاب، والتي أعلنها الرئيس الأمريكي السابق جورج والكر بوش، بمفهوم الحرب العالمية الرابعة، وهو الأمر الذي يتأكد لنا من خلال العـودة إلى أرشيف مَجلة كومانتري الأمريكية والتي تعد لسان حال المحافظين الجدد.
فبعد مُرور حوالي شهر واحد على اعتداءات الحادي عشر من ايلول (سبتمبر)، أصدر أستاذ جامعي أمريكي محسوب على تيار المحافظين الجدد ويدعى إليو كوهن، مقالا بنفس المجلة التي اعتاد على الكتابة فيها منذ عدة سنوات، وتدعى كومانتري .
في ذلك المَقال، دعا إليو كوهن المسؤولين الأمريكيين إلى ضرورة التخلي عن مفهوم الحرب العالمية الرابعة، واستبداله بمفهوم الحرب العالمية الرابعة، وقد رأى في ذلك التعديل الاصطلاحي أهمية استراتيجية بالغة.
مُنذ صُدور ذلك المقال بدأت المَجلة تتلقى العديد من الرسائل والمقالات التي تؤيد أو تشرح دعوة كوهن، إلى أهمية اعتماد مفهوم الحرب العالمية الرابعة بديلا عن مفهوم الحرب على الإرهاب. على أن المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية السي آي أي؛ جيمس وولسي، سيكون هو صاحب الفضل الكبير في شيوع هذا المفهوم، سواء من خلال التلفزيون أو عبر مختلف المقالات التي كان يُوَقعها باسمه.
إلا أنه، بالرغم من أن مفهوم الحرب العالمية الرابعة، يؤول الآن إلى المحافظين الجُدد، إلا أن القول بأنه إبداع خالص لهم، هو ادعاء يجانب الصواب، وهذا ما تؤكده العودة إلى تاريخ المفهوم، وهو في كل الأحوال، تاريخ قريب العهد، فهو يعود إلى ما قبل تداوله من طرف المحافظين الجدد.

البدايات

يعود أول ظهور لمفهوم الحرب العالمية الرابعة إلى ما قبل إعلان بوش لحربه على الإرهاب، وإلى ما قبل اعتداءات الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) ببضع سنوات، إذ في عام 1997 أصدرت جريدة لوموند ديبلوماتيك الفرنسية مقالا يحمل عنوان: الحرب العالمية الرابعة قد انطلقت، ورغم ما يوحي به ذلك، إلا أنه مفهوم لم ينحت داخل المشهد الثقافي الفرنسي، فقد كان كاتب المقال، هو المدعو ماركوس، قائد ثورة الزاباتا بالمكسيك، والذي فضل أن يبعث بالمَقال إلى صحيفة لها صلة قوية بتيارات اليسار والقوى التقدمية في العالم، ولعل من سوء حظ ماركوس أن المفهوم سيعرف بالفعل رواجا واسع النطاق، لكن ليس على يد قوى اليسار والقوى التقدمية، سواء في أوروبا أو في بقية العالم، بخلاف ما كان يريده ويطمح إليه، فقد انتشر المفهوم على يد أعــــدائه وخصــــومه بالذات، أي المحافظين الجدد، هؤلاء الذين نفذوا بالفــعل مشــيئته وأشاعوا مفهوم الحرب العالمية الرابعة، وجعلوه متداولا في كل أرجاء المعمورة، لكن فقط بعد أن استبدلوا حمولته وخلفيته بما لا علاقة له بالمقاصد التي كان يهدف إليها من نحته في البداية.
كان قائد ثورة الزاباتا، يقصد من وراء استخدامه لمفهوم الحرب العالمية الرابعة، أن يبين أن الحرب الباردة هي الحرب العالمية الثالثة والتي انتهت عمليا إلى هزيمة المعسكر الشيوعي وانهيار الإتحاد السوفييتي، وهو القول الذي سيردده المحافظون الجدد ومعهم الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس جورج والكر بوش، غير أن ماركوس أراد أن يبين أيضا بأن الحرب العالمية الرابعة هي الحرب التي تخوضها النزعة النيوليبرالية ضد شعوب ومصالح دول العالم الثالث، في حين سيعتبر المحافظون الجدد وإدارة الرئيس بوش أن الحرب العالمية الرابعة، ليست سوى الحرب، التي تخوضها أمريكا، ضد الإرهاب العالمي.

حرب على الارهاب أم..؟

خلال عام 2004، تمكن مفهوم الحرب العالمية الرابعة من العودة إلى الديار الفرنسية، وقد عاد هذه المرة، من خلال كتاب أنجزه أحد أبرز المُوالين، في فرنسا، للمحافظين الجدد، ويحمل عنوان: الحَرب العالمية الرابعة، أما صاحب الكتاب، فهو فرانسوا بيرنارد هييغ، مثقف فرنسي يعد من أبرز الداعين هُناك إلى مؤازرة أمريكا في حربها على العراق، بيد أن خصلته الأساسية داخل المشهد الثقافي الفرنسي تكمن في هواية رمي منتقــــديه، كلمــــا عز عليه الدليـــل، بتهمة معاداة السامية.
وفي نيسان (أبريل) 2005، نشرت جريدة بولتيس الفرنسية، وهي جريدة مقربة من اليسار الجذري، مقالا يطرح السؤال: هل الحرب على الإرهاب ستكون بمثابة الحرب العالمية الرابعة؟ ، لعل هذا السؤال، ومن مَوقع اليسار الجذري، يؤكد أن مفهوم الحرب العالمية الرابعة، كما دخل فرنسا عام 1997 قادما من أدغال الثورة الزاباتية بالمكسيك، ليس هو نفس المفهوم الذي عاد إليها قادما من مراكز الدراسات الإستراتيجية بالولايات المتحدة الأمريكية. لقد كان من النتائج الجذرية لاعتداءات الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) أن مفهوم الحرب العالمية الرابعة، والذي كان يراد له أن يعبر عن الهجمة النيوليبرالية على مصالح دول وشعوب العالم الثالث، أصبح يحيل على المواجهة المفتوحة بين الولايات المتحدة ومنظمة القاعدة، مواجهة يصبح فيها ضحايا الإرهاب، هم أنفسهم ضحايا الهجمة النيوليبرالية، من عمال وموظفين بسطاء سواء في مانهاتن أو ممـــن يرتادون القطارات في لندن ومدريد.
لقد انتقلت الحرب العالمية الرابعة، من مرحلة كانت تدل فيها على المُواجهة المفتوحة بين كل من مَصالح الشركات متعددة الجنسية من جهة، وبين مصالح شعوب ودول العالم الثالث من جهة أخرى، إلى مرحلة الدلالة على المواجهة بين القيادة الأمريكية وما يسمى بالإرهاب، ولعل التساؤل الذي يستبد بأذهاننا الآن، يتعلق بالمكاسب الإستراتيجية التي يمكن أن يجنيها المحافظون الجدد من وراء محاولة استبدال مفهوم الحرب على الإرهاب، بمفهوم الحرب العالمية الرابعة، ولتحليل هذه المكاسب، لابد من الإشارة إلى أن المفاهيم هي تكثيف لعدد من التصورات، وتحقيق لعدد من المكاسب، وبناء عليه فإن التصورات والمكاسب التي يحملها مفهوم الحرب العالمية الرابعة، يمكن إجمالها على النحو التالي:
أولا: إن أمريكا التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية على النازية، وانتصرت في الحرب العالمية الثالثة على الشيوعية، يمكنها أن تنتصر أيضا في الحرب العالمية الرابعة على الإرهاب.
ثانيا: إن أمريكا التي قادت العالم، خلال حكم روزفلت، إلى الانتصار في الحرب العالمية الثانية، وقادت العالم، خلال حكم ريغن، إلى الانتصار في الحرب العالمية الثالثة، بإمكانها أن تقود العالم للانتصار، في الحرب العالمية الرابعة!
ثالثا: إذا كانت الحرب العالمية الثالثة قد استمرت لما يناهز نصف قرن من الزمن، فعلينا أن نستعد لحرب عالمية رابعة قد تستغرق قرنا كاملا، وبناء على ذلك فإن الأمر يتعلق ببرنامج حرب تلتزم به كل الحكومات التي ستعقب حكومة جورج والكر بوش، بصرف النظر عن طبيعة الحزب الحاكم.
رابعا: من أجل الانتصار في الحرب العالمية الرابعة، وكما كان الشأن خلال الحروب السابقة، فإن مسألة الزعامة الأمريكية للعالم يجب ألا تكون موضع خلاف.
وفي يوم الجمعة 21 تشرين الأول (أكتوبر) 2005، وبمناسبة حفل افتتاح المكتبة الرئاسية، التي ستحمل اسم الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغن، ألقى الرئيس بوش الابن خطابا ربط من خلاله بين حــــربه على الإرهــــاب وحـــرب ريغن على الشيوعية، ثم أقسم بأن الولايات المتــــحدة الأمريكـــية ستهزم المتطرفين الإسلامــــيين، كما هزمت الإتحاد السوفييتي.
من الواضح إذن أن ما قصدَتْه الأيادي التي اختطت مفهوم الحرب العالمية الرابعة، هو الترويج لتصور يفيد بوُجود نوع من الاستمرارية في مسار الانتصارات الأمريكية خلال الحروب العالمية السابقة، وإذا كانت الحرب العالمية الثالثة قد تجاوزت أربعة عقود، فعلينا أن نستعد لحرب قد تطول لأكثر من ذلك، سيما وأن الاتحاد السوفييتي كان يستند إلى إيديولوجية، ومن طبيعة الإيديولوجيات أن لا تعمر طويلا في حركة التاريخ، وأما منظمة القاعدة فإنها تستند إلى عقيدة دينية، أو بالأحرى أنها تستند إلى تأويل يرتبط بعقيدة دينية، في حين أن العقائد الدينية وكذا التيارات المرتبطة بها، فإنها تمتلك نفسا تاريخيا طويلا، يمكن أن نستنتج، من خلال ذلك، أن هناك تصورا يراد تثبيته وإشاعته، يقوم على أساس أن الحرب على الإرهاب، والتي هي الحرب العالمية الرابعة، هي حرب قد تستغرق عقودا طويلة من الزمن، في انتظار الانتصار الحتمي تحت لواء الزعامة الأمريكية.

حرب استباقية

ويجدُر بنا أن نشير إلى أن هذه الحرب، التي حاول الكثيرون أن يصطــــلحوا عليها باسم الحرب العالمية الرابعة، تتميز عن سابقاتها بخاصية أساسية، لم يسبق لها في التاريخ أن ميزت أية حرب أخرى، إذ أنهــــا، ومنذ اللحظــــة الأولى لانطلاق شرارتها، حملت صفة الحرب الإستــــباقية، وهذا ما يضــــعنا أمام تصور أساس يمكن إضافته إلى ما سبق ذكره من تصورات مرتبطة بمفهوم الحرب العالمية في طبعتها الرابعة.
فلقد استخدم الرئيس الأمريكي أول الأمر، مصطلح الضربات الإستباقية، في الفاتح من حزيران (يونيو)2002، غير أن الخلفية التأسيسية لهذا المصطلح تعود إلى ما قبل هذا التاريخ، أي إلى ما قبل اعتداءات الحادي عشر من ايلول (سبتمبر). ففي ايلول (سبتمبر) 2000، أصدرت مؤسسة أمريكية تحمل اسم المشروع من اجل قرن أمريكي جديد (بناك)، تقريرا اشتهر بنفس الاسم، وتم اعتباره منذ وقت صدوره بمثابة خارطة الطريق التي ستعتمدها الإدارة الأمريكية، وقد جاء في الورقة الخاصة بإعلان المبادئ لذلك التقرير ما يلي: إن ما يجب أن نتعلمه من تاريخ القرن العشرين، أنه من الأفضل التأثير على سير الأحداث قبل ظهور الأزمات، ولا بد من الرد على التهديدات قبل أن تصير لها نتائج كارثية، ما يجب أن نتعلمه من هذا القرن (القرن العشرين) هو ضرورة وأهمية الحفاظ على الزعامة الأمريكية للعالم ، ولقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية، خلال تجارب الحروب السابقة، تتدخل لكن فقط بعد اندلاع الحرب، ومن أجل وقفها والانتصار على من بادروا إلى إشعال فتيلها. بيد أن الدرس الأساسي للحادي عشر من ايلول (سبتمبر) يكمن في أن الولايات المتحدة الأمريكية لا يجب أن تظل مكتوفة الأيدي في انتظار اندلاع الحرب أو العنف قبل أن تتدخــــل، وذلك بسبب أنها هي نفسها قد تكون أولى ضحايا العنف، ولذلك يجب على الحكومة الأمريكية أن تتعلم كيف تستبق العنف قبل انبثـــاقه، كيف تســـتبق الحروب قبل اندلاعها، وبالجملة يجب أن تكون الحرب العالمية الرابعة هي آخر الحروب والتي ســـتضع حدا لكل الحروب وستقضي مرة وإلى الأبد على ممكــــنات أي حرب أخرى، وهـــكذا، فأينما كان ثمة زيف كبير، إلا ولف ذلك الزيف الحقيقة تحت حجابه، على أن وجـــه الحقيقة الــــثاوية خلف هذا المفهوم (الحرب العالمية الرابعة)، هو أن حـــربا بمــــثل هـــذه الفظـــاعة التي يشهدها العراق، يجب أن تكون فــعلا هي الحرب الأخيرة.
فضلا عن ما قيل عن التصورات التي يحملها مَفهوم الحرب العالمية الرابعة، فإن استدعاء هذا المفهوم يأتي بسبب قدرته على التعبير عن واقع لم يعد بوسع مقولة الحرب على الإرهاب أن تعبر عنه، فالحرب المدمرة التي خاضها الجيش الأمريكي في العراق، لا علاقة لها بالعدالة التي يجب أن تطال المسؤول الأول عن اعتداءات الحادي عشر من ايلول (سبتمبر)، وفق ما كان يقتضيه الاحترام الواجب لعائلات الضحايا. لقد انحرفت أنظار العالم برمته عن عدالة 11 ايلول (سبتمبر)، وكما يحدث في الأحلام، وفــــق ما يكشف عنــــه التحليل النفسي، فقد تم استبدال الموضوع الحقيقي للرغــــبة، وهو اعتقال ومحاكمة الملياردير السعودي باعتــــباره المسؤول الأول عن مجزرة الحادي عشر من ايلول (سبتمبر)، بموضوع بديل للرغبة يكمن في اعتقال، محاكمة ثم إعدام الرئيس العراقي السابق باعتباره مسؤولا عن مجازر بديلة، من قبيل المجازر ضد الأكراد والشيعة، وغـــني عن القـــول أن عملية الاستبدال كانت بارعة ومحبوكة.
وبما أن مصطلح الحرب على الإرهاب لا يستطيع التعبير عن حرب ضحاياها الأساسيين هم من غير المسؤولين عن الاعتداءات الإرهابية، وعادة ما ليسوا من القوى الدينية المحافظة، إن لم يكونوا من أخر بقايا الفكر السياسي التقدمي العربي، وعلى رأسهم الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات، الرئيس العراقي السابق صدام حسين، ثم الرئيسين السوري واللبناني، فإن المحافظين الجدد طالبوا منذ الوهلة الأولى التي أعلن فيها بوش ما يسمى بالحرب على الإرهاب، باستبدال هذا المُصْطلح، بالحرب العالمية الرابعة.
لقد توقع الكثيرون أن تعَمر الحرب العالمية الرابعة طويلا، وأن تكون أطول الحروب العالمية على الإطلاق، لكن المفهوم تلاشى سريعا، ولم يتوقف دوي المدافع بعد، ستكون الحرب طويلة بالفعل، ورُبما هي في مجرد بدايتها الآن، لكن مفهوم الحرب العالمية الرابعة لم يعمر طويلا، فقد توارى عن الأنظار وأسدل عنه الستار، وبقى السؤال، هل سيتخذ ذلك المفهوم دلالات جديدة، أم أننا سنسمع قريبا من يُحَدثنا عن الحرب العالمية الخامسة؟!