ابراهيم حجازين -باحث وكاتب أردني، ناشط يساري وعامل في مجال حقوق الإنسان- في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أحداث النهوض في البلاد العربية من منظور تاريخي .


ابراهيم حجازين
الحوار المتمدن - العدد: 4271 - 2013 / 11 / 10 - 17:12
المحور: مقابلات و حوارات     

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -116 - سيكون مع الأستاذ د.ابراهيم حجازين-باحث وكاتب أردني، ناشط يساري وعامل في مجال حقوق الإنسان -  حول: أحداث النهوض في البلاد العربية من منظور تاريخي .

 


1)مقدمة: هيراقليط عندما تكلم عن الحركة والتغيير الدءوبين افترض صيغة أن الإنسان لا يسبح في النهر مرتين على اعتبار أن ماء النهر يتحرك ويجري باستمرار لذا فالنهر ذاته يتغير أيضا باستمرار، هذه هي عملية التغيير والتطور القائمة على صعيد الواقع الموضوعي منذ أن استوى كوكبنا ضمن المجموعة الشمسية، لكن هيراقليط لم يفترض أو يتخيل بأي حال من الأحوال، أن يجلس احدهم على حافة النهر دون حتى أن يبل قدميه ويرى عملية التغيير من غير أن يتغير بل أن يعمل على منعها وعرقلتها. العالم تغير ويتغير باستمرار ونحن نقبع كبلاد وشعوب ومجتمعات وحكام في مكاننا دون تغيير حقيقي يولد مجتمعات حية ديناميكية منتجة. أما في المضمون فالحركة بطيئة وتسير في اتجاهات متناقضة. لم تظهر تلك الطبقة او الفئات الاجتماعية بعد التي لها مصلحة في التطوير من جهة والمرتبطة بالإنتاج والعلم من جهة أخرى، تلك القوى القادرة على قيادة حركة التغيير إلى الإمام وهدم كل ما هو معيق للتقدم وإعادة بناء المجتمع والتصدي للقوى المهيمنة طبقيا والقيام بعملية التنوير اللازمة لتحرر المجتمع. لقد عملت عوامل خارجية ولعبت الأنظمة المستبدة والرجعية دورا حاسما في لجم التغيير المجتمعي وقمعت أي حراك او تعبير جماهيري عن الرغبة او الإرادة في بناء مجتمعات حديثة.
لما دخلت أوروبا في المرحلة الرأسمالية كانت البلاد العربية ترزح تحت أنظمة قديمة هرمة كالمماليك والعثمانيين لاحقا. وفي الوقت التي كانت القوى الاجتماعية الناهضة في الغرب تخوض معاركها مع الإقطاع وسيطرة الكنيسة والأنظمة المستبدة حققت ترابط عضوي بين المصالح الحيوية في الربح وتراكم رأسمال وبين الاكتشافات والاختراعات، أي ربطت هذه الطبقات المعرفة الحديثة والقديمة المعاد دراستها بسبل ونمط الإنتاج بحيث أصبحت منتجة للرأسمال، هذا المزيج ولد دينامكية فعالة لم تكن موجودة حتى تلك اللحظة على وجه البسيطة وغيّر من وجه المجتمعات الغربية والتاريخ البشري وأعطاها قوة وقدرة وأساليب علمية لتكون قادرة على توجيه طاقاتها بما يخدم تلك المصالح الاقتصادية التي تظهر لأول مرة في التاريخ. في تلك المرحلة كان أسلوب او نمط الإقطاع الشرقي هو السائد في الشرق وهو الذي يتميز بقدرته العجائبية على ابتلاع كل فائض يتشكل ويمنع تراكم الرأسمال ويعيد بالتالي إنتاج نفسه من خلال التوسع الجغرافي حتى يصل إلى نهاية مداه وهكذا دخلت الدولة العثمانية بعد توسعها في أوروبا واسيا وأفريقيا في مرحلة النهاية وأصبحت رجل أوروبا المريض. من الحتمي في ظل السبق التاريخي للغرب أن نكون نحن ضحاياها في وضع التبعية عاجلا آم آجلا للمستعمر الغربي. وهو ما حدث.
عمد الغرب وخاصة بريطانيا لبسط سيطرته الاستعمارية على المنطقة العربية الخاضعة للحكم العثماني في سياق التنافس مع الدول الاستعمارية الأخرى وخاصة فرنسا إلى المحافظة على الدولة العثمانية في حالتها الضعيفة وإبقائها متماسكة وحال دون انهيارها انتظارا للظروف المناسبة لوراثة مناطق هيمنتها مع المحافظة على ضعف هذه أيضا، لذا نراه قد عرقل ومنع ظهور أية قوة ناهضة في المنطقة قد تجدد الدولة العثمانية وتعيد لها قواها او الحلول محلها ومن هنا حاصر وأجهض تجربة محمد علي في مصر لبناء دولة عربية واحدة تضم سوريا ومصر. وانتظر حتى قيام الحرب العالمية الأولى لتحقيق أهدافه في المنطقة.
البلاد العربية بدورها كانت في اضعف أوضاعها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا تحت الهيمنة العثمانية وبالرغم من ظهور فئات اقتصادية اجتماعية تحاول البحث عن سبل التحرر والإصلاح وأفرزت حالة محدودة من النهوض منذ أواسط القرن التاسع عشر. إلا أن هذه القوى لم تملك القوة الكافية للتخلص من الهيمنة الإقطاعية العثمانية ووضع مداميك التقدم والبناء، هذه القوى نشأت في إطار البنية الاجتماعية العثمانية وحملت خصائصها وطرقها. من هنا كانت اضعف من أن تلعب دورا نهضويا وتعبويا وتطرح بديلا تاريخيا يقتبس من الغرب او يتمثل به. وربما هذا يفسر قصور برنامج وضعف حركات الإصلاح التي ظهرت في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، واستمرت سمة الضعف هذه ملازمة للقوى الشعبية المتمثلة بالفئات المدينية المتوسطة وطبقة العمال وصغار الكسبة الطامحة إلى التغيير والتقدم والعدالة الاجتماعية حتى في المراحل اللاحقة للتحرر وبناء الدول القطرية وهذه السمة لا تزال مستمرة حتى اليوم.

 


2)هذا شكل بداية التناقض التاريخي، الذي لا يزال قائما حتى الآن، بين ما تتيحه البيئة التاريخية الاجتماعية العالمية من إمكانات هائلة لإعادة بناء المجتمعات العربية وفق متطلبات التنمية، وبناء المؤسسات الحديثة وترسيخ مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، وبما يتيح مستوى معيشي لائق يحفظ الكرامة الإنسانية للفرد العربي بما فيها وتحرير العقل من موروثات القرون الوسطى، وبين نزعتين تعيقان هذا الاحتمال: الأولى تتمثل في رسوخ البنى الاجتماعية المحافظة والقديمة ورجعيتها التي ترفض وتقاوم كل تقدم وخاصة تلك البلدان التي تملك القوة الاقتصادية التي تأسست على اقتصاد الريع النفطي، ونزعة خارجية تمثلت بعد الحرب العالمية الأولى بالاستعمار المباشر وبعد الحرب الثانية بالاستعمار الجديد الذي قادته الولايات المتحدة. التي وقفت بالمرصاد ضد كل تجربة سعت او أظهرت توجها نحو رفض السيطرة الغربية والسير نحو التقدم وعملت على إجهاضها، وليس غريبا أن تلك النزعتين دخلتا في علاقات مصالح متبادلة قائمة على تبعية القوى المحلية ونخبها الحاكمة لمراكز الهيمنة العالمية والعداء السافر لطموحات ومصالح شعوب المنطقة في التحرر والبحث عن طريقها للتقدم والحرية والديمقراطية. وفي هذا السياق كان للقاعدة الإستراتيجية للاستعمار الغربي " الكيان الإسرائيلي" دورا أساسيا في محاصرة تلك التجارب المجهضة عبر الحروب التي شنتها وفي هذا كان هذا الكيان يقوم بدوره الوظيفي الموكل إليه منذ بدا التفكير في الأوساط الاستعمارية الغربية في إنشائه.
في فترة الكفاح ضد الاستعمار المباشر كانت طموحات الشعوب العربية وباقي الشعوب التي تقيم في المنطقة تتمثل في التحرر من الاستعمار وتقرير المصير وبناء دول كبيرة متوحدة قادرة على البقاء في عالم تقوده نزعات القوة والهيمنة، وكان ذلك حق لها، ولكن عوامل عديدة منعت التوجهات الوحدوية وبالتالي نشأت دول قطرية ضعيفة فشلت صهر مكوناتها في مجتمع واحد وهذا ليس من طبيعة الدولة القطرية مما أدى إلى فشلها أيضا في بناء الدولة الحديثة وتحولت القوى المتنفذة والحاكمة بغض النظر عن أصولها أكانت في قيادات حركات التحرر الوطني او من القوى التي شكلت قاعدة للهيمنة الأجنبية إلى أنظمة استبدادية مغرقة في عدائها للجماهير الشعبية ومصالحها. هذه الأوضاع والتي تشير إلى أزمة بنيوية عميقة في المجتمعات العربية تتناقض مع مجمل التقدم الحاصل في العالم وتشكل عائقا أمام عملية التنمية والانخراط في العملية التاريخية العالمية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى مفارقة ذات أهمية في إلقاء الضوء على مغزى التحركات العربية التي ابتدأت منذ عامين ونيف. وهو انه بفعل التطور الهائل في قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج على المستوى العالمي حدث تدويل عميق للإنتاج والرأسمال عم كافة مناطق العالم ودمج في منظومته كل الأسواق العالمية خاصة بعد سقوط تجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي وباقي دول أوروبا الشرقية وانخراط هذه الدول في السوق الرأسمالي العالمي.هذا النجاح له استحقاقاته التي تتطلب بناء الكتل الاقتصادية الضخمة وتوسيع وتطوير الأسواق المختلفة بما يضمن سيل السلع والرأسمال دون عوائق في بيئة دولية مناسبة وتطوير الدول المختلفة ومجتمعاتها وفقا لذلك التطور، ومن بين هذه الاستحقاقات العمل على رفع المستوى المعيشي والاجتماعي والعلمي والثقافي لشعوب الأرض ومعالجة التشوهات التي تمنع انسياب منتجات العصر واستهلاكها بسهولة، صحيح أن الدول الرأسمالية قد أسست المنظمات الدولية الكفيلة بتحقيق انسياب سهل للبضائع مثل منظمة التجارة الدولية التي بإجراءاتها بإلغاء الرسوم الجمركية وصولا إلى صفر ضرائب جمركية، قد أضعفت نمو وتطور البلدان المختلفة وانعكس هذا على قدرة اسواقها في استهلاك المنتجات المختلفة وخاصة رفيعة التكنولوجيا وهذا يعد من العوامل التي قادت إلى الأزمة الاقتصادية العالمية. هذا التوجه المضاد لنزعة تدويل الإنتاج والرأسمال تمثل بمحاولة أمريكية لاستغلال آليات ذلك التدويل لفرض هيمنتها عبر ما اصطلح على تسميته العولمة بشن الحروب وتفتيت ما هو قائم من تكتلات اقتصادية دولية ومنع التوجهات نحو بناء تكتلات جديدة بدلا من دفعها إلى الأمام. ويمكن تفسير العدوان المستمر منذ اوائل التسعينات على المنطقة العربية ضمن هذا السياق. والذي لا يختلف عن النهج الأمريكي الذي عايناه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في تعاملها مع قضايا المنطقة. في هذا السياق عملت هذه السياسة على إخضاع المنطقة للإستراتيجية الأمريكية وتفتيتها وتعميق نزعة الصراعات المحلية. هذا النهج يشكل نقيض للتوجه التدويل ومتطلباته. قد يشكل كما يأمل البعض من يرون مستقبل أخر للبشرية تجمع بريكس اتجاها أكثر إيجابية في التعامل مع نزعة التدويل الحاصلة واستحقاقاتها وأهمها الدفع باتجاه بناء منظومة اقتصادية تفتح المجال لبناء سوق اقتصادي موحدة في المنطقة.
إشارتنا إلى تلك المفارقة التاريخية جاءت لتوضيح الفكرة الأساسية لموضوعنا، والمتمثلة في أن المنطقة العربية أصبحت حبلى بتناقضات عميقة تاريخية اجتماعية لدخول معظم دول العالم في مرحلة رفيعة من التقدم والتطور على كافة الأصعدة بسبب الثورات العلمية والتكنولوجية التي تركت أثارها في طراز معيشة الإنسان وطرق تفكيره، ورغباته وانخراطه في منظومة معلوماتية واسعة ومتشابكة قائمة على أساس الحرية وحرية تبادل المعلومات وانتشار قيم إنسانية كانت مقتصرة على الدول المتقدمة، واصطبحت اليوم متداولة وتشكل أساس لفهم عملية التقدم واحترام كرامة الإنسان وطموحاته. ومن أهم هذه القيم مبدأ حرية الشعوب وأنها هي من تملك السلطة وهي من تعطيها للحاكم بمشاركة حرة بانتخابه وهي من تسحبها منه إذا خرق العقد الاجتماعي الذي كان شكل الأساس للدولة الحديثة. كما تمثلت تلك المفارقة برفض استمرار الإذلال والاستلاب الذي يشكل أساس علاقة الحكام مع شعوبها وإحساس الجماهير الكادحة وخاصة مجتمعات الشباب التي وصلت في أفق مسدود وفقدان أي أمل بالمستقبل انه بإمكانها في ظل أنظمة منتخبة وديمقراطية أن تحسن من مستوى معيشتها وتعليمها وصحتها وان تفتح أمامها خيارات عديدة لتحسين مستقبلها بدلا من حالة العقم الاجتماعي القائمة والتي تسد كافة نوافذ الأمل بحياة كريمة.هذه التناقضات تزادا بمقارنة التقدم العالمي ومستوى البلدان العربية التاريخي المتخلف، وفي نفس الوقت الإحساس أن من مسببات هذه الأوضاع المزرية هي تبعية البلدان العربية لمراكز الهيمنة الدولية والمتمثلة بعداء الولايات المتحدة لأمال وطموحات الشعوب العربية وباقي شعوب المنطقة. والأهم الشعور القائم أن الوقت لا ينتظر فلا بد من القيام بالتغير بأي ثمن وبأسرع وقت في ظل التحديات التي تجابه الوطن العربية وأمنه القومي الذي أصبح معرض كليا للخطر.

 


3) ظهرت محاولات للخروج من هذه التناقضات عبر العقود الماضية الا انها كانت تجهض باستمرار وتم العمل على منع خروج ذلك إلى السطح أو حلها بطرق طبيعية عبر آليات لإدارة الأزمات بزرعها وتضخيمها وإدخال المنطقة بمتاهات الحروب والحروب الأهلية ولنا بالحرب الأهلية في الجزائر أو الحرب الإيرانية العراقية وغزو الكويت ومسبباته وحصار العراق والعدوان عليه أمثلة على ما تستطيعه قوى الهيمنة الدولية من استغلال لظروف وعوامل التفكيك في المنطقة بالزج بالفتن الطائفية والمذهبية والإثنية وغيرها لمنع سيرها بطريق التقدم الذي تتيحه البيئة التاريخية الدولية. إلا أن كل ذلك لم يمنع بل أجج الأزمة في البلاد العربية وجعلها متفجرة.
تأخر المخاض، تأخرت المنطقة العربية الحبلى بتناقضاتها من أن تختط طريقها وتحل التناقضات القائمة بما يلبي طموحات الأغلبية الشعبية بغض النظر عن التوجهات الفكرية والسياسية التي تتقاسمها، فكان لا بد من أن تتفجر المنطقة لا بل تأخر ذلك الانفجار، وكان من الممكن أن يسفر عن تغيير عميق في أوضاعها يضع الواقع العالمي أمام تحديات هائلة خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية والانكفاء المتوقع للقوة الأمريكية. فكان لا بد من إدارة الأزمة بما يمنع وصول الحالة إلى مداها وحل تناقضاتها في مصلحة الشعوب وبالتالي انهيار منظومة الهيمنة وأدواتها كافة في المنطقة من أنظمة وكيان إسرائيلي وبما يضمن المصالح الأمريكية في ظل متغيرات دولية خطيرة قد تضعها على حافة الهاوية.
وتأخر هذا المخاض بفعل الدولة الشمولية العربية التي طبعت بأدواتها الأمنية والرشوة والمحسوبية وقدرتها على اللعب على تناقضات المجتمع والمناورة بين الطبقات والفئات الاجتماعية، طبعت هذه الدولة المجتمع بطابعها وحولته إلى حالة من السكون والجمود المسكون بالخوف والقمع والإرهاب والركض وراء لقمة العيش والمنافع غير المشروعة والتهميش المفزع فأفسدته ودخل بفضلها الفرد في استلاب شديدة الوطأة، بكل تجلياته الاجتماعية والثقافية والسوسيولوجية. استفادت هذه الدولة من الصمت وفي كثير من الأحيان من التواطؤ الدولي ومن منظماته الذي كان يرى في هذه الحالة من الشمولية المطلقة عاملا مساعدا في تمرير مصالحه وتحقيق وتنفيذ مشروعاته في الوطن العربي الذي استباح صباحا ومساءا بثرواته وناسه وكرامة شعوبه وموقعه التابع للدول الكبرى وصراعاتها. ولم يعد للأمن القومي والسيادة الوطنية أثر يذكر إلا في بيانات المناسبات التلفزيونية. وهكذا جرى تاطير الفرد المستلب في دوامة الدولة الشمولية والتابعة.
وهكذا وفي ظل هذه الأوضاع كانت مراكز الدراسات والمؤسسات الدولية تتابع أوضاعنا وتضع السيناريوهات الكفيلة بمنع تفاقم الأحداث في سياق مختلف عما ترغب به، وهي التي لا تخفي عليها خافية ببرامج التجسس والمتابعة فهي من جهة تدفع باتجاه ترسيخ أفضل الظروف لتمرير مخططاتها ومن جهة أخرى تدرك بعين يقظة أن الأمور لا يمكن أن تستمر على ما هي عليه وكان الخيار أن تتدخل لإدارة الأزمة وهي صاحبة الخبرة التاريخية بذلك. منذ طموحات محمد علي او في بدايات القرن العشرين في ظروف النهوض العربي الطامح للتخلص من الحكم العثماني وبناء دولة عربي موحدة في المنطقة بعد ذلك حيث انتهت الامور بتمزيق المنطقة ووضع الأسس لتجسيد المشروع الصهيوني. أو في القيام بالانقلاب المضاد لثورة مصدق في إيران من خلال تحركات جماهيرية مشبوهة. وكان للدور الذي لعبته الأجهزة الغربية في إملاء مسيرة التغيير خلال سقوط الاتحاد السوفياتي وباقي المنظومة الشرقية. لقد تراكمت تجربة وخبرة كبيرة لديها للتأثير على مجريات الإحداث في المنطقة منذ بداية الأحداث في تونس التي فاجأتها في البداية ولكنها استدركتها وأعادت نسج تحالفاتها في المنطقة ولو مؤقتا بما يضمن لها استمرار هيمنتها وفي أحداث مصر، ولا بد من الإشارة أن هذه الدولة العربية الكبرى كانت تموج بتيارات عارمة وتفجرها كان سيطيح بمخططات إدارة الأزمة. ثمة إشارات أن اتجاهات وتيارات سياسية مختلفة قد ساهمت في بداية الأحداث في مصر تحت تأثير حدة الأوضاع الداخلية وترديها وانفجار تونس. الاتجاه الأول تمثل بالحركات القومية واليسارية المصرية التي لم تغادر الشارع منذ صعود الساداتية ولاحقا حكم حسني مبارك وبالرغم من ضعفها ومحدودية تأثيرها، إلا أنها كانت دوما في موقع المبادرة فقد أرست خطابا وممارسات نضالية لا يمكن إنكارها بل اذكت دافعية الشعب المصري للتغيير خاصة في دورها في دفع فئة الشباب المصري نحو مرحلة ارقى من الوعي والرغبة في التغيير، ولا يمكن إغفال تداخل الوعي الشبابي ذاك مع تأثره بمعطيات وقيم الحريات الليبرالية التي انتشرت في العالم في العقود الأخيرة، وهنا لا بد من أن نشير إلى دور المنظمات غير الحكومية بأنواعها المختلفة وخاصة تلك الخاضعة للمركز الأجنبية التي تعتبر أدوات للتأثير على الحركة الجماهيرية وتوجيهها وهنا لا نغفل دورها وعلاقاتها مع بعض دول الخليج التي ساهمت عبر وسائل الإعلام الفضائية في تأجيج المشاعر ومساعدة الحركة على السير في طريق محدد خدمة للمخططات إياها. والقوة او الاتجاه الاهم والذي تاخر انخراطه في الحراك الحركة الإسلامية الأكثر تنظيما وتأثيرا على المجتمعات العربية التي شاركت في ظل تطمينات واضحة لدور أساسي ستلعبه في مستقبل البلدان العربية فتحركت بهدف تحقيق السبق بالحصاد.
سارت الأحداث في ظل صراع تلك القوى واتجاهات من النخب المتسيدة سابقا التي التقطت أنفاسها وكيفت تكتيكاتها وفقا للنتائج بعد سقوط مبارك، وهي التي تملك الأجهزة والتجربة والعلاقات وخاصة مستلزمات القوة وقامت بمبادرات بتحالفات مؤقتة وذكية مع مجمل التيارات التي الفاعلة في المنطقة او في مصر تحديدا. ووصل تطور الاوضاع إلى مرحلة اصبح المرء يتوقع عودة القديم إلى مواقعه السابقة. طبعا لا احد يتوقع ذلك فلن تعود أوضاع البلاد العربية إلى ما كانت عليه سابقا . ولكن في نفس الوقت لا يتوهم احد أن الأهداف التي اشرنا إليها من ضرورة بناء الدولة الديمقراطية والمدنية دولة المحافظة على كرامة الإنسان الدولة القادرة على وضع البلاد العربية في مسير التاريخ العالمي قد تحققت او انها في سبيلها للتحقق.
لماذا لم تتحقق الأهداف المتوخاة من الحراك العربي في السنوات المنصرمة. نقول في البداية، أن مسير التغيير لم تنتهي بعد حتى ولو سلكت طريقا مختلفا عن مراحل البداية أو اتخذت أشكال أخرى فهي لا زالت مستمرة ولكن ليس كما يرغب الجميع. الإنسان يصنع مستقبله من خلال المشاركة في صنعه ولكن ليس حسب رغبته، بل حسب قوة تاثيره، ولهذا نشير أن من أسباب ذلك أن القوى المرتبطة بمصالح الجماهير وبقيم التقدم والديمقراطية كانت الأضعف من كافة النواحي، فهي لم تمتلك برنامج واستعداد لهذه المرحلة بل يمكن أنها قد تفاجأت في بعض الجوانب من سعة الحراك وانخراط الجماهير به بل وارتبكت في التعامل معه، بينما كانت القوى والاتجاهات الأخرى، أفضل تنظيما وقدرة على التأثير على الأحداث بما فيها قوى النظام القديم.
من الضروري أن نشير أن من العوامل التي أربكت قوى التغيير والجماهير أيضا، أحداث ليبيا وتدخل الناتو بوحشية فيها مما أرعب شعوب المنطقة وأجهض الأمل بتطور سلمي لاحق للحراك العربي وساهم هذا في نكوص الجماهير عن الاستمرار في حراكها، وكذلك لعب التدخل الخارجي في سوريا ودور دول الخليج السلبي في ذلك مما فكك القاعدة الاجتماعية الواسعة لقوى التغيير والحراك ولا بد من التعرض هنا إلى الدور السلبي الذي لعبته الإعلام والقنوات الفضائية حيث أتت بنتائج عكس ما كانت ترجوه هي بالذات فبدلا من أن تكسب الجماهير لدعم توجهاتها خسرت أعدادا هائلة من المشاهدين وأثارت العداء للدول التي تشغلها مما يدل أن وعي الناس حتى في الأزمات الكبرى قد يكبح من التوجهات الخاطئة والتي قد تحرف النضال لدرجة انه قيل اذا أردت أن تخسر قضية دع قنوات الخليج تدافع عنها، وفي هذا درس هام للمستقبل . وكذلك لعب الدور الهام في إجهاض الحراك أو إضعاف وتيرته التكتيك الذي اتبعته الحركة الإسلامية في مختلف البلدان للاستئثار بنتائج النهوض العربي او الهيمنة عليه وإقصاء القوى الأخرى او معاداة الأقليات الطائفية والدينية مما فك من عرى التحالفات القائمة وعمق من الهوة بينها وبين القوى الجماهيرية الأخرى بالرغم من الآمال التي كانت معلقة على مثل هذه التحالفات. تطور الأوضاع في مصر لاحقا وسقوط الحكم الإسلامي وفي سوريا مع دخول الأوضاع إلى مرحلة العنف والتفتيت بتحريض من الخارج العربي والغربي أجهض الحراك الجماهيري وساهم في انتكاسته، وهذا يكشف أن الغرب وأمريكا بالتحديد أدار معركته بنجاح واستغل جوانب الضعف وعمل على إفشال حركة النهوض العربي.

 


4)انتهت الثورات الأوروبية من أعوام 1848 بانتصار الثورة المضادة عام 1849، ففي فرنسا وصل إلى رأس السلطة لوي بونابرت مع قيم العالم السفلي الذي أتى منه ونصب نفسه إمبراطورا ممثلا لقوى اجتماعية اشد رجعية وطفيلية من تلك التي انتفض ضدها الشعب الفرنسي في بداية ثورته، وكذلك الامر في ألمانيا حققت الثورة المضادة أيضا انتصارها، ومع ذلك لم يكن باستطاعة قوى الثورة المضادة أن تعود بالتاريخ الأوروبي إلى الوراء، لقد أزاحت تلك الثورات مزيدا من العراقيل وبقايا النظام الإقطاعي التي كانت تحد من تطور الرأسمالية في بلدان أوروبا. وأعطي دفعة للقوى الناهضة في المجتمع الأوروبي من برجوازية ليبرالية كما صعّد إلى المسرح التاريخي الطبقات العاملة التي بدأت تتحرر من أوهام التبعية للبرجوازية والبرجوازية الصغيرة وتشق طريقها المستقلة.
وكذلك انتهت المرحلة الأولى من النهوض الذي اجتاح البلاد العربية والتي بدأت بحرق بو عزيزي تاريخا من القمع والاستبداد والاستهانة بكرامة الإنسان. لكن في المحصلة لم تحل مهام المرحلة ولا التناقض الذي بدا وكأنه في سبيله إلى الحل وتحقيق الأهداف المنتظرة من الحراك الشعبي والشبابي، والمتمثلة بفك التبعية للمراكز الرأسمالية خاصة الولايات المتحدة ولم تتهيأ الظروف لطرح برنامج ديمقراطي نهضوي وحدوي عربي يضع نصب عينيه الحفاظ على الأمن القومي المهدد كليا بأجندات أجنبية وبدول الجوار، ويضع الأساس لتنمية شاملة في مصلحة الجماهير. انتهت المرحلة الأولى ولا تزال مسالة التناقض التاريخي بين المتاح وبين قدرة القوى المعادية لتقدم المنطقة من قوى استعمارية خارجية وقوى رجعية داخلية قائمة، وكأن الإحداث التي مرت لم تحقق أيا من أهدافها. ومع ذلك اكتسبت القوى مزيدا من الخبرات واكتشفت أن من أسباب ضعفها وعدم قدرتها على قيادة الحراك او اقلها التأثير بقوة فيه التمزق القائم في صفوفها، مما أعطى للخصوم القدرة على المبادرة وقيادة الأحداث في حين غابت القوى اليسارية او القومية وتذيلت للقوى الأخرى إسلامية كانت ام قوى النظام القديم . لعل خبرات النهوض في المرحلة السابقة تدفع تلك القوى لإعادة النظر بخطابها وقدرتها على تنظيم الجماهير ورفع وعيها لتحريرها من التبعية للقوى المضادة للثورة بكافة تلاوينها، وهذا يستدعي منها أن تتحرر هي أيضا من التبعية لهذه القوى ولكن في نفس الوقت أن تتقن وبحنكة صياغة التحالفات دون تذيل ولكن بهدف كسب القواعد الشعبية الواسعة بربط مصالحها الاجتماعية مع مهام التحرر من التبعية للمراكز الرأسمالية والتغيير الديمقراطي.