أفنان القاسم - اديب ومفكر - في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: الأدب العربي لم يرق إلى المعلقات وألف ليلة وليلة


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 3901 - 2012 / 11 / 4 - 15:21
المحور: مقابلات و حوارات     

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -91 - سيكون مع الأستاذ د.أفنان القاسم  - اديب ومفكر - حول: الأدب العربي لم يرق إلى المعلقات وألف ليلة وليلة .


الشعر

أعتقد أن الشعر العربي قديمه وحديثه لم يستطع تجاوز المعلقات السبع إلى يومنا هذا، وكأن قمة الشعر العربي كانت في "بدايته"، ثم حصل انهياره الهيكلي على مستوى الوظيفة ومستوى الحدث ومستوى الخطاب. عندما نقول على مستوى الوظيفة نعني المعاني، وعلى مستوى الحدث نعني الفعل التصوري، وعلى مستوى الخطاب نعني الكلام وما يقترحه من دلالات وعلامات وإشارات. فيما يخص المعاني، بقي الشعر العربي يدور في فلك المدح والهجاء، الفخر والرثاء، الغزل والوصف، ربما ليس بالشكل الذي نجده لدى امرئ القيس أو طرفة بن العبد مثلاً، ولكن أقرب ما يكون إلى ذلك، وغالبًا تحت ثوب ذي تفصيل معاصر. وفيما يخص الفعل التصوري، كان هذا الفعل وسيلة نقل للشعر العربي، كفعل العشق، وفعل الثورة، وفعل الغضب، وحتى أن هناك فعل الخيبة الكبت الإحباط كما هو لدى زهير بن أبي سلمى أو الحارث بن حلزة مثلاً، وداخل نظام القصيدة كان العشق والثورة والغضب والخيبة والكبت والإحباط عبارة عن علاقات متغايرة الخواص والعناصر يغلب الفعل فيها على الفاعل أو الفاعل على الفعل، علاقات يتم فيها تغييب الإنساني على حساب البنيوي، نجدها في كل القصائد العربية، إلا قليل القلة منها كما هي لدى سعدي يوسف أو قاسم حداد مثلاً. وفيما يخص الكلام، تطور كلام الشعر العربي في لغته، فهيهات بين اللغة في العصر الجاهلي واللغة في العصر الوسيط أو العصر الحديث، لكنه لم يتطور في دلالاته وعلاماته وإشاراته التي بقيت هي هي لدى السياب أو الخنساء مثلاً.

نستنتج مما سبق:

أولاً) لم يرافق الشعر العربي في تطوره تطور البنية الاجتماعية، ولم يظهر سوى غير المتواصل في البنية الفكرية بينما غاب المتواصل في مداه الأفقي منذ المعلقات أو بقي ذا أثر ضعيف كما هو عليه لدى المتنبي والمعري مثلاً من الأدب القديم أو شوقي وأدونيس مثلاً من الأدب الحديث، فهؤلاء الشعراء تميز كلامهم الشعري في مرحلة محددة من تطور اللغة بالنسبة لكلام غيرهم من ذات المرحلة، بمعنى أنهم قطعوا مع المتواصل في مداه العمودي من شعراء مرحلتهم فيما بينهم، مئات آلاف القصائد المتشابهة، وكأنها قصيدة واحدة لشاعر واحد، وأنهم كتبوا قصيدة مغايرة، فأسسوا بها لغير المتواصل مع غيرها في مرحلتهم دومًا، لكنهم لم يذهبوا بالشعر العربي في تعاقبه إلى أبعد مما كان عليه الشعر الجاهلي.
ثانيًا) لم يتبدل الشعر العربي منذ المعلقات كنظام شفهي، من سوق عكاظ إلى البلاط إلى أنترنيت، هذا يعني علميًا غياب القراء، القصيدة في العصر الجاهلي كانت تلقى ولم تكن تقرأ والقرآن في العصر الإسلامي كان يلقى ولم يكن يقرأ وبعد جمعه صار يتلى وشتان بين التلاوة والقراءة، والشعر في العصر الحديث لم يعد يلقى ولم يعد يقرأ –إلا من قليل القلة- وبدلاً من أن يكون التعارض بين القصيدة الحديثة والقصيدة الجاهلية فنيًا صار التعارض بين سامع وقارئ على المتن الذي هو الشعر، مما أدى إلى هبوطه، يكفي أن نستمع إلى قصائد درويش الطنانة أو تلك التي لأحمد مطر مثلاً.
ثالثًا) في القصائد الجاهلية هناك النظم (الشعر) وهناك الروي (الرواية) وهناك الدراما (المسرح)، تتواشج العلاقات البنيوية ما بينها في سوق عكاظ، وتقترب مما كان الأمر عليه لدى الإغريق، لكنها تبقى رهينة نظام البداوة، وبالتالي تظل القصيدة العربية رهينة هذا النظام، تسعى قدر المستطاع إلى امتلاك الروي الروائي والفاجع المسرحي بعد امتلاك النظم العروضي، وهي إن تميزت في مرحلة زمنية بالنسبة لغيرها، أبو شادي والشابي مثلاً، فبسبب نجاحها في امتلاك هذين السردين، لكنها أبدًا لم تصل إلى قوتهما في المعلقات، وبسبب طغيان "المسرحة" في القصيدة الجاهلية، دون استقلال هِلّيني ووعي جماعي لهذا النوع من الإنتاج الفكري، وليس بسبب اللغة، فاللغة تظل وسيلة نقل ليس غير... أو، لنعكس أطروحتنا: بسبب عدم طغيان "المسرحة" في القصيدة العربية، لم تكن هناك قصيدة عربية تنافس القصيدة الجاهلية، ولم يكن هناك مسرح عربي إلا ما ندر، وكاستثناء فقط نوجز تكوّنه -ولا نقول تطوره فهو بقي في طور سِفْر التكوين- في المسرح المصري والمسرح السوري أو المسرح الفلسطيني مثلاً. وكفريدة فيما يخص القصيدة الفلسطينية نذكر القصيدة العامية لسيمون عيلوطي، وبالضبط بسبب اللهجة العامية التي حمته من كنية شاعر المقاومة، ارتقى شعره إلى مستوى دراميّ عال، وجيّر لحسابه ما يدعى الزجل منذ الأندلس، فأضفى المتواصل لديه قيمة جديدة على كل الشعر العامي. الشيء نفسه نذكر كفريدة فيما يخص القصيدة العراقية شكسبيريات نصيف الناصري.



النثر

أعتقد أن النثر العربي منذ ألف ليلة وليلة إلى اليوم لم يتجاوز هذا العمل "المجهول الهوية" لأسباب عديدة أهمها عدم تحديد هذه الهوية، مما جعله يرقى في الحال إلى مصاف الكونية، وعن خطأ تم ربطه بالخيال الشعبي، بينما من الجدير ربطه بالخيال العلمي، خيال علم علاقات إنتاج ذلك الوقت، ليأخذ بعدًا جديدًا يضفي على ميزاته الزمكانية إسنادات مختلفة عما درج على اجتراره البعض، ويضعه في محور مستقبلي في تعاقب دائم عندما يغدو بساط الريح المركبة الفضائية والمصباح السحري الكمبيوتر وطاقية الإخفاء الرجل الخفي لدى ويلز ثم ماكينة الزمن وكل المكننة التي تبعت ذلك، خطوات قريبة ما قبل التكنولوجيا في الغرب، وبعيدة ما قبل "التكنولوجيا" عندنا. أضف إلى ذلك أن هذا النص الشفهي هو في الوقت ذاته مبني على الجملة في لغته مما يجعل منه نصًا مقروءًا عن أبطال يعارضون المقروء بوصفهم شخصيات "من نطق شهرزاد"، موديلات نطقية أكثر منها جملية، أكثر منها مكتوبة. هذا التناقض لهو من جوهر الشخصية الشهرزادية، وهو لصالحها، ومن جوهر الكلام الشهرزادي، وهو لصالحه. وبالتالي لصالح الأدب وعلاقته بالكلام كأداة للتعبير عن الفكرة، العاطفة، أو الجمال، كما يقول بارت: إذ لا يتوقف الكلام عن مصاحبة الخطاب، وذلك بمده إليه مرآة بنيته الخاصة به. وكل المشكل في النثر العربي يكمن هنا، الكلام، أي لغة الخطاب (أقصوصة، قصة، رواية)، يعجز عما نجحت فيه ألف ليلة وليلة من ازدواج بين الشفهي والكتابي، بين الوصفي والحقيقي، بين الكوني والمستقبلي.

نستنتج مما سبق:

أولاً) تم تأسيس النثر العربي اعتمادًا منه على خطأ: أن ألف ليلة وليلة من بنات الخيال الشعبي، وهي لهذا، بتوصيفها المغلوط، تنتمي إلى الأدب الشفهي. كانت المقامات همزة وصل بين الأدب القديم والأدب الحديث، من البخاري إلى إميل حبيبي، ومن الهمذاني إلى الغيطاني، ومن الجاحظ إلى أحلام مستغانمي، وفي حالة هذه الأخيرة يمكن إيجاز النثر الحِكَمي في أدنى قِيَمِهِ. لهذا كانت الذائقة الشعبية ذائقة شفهية، أي لا ذائقة. عندما تطبع خمسمائة نسخة من رواية لا يشتريها أحد عندنا، وعندما تباع هنا في الغرب بعض الكتب بمئات آلاف النسح بملايين النسخ نفهم لماذا النثر العربي نثر الثغر لا نثر العين.
ثانيًا) النثر العربي في معظمه نثر حقيقي، واقعي، حتى الوصفي فيه لهو وصف حقيقي، واقعي، لهذا لم يصل أبدًا إلى الجدل بين الواقع ووصف الواقع كما هو عليه في ألف ليلة وليلة. ظل النثر العربي يراوح في غير المتواصل، مئات آلاف القصص التي لم تواصل السير بعد قصص شهرزاد، لهذا لم يكن لدينا موباسان عربي أو كامو عربي أو كافكا عربي أو فوكنر عربي أو ماركيز عربي أو غونتر عربي أو وولف (توم وولف) عربي أو ترانسترومر عربي... القائمة طويلة. تغطية عمل من الأعمال على باقي الأعمال أو كاتب من الكُتاب على باقي الكُتاب يجب النظر إلى ذلك بالنسبة لأعمال مرحلة ما وكُتاب مرحلة ما وليس بالنسبة إلى أعمال كل المراحل وكُتاب كل المراحل. بالنسبة إلى أعمال كل المراحل وكُتاب كل المراحل المرجع هو ألف ليلة وليلة وكاتبها المجهول، وهنا يكون عدم التواصل، فلا كاتب يتفوق على كاتب ألف ليلة وليلة ولا كتاب يتفوق على الكتاب الشهرزادي، غير المتواصل هنا كامل، ومن الناحية التعاقبية هو سلبي. لكنه يغدو إيجابيًا عندما يكتب محفوظ رواية كأولاد حارتنا أو كنفاني رواية كما تبقى لكم أو الغيطاني رواية كرسالة في الصبابة والوجد أو حنا مينة رواية كالياطر أو إبراهيم الكوني قصص شجرة الرتم أول مجموعة قصصية له وأجمل ما كتب الكوني برأيي، هذه القصص وهذه الروايات تتميز عن غيرها وهؤلاء الكُتاب يتميزون عن غيرهم تبعًا لزمنهم من "المتواصلين" ما بينهم في أردأ ما كتبوا.
ثالثًا) لكن رواية كالثلاثية لمحفوظ برزت على حساب أولاد حارتنا ورجال تحت الشمس لكنفاني على حساب ما تبقى لكم والزيني بركات للغيطاني على حساب رسالة في الصبابة والوجد والشراع والعاصفة على حساب الياطر والمجوس، المملة، المسئمة، اللامقروءة، للكوني على حساب شجرة الرتم، جعل ذلك من غير المتواصل عائقًا بالنسبة لأدب كل كاتب، وبالنسبة لكُتاب آخرين جديدي الكتابة كالعراقي صلاح صلاح أو الفلسطيني عبد الحميد عبود أهملهم النقاد (هل يوجد؟ صبحي الحديدي ناقد موهوب وحميد لحمداني ناقد موهوب وإبراهيم خليل ناقد موهوب ومنصف الوهايبي ناقد موهوب وبركات زلوم ناقد موهوب وصاحب مدينة الله حسن حميد ناقد موهوب ونبيل عودة عارض موهوب) إذن أهملهم غير من ذكرت من النقاد بعد أن جعلوا من "مفضليهم" قممًا لا يتجاوزها أحد (إسقاط نقدي أو فرض نقدي أو قسر نقدي أو بوكس نقدي أو جودو نقدي أو كاراتيه نقدي أو حُكْم صَرْعي من خارج النص وخارج المرحلة وأبدًا تحليل نقدي وعناء نقدي وهلاك نقدي من خلال تزامنية وتعاقبية جدليتين وهذه هي حال جائزة العويس فيصل دراج –كم قبض؟- الناقد اللاموهوب). حتى أن عمالقة مرحلتهم كرشاد أبو شاور أو صُنع الله إبراهيم أو الطاهر وطار، اختصرت أعمالهم على العشاق للأول ونجمة أغسطس للثاني واللاز للثالث، بينما يتألق رشاد أبو شاور بالرب لم يسترح في اليوم السابع وصُنع الله إبراهيم بتلك الرائحة والطاهر وطار بعرس بغل.



كلمة أخيرة

إلا أن بودلير من غير أن يكون عربيًا استطاع أن يتعالى بقامته شعريًا عندما جمع بين الدال في القصيدة العربية، والحال هذه المعلقات، وبين المدلول في القصيدة الفرنسية، والحال هذه الشر والجمال، فتنوع شعره بالأوزان العربية، وابتعد بالمعاني والأفعال والدلالات مؤسسًا للشعر الحديث الذي تواصل فيما بعد على أكتاف واحد كرامبو، "الشاعر المكتشف" كما يقول، "السارق للنار"، "المختل العقلاني"، وآخر كأبوللينير "المدافع عن الروح الجديدة في الشعر"، "المتجاوز للواقع"، "المولّد للعقل الباطن". وبينما بقيت ألف ليلة وليلة تعاني مما أعقبها من بنى شفهية عندنا، جعل الغرب منها قدوته في التأليف والإبداع، فمضى بالمائة حكاية "الديكامرون" قبل ترجمتها لاطلاع المؤلف بوكاتشو حتمًا عليها بسبب العلاقات التجارية الوطيدة بين إيطاليا القرون الوسطى والقوة العظمى التي كانها العرب، ثم بحكايا لافونتين بغض النظر عن روح كليلة ودمنة التي فيها، وبعد ذلك بحكايا شارل بيرو (ليلى والذئب، ساندريللا، جميلة الغابة النائمة...)، إلى أن أسس ساد للرواية الحديثة، وألف ليلة وليلة مترجمة إلى الفرنسية منذ العام 1704، ووضع كل الكُتاب بلزاك فلوبير هيغو زولا موباسان وليس آخرهم صاحب "البحث عن الزمن الضائع" مارسيل بروست، القارئ النهم لألف ليلة وليلة، تحت معطف بطلته الشهرزادية جوستين، فجوستين كموضوع للحداثة أهم بكثير من جوستين كموضوع للسادية، حتى أن الأرجنتيني خورجي لويس بورجيس اعتبر ألف ليلة وليلة أجمل كتاب كتبته الإنسانية، واعتبر نفسه من ورثة هذا الكتاب. هذا لا يعني أننا اليوم ككُتاب عرب سنظل رهن شهرزاد، فالأدب غدا كونيًا، ومعاييره غدت "مستهلكة"، أهم ما يؤثر اليوم في بناه، الماركتنغ من ناحية، والمتاع الثقافي للمؤلف من ناحية ثانية، فلا علاقة بالرواية كشكل بورجوازي في عصر أنترنت، ولكن بالشكل البورجوازي كرواية، شكل تجهيلي جاهلي بأتم معنى الكلمة، الفراغ على أكمل وجه. لهذا مجنون من يكتب رواية طويلة في عصر السرعة والنرفزة، وغير مجنون من ينصهر في كيمياء الكلام، والجديد من الأفكار والأشكال حافزه، أشكال وأفكار لا يقدر عليها في هذه اللحظة المتقدمة من حضارة الأدب وأدب الحضارة إلا من يضع قدمًا في الشرق وأخرى في الغرب، ومجازًا من يتقن عدة لغات –كما يقول إدوارد سعيد- ومن يطّلع بالتالي على عدة آداب، فالهدف هو تجاوز الرواية في الغرب بعد أن تجاوز الغرب ألف ليلة وليلة، وهو سَبْق القصيدة في الغرب بعد أن سبق الغرب المعلقات.