نبيلة منيب - الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد - المغرب - في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: الانتقال إلى دولة الحق و القانون.


نبيلة منيب
الحوار المتمدن - العدد: 4202 - 2013 / 9 / 1 - 12:43
المحور: مقابلات و حوارات     

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -111 - سيكون مع الأستاذة د.نبيلة منيب - الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد - المغرب - في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: الانتقال إلى دولة الحق و القانون .



منذ انطلاق الربيع المغاربي و العربي ، و اندلاع ثورات و انتفاضات و حراك شعبي، و رفع المطالب بإسقاط الفساد و الاستبداد,  وبناء الديمقراطية،  تجاوزت الشعوب عامل الخوف، وبالرغم من اختلاف الأوضاع داخل البلدان التي مر منها الربيع الديمقراطي،  فلقد تسارعت الأحداث، و معها التساؤل عن مدى جاهزية الشعوب  و على الخصوص القوى الديمقراطية داخلها لتحقيق  التغيير المنشود.
كيف يمكن أن يحصل الانتقال الديمقراطي و نجاح العدالة الانتقالية و  بناء أسس الدولة المدنية، لا دينية و لا عسكرية، دولة الحق و القانون.علما أن العديد من الأوراق انكشفت، والكثير من اليقينيات سقطت،  فلازالت عشرات  الأسئلة عالقة تستدعي أجوبة كافية، قصد تحديد مداخل و استراتيجيات قادرة على تأطير المرحلة الانتقالية التي تعيشها المنطقة، حتى لا تسرق الثورات و يؤمن  مسارها و معها طموحات الشعوب في تحقيق الديمقراطية و العدالة الاجتماعية و لينطلق  مشروع النهضة.
لا بد إذا من رصد بوادر التحول الذي تعرفه المنطقة، في مرحلة ما بعد انتفاضة الجماهير، و تتبع القوى المتصارعة،   و إلى أي اتجاه تسير الأوضاع. هل يتعلق  الأمر ببداية نهضة حضارية أم بردة  قد تحول  الحلم إلى كابوس مرعب. 
إذا كانت عوامل عديدة، ساهمت في تفجير  الأوضاع، من أزمة النظام النيوليبرالي و الفوارق المترتبة عنه و التي يزيد في استفحالها الفساد و الإفلات من العقاب،  و من أزمة سياسية،إلا أن هناك عامل مهم أثر و يؤثر في صيرورة الأحداث، يتمثل في اقتسام شعور شعوبنا بالإهانة و الإقصاء جراء التخلف عن ركب الحضارة و الانهزام أمام الطغيان الداخلي و السيطرة الأجنبية لعقود، و عدم القدرة على الانعتاق و التقدم.  لكن، كيف استبطن الشعب الإهانة و كيف يتصور التخلص منها؟ هل بالفعل  أم بردة الفعل؟ هل بالبناء الحضاري و الإبداع و الانخراط في العصر أم بالرجوع  إلى التدين  الذي يعرف أزمة، ما بين من يدعو إلى دين تسامح و إخاء كوني و من يجاهد لفرض دين تطرف و عنف  و أدلجة الدين؟ هل بالاعتماد على تحرر الإنسان أم بتجديد استعباده؟ هل بالتماشي مع متطلبات العصر أم بالرجوع إلى ماض غامض؟ هل بمركزة العلم و المعرفة أم بمركزة الهوية؟  الشعب يبحث عن رسم أفق سعيد للثورة التي صنعها بعزيمته، للتمكن من قراره.
لذا فإن المتتبع للمخاض الّذي عرفته و  تعرفه العديد من دول المنطقة يقف على تعثر الانتقال الديمقراطي، نتيجة تعقد الوضع و تشعب المتدخلين و تعارض المصالح و الاستراتيجيات ، حيث أن تنظيم انتخابات سابقة لأوانها، سواء في تونس أو في مصر، لم يدشن لانطلاق  مسلسل البناء الديمقراطي، الشيء الذي فتح صفحة جديدة في كتاب الثورة، حيث الخوف من الانزلاق الخطير نحو استبداد جديد، أدى إلى انتفاضة متجددة على حكومة منتخبة, بعد تراكم أخطائها، حيث لم يرغب الشعب في إعطائها وقتا أكثر، فتمرد ،  و برز شبح الحرب الأهلية، و التطرف. كما أنه بالموازاة مع مطالبة الجماهير بالوفاء لأهداف الثورة،  تدخل أعداء التغيير الديمقراطي من الداخل و الخارج. و استمرت القوى المطالبة بالتغيير الديمقراطي، محاصرة ما بين مقاومة يقودها الاستبداد الجديد و أخرى يحاول بقايا الاستبداد القديم أن يسترجع بعضا من مواقعه من خلالها و كلاهما يعتمد على دعامات من الخارج قبل الداخل.  فالخوف من استغلال الأوضاع من قبل القوى الامبريالية و الصهيونية، التي دمرت العراق و أضعفت قواته الأمنية و العسكرية، و ألقت به في حرب أهلية مدمرة،  جعل  الشعب في يقظة مستمرة، فكما أطلق الثورة، برهن أنه سيضل متأهبا للانتصار لأهدافها.
لكن القوى المتصارعة متناقضة المشاريع و الأهداف، تختلف في تنظيمها و استقلال قرارها و في اقتناعها بالديمقراطية كفكر و فلسفة وكقيم و ممارسة، و كمشروع سياسي و اقتصادي و اجتماعي و ثقافي. هكذا  فالقوى الأصولية،  بعد فوزها في الانتخابات ، اختزلت الديمقراطية في نتائج صناديق الاقتراع ، و ترجمت شرعية الصناديق إلى شرعنة استبداد جديد، و صمت أذانها تجاه صوت الشعب، حارس الثورة و محركها، و استمرت في نفس الاختيارات اللا ديمقراطية و في نفس التوافقات الانهزامية التي تكرس التبعية و الهزيمة جراء التخلي عن السيادة الاقتصادية و الاجتماعية للمؤسسات المالية و الخضوع لسلطة فوق وطنية، لا تبقي معنى للسيادة الوطنية. لذا فإن الشعب الذي أطاح بالمستبد القديم، هو نفسه الذي عقد العزم على أن يسقط كل مستبد جديد.
لكن إذا كان الشعب قادرا على الضغط من الشارع بالآلاف و حتى بالملايين و الإطاحة بالمستبد، و الاستماتة في مطالبته بالتغيير الديمقراطي، من خلال تعبئة متواصلة و  ثورات تصحيحية، فلأنه واع بأن المدخل الأساسي يتجلى في تحقيق السيادة الشعبية القادرة على اتخاذ قرارات و توجهات ديمقراطية  في مصلحة الشعب،و باتجاه تحقيق المطلب المركزي الذي حملته الجماهير الثائرة، ألا و هو  تحقيق العدالة الاجتماعية.7الشعب رفض المشاريع الرجعية التي تقترحها  الأصوليات المتطرفة، كبديل للاستبداد  الذي تمت الإطاحة به، و اعتبرها عاجزة على تقديم الجديد للحد من الأزمة المتعددة الأوجه.  التجارب الحديثة لممارسة السلطة من قبل جماعات الإسلام السياسي باءت بالفشل لأنها غير مؤمنة بالديمقراطية، و لم تبرهن على استعدادها للقيام بالمراجعات الضرورية لتوجهها السياسي، خدمة للمصلحة العليا للوطن و رعاية لطموحات الشعب، واستقلال القرار الوطني عن أية جهة، و اقتراح المشروع البديل، اجتماعي و اقتصادي يجيب على المتطلبات الآنية لشرائح واسعة من المحرومين، في تحقيق الحرية و الكرامة و العدالة الاجتماعية.
 لذا فإن التنديد بالانقلاب على الشرعية من قبل جماعة" الإخوان"  و أتباعها في مصر، يتجاهل، أن لا شرعية تعلو فوق شرعية الشعب، الذي أطلق ثورته المجيدة, و عندما علم، هذا الشعب نفسه, محاولة إجهاض ثورته, انتفض مرة ثانية لتصحيح المسار. لأن شرعية الثورة هي أكبر من خطوة انتخابية لا يمكن معالجتها واستيعابها  خارج ترتيبات الانتقال نحو الديمقراطية فبالأحرى جعلها أداة وحجة لإلغاء تلك الترتيبات . من ثم فإن الدعوة للعنف والاغتيال و مواجهة قوات الأمن و الجيش، التي دعمت الاختيار الشعبي الديمقراطي التصحيحي ، لا يمكن أن تقدم كخيار. و في نفس الآن، لا بد من مراقبة تدخل الجيش، الذي أكد أن تدخله، لم يتم بهدف الاستبداد بالحكم. فالقوى الديمقراطية، لا يمكن أن تتجاهل أي تهديد ظاهر أم باطن، لأنها  في مواجهة أعداء البناء الديمقراطي، مسؤولة على استمرار التعبئة و الوعي لأن الانتصار لأهداف الثورة،   رهين  بتفادي العنف و ترجيح خيار توافق  مجتمعي  بين القوى الفاعلة ،  و اعتبار المرحلة الحالية، محطة ما قبل الانتقال الديمقراطي، و محطة لتحرر الشعب، مرحلة  تفرض ضرورة التخطيط التشاركي، لإنجاح العدالة الانتقالية و وضع برنامج متوافق عليه و مباشرة أوراش الإصلاح التي لم تعد تقبل التأجيل، للحد من تأزم الأوضاع و بعث الأمل و تحسين ظروف العيش، و تحقيق السلم.
لا يجب أيضا الخطأ في تحديد العدو أو الأعداء  ودون أن نسقط في نظرية المؤامرة، يبدو من البديهي، الحرص على صيانة طموحات الشعوب، و  تقوية الوعي و التصدي لخطورة، غرس نخب  خائنة لشعوبها و لمبادئها، و التي يتم ترويضها من قبل القوى الامبريالية سواء من متأسلمين أو ممن يدعون التقدمية أو من عسكريين أو مدنيين، يرعون المصالح الإستراتيجية للإمبريالية و الصهيونية،  يعملون على التحكم في مسار ثورات الشعوب ، و تسهيل تطبيق مشروع تفتيت المنطقة و فتح الأبواب على مصراعيها للنهب الذي تقوده المافيا المالية الدولية، و خدمة أجندات أعداء انعتاق الشعوب المناضلة، حتى  لا تجد سبيلا للتخلص من الاستبداد إلا  بقبول استبداد جديد،  بلبوس ديني أو عسكري أو أي قناع أخر.
إن الدعوة إلى نصرة "الإخوان" من قبل حركات الإسلام السياسي ، التي تظاهرت للتنديد بالانقلاب على شرعية صناديق الاقتراع،, في العديد من الدول ،علما أن هذه الحركات  لا تحرك ساكنا  لمساندة شعوبها عندما تتعرض لظلم و استبداد داخلي, فإن دعمها يقوم على فهم خاطئ لمقولة" أنصر أخاك ظالما أو مظلوما" لنصرة مشروع يتعدى الحدود الوطنية, و لا يقر بضرورة القيام بالمراجعات اللازمة ليتلاءم  مع بناء الديمقراطية، و الدولة الوطنية الحديثة. إن الشعوب كما رفضت استبدال الاستبداد القديم باستبداد جديد، قد  عبرت عن رفضها بقبول من ينصب نفسه مدافعا عن الدين، و من يحاول  استغلاله بغرض التحكم السياسي. لذا فإن التحريض على التفرقة و تغذية العداء بين الناس داخل المجتمع الواحد، و تجاه الشعوب الأخرى،  حيث  أن التكفير و الإقصاء و الإقصاء المتبادل يمكن أن يؤدي إلى  الاقتتال و الدمار  و تطبيق مثل الذين قيل فيهم "يخربون بيوتهم بأيديهم...." و يكونون بذلك يقدمون أيما خدمة لأعداء شعوبنا و من لا يعتبروننا إلا كعبيد مستضعفين و يرون أن الإسلام السياسي، و الصراعات الناجمة عنه، ستخدم مصالحهم أكثر مما كانوا يحلمون. "فاعتبروا يا أولي الألباب.
 فبقدر الثقة في قدرة الشعوب على إفشال المخططات الجهنمية الداخلية و الخارجية، التي تسعى لإجهاض الثورة، تضل ضرورة تحديد دقيق لأهم المعيقات التي تعرقل البناء الديمقراطي  من بين الأولويات، انطلاقا من تحليل الواقع، و تداخلات ما يجري دوليا و إقليميا و محليا،  لقراءة استباقية لما يجري، و الوعي بمجريات الأمور، و رصد الإمكانيات الواقعية لتحقيق التغيير الديمقراطي، بدءا بفسح المجال للحوار و  للتفكير الحضاري المتجدد، لتفادي الأسوأ، في  سبيل  تجاوز الأزمة حفاظا على السلم و التلاحم المجتمعي.
 من ثم فإن استمرار اليقظة أضحى حيويا، لأن تحقيق الديمقراطية مسار معقد، لا يمكن اختزاله في صناديق الاقتراع، مهما كانت شفافة، و أنه يفترض وجود ديمقراطيين و نخب قادرة على بلورة الأجوبة  الدقيقة لتجاوز الأوجه المتعددة للوضع المأزوم و تصويب التوجه انطلاقا من الوعي بطبيعة المرحلة الانتقالية التي تسبق  البناء الديمقراطي  و مواجهة محاولات إجهاض الثورة التي تحركها جهات مختلفة، تتناقض مصالحها و طموحات الشعوب المنتفضة.
الشعب ثائر و معبأ، لكن أين هي القيادة المستقلة و الحاملة للواء الوطن و الولاء له، القادرة على الإشراك و التشارك و توسيع دائرة اتخاذ القرار لإنجاح مرحلة ما بعد الثورة .لا بد من انخراط واع للنخب القادرة على قيادة التغيير الديمقراطي، و التي عليها أن تستنهض  قواها و أن تنفض الغبار عنها، بعدما أضعفتها سنوات الاستبداد و الجمر و الرصاص و الاضطهاد، و أن تقوم بالمراجعات الكافية و بتجديد الفكر و تحديث أدواة النضال و التواصل مع الجماهير لتأهيلها لدعم التغيير الديمقراطي الحداثي، و حتى يتصالح جيل الماضي  مع جيل الحاضر لتتحقق النهضة و التحرر. من جهة أخرى فإن الإسراع بتقوية مسار البناء الديمقراطي، يفرض نفسه، بدءا بإنجاز   و الاحتكام لدستور ديمقراطي يوفر شروط ترجمة الإرادة الشعبية إلى سيادة شعبية، بما تعنيه من فصل للسلط وتداول سلمي على السلطة في ظل تعددية حقيقية، و في ظل  استقلال و نزاهة القضاء و سمو القانون و احترام و صيانة الحقوق و الحريات ، فردية وجماعية وتحديد المسؤوليات والواجبات  و مباشرة الإصلاحات الكبرى التي يجب أن تشمل المؤسسات، لتوفير شروط إحقاق الحقوق الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية و كذا السياسية و المدنية في ظل المساواة و تحقيق المواطنة الكاملة.
إذا كانت الديمقراطية السياسية، تمثيلية و تشاركية، تشكل مدخلا لتحقيق هدف الديمقراطية الاجتماعية.، فإن الصراع السياسي    يجب أن يتم حول مشاريع مجتمعية، و في حلبة التباري من أجل الإجابة الجماعية على رهان  العدالة الاجتماعية و ليس في حلبة التفسيرات الذهنية  للأصولية الدينية، التي تقوم على أدلجة الدين و التأثير على فئات واسعة أغلبها يسيطر عليها الجهل و الفقر و حتى التأثير السلبي لتعليم ينبني على الحفظ  عوض إعمال العقل والفكر النقدي ،تعليم فاشل يمكن أن يكون وقعه أخطر من الأمية الأبجدية، على أناس متعلمين غير مثقفين و لا حاملين لقيم التسامح و التواضع و التضامن، لا يؤمنون بالقيم الكونية  لحقوق الإنسان  ولا حتى بما هو سمح وعقلاني في الأديان .أصولية متطرفة تسعى  إلى سلب الناس إرادتهم و حريتهم من خلال التدجين و التخوين و التخويف و التكفير و ممارسة العنف بكل أشكاله. إن اختيارات مثل هذه، تبقى غريبة على مجتمعاتنا التي  انتفضت من أجل إجلاء الاستعمار  المباشر و ظلت تناضل ضد الاستعمار الغير المباشر، بغرض تحقيق الإعتاق و التقدم و الكرامة الإنسانية و لن تقبل اليوم بأقل من الديمقراطية الكاملة.
 لا بد من اعتبار أن ما يقع في المنطقة تجربة جديدة بالنسبة لدول لم تجرب بعد الديمقراطية،  و لم تستوعب التقدم الهائل الذي أحرزه الفكر السياسي، في ارتباطه بالعلوم الاجتماعية و بالأخلاقيات و تطور القيم، لوضع تصور متكامل للدولة المدنية الديمقراطية فضلا عن تطبيق مفهوم المواطنة الكاملة. الشيء الذي يتطلب القيام بثورة ثقافية’ لإشاعة الثقافة الديمقراطية، بالموازاة مع الثورة السياسية، للدخول في عصر العلم والمعرفة و كونية حقوق الإنسان على قاعدة الحرية ليتحقق العبور للحداثة، و بناء دولة الحق و القانون.علما أن ولوج العصر، يتطلب أيضا، الاستفادة مما راكمته الإنسانية على طريق تحرر الإنسان و تكريمه ، و كل  ما جنته  من فصل مجالي الدين و السياسة، خاصة  في ظل تنامي ظاهرة التدين داخل مجتمعاتنا و الأزمة  التي  تخترق الصراعات بين مذاهب متصارعة، تؤجج من قبل جهات معلومة،  و بين الرافضين للإسلام السياسي، المدافعين عن حرية المعتقد، و بين المتشددين. صراع يوشك أن يقسم المجتمعات إلى  قبائل متناحرة، " الذي ليس معي فهو ضدي" عوض التدبير السلمي للخلاف و التعايش الحضاري داخل الوطن الواحد.  إن انتشار الفكر الأصولي في ظل المحافظة المتنامية لمجتمعاتنا الأبوسية، و اجترار الهزائم و مركزة الهوية و رفض أي تقدم باعتباره "ثقافة دخيلة" , تهدد هويتنا يشكل حاجزا يحول بيننا و بين العبور للحداثة. كما أن الخروج من الاحتقان السياسي و الاجتماعي و مخاطر الصراعات باسم الدين، يوضح بأن الجواب على   سؤال الهوية لا  يشكل أولوية ،  بل  المدخل الأساسي لتفادي الحروب الأهلية و تسونا مي الدمار الذي يتبعها،و تحقيق التقدم،  يتمثل في الانخراط في  نهضة ثقافية وعلمية و ديمقراطية.

فإذا كانت  مجتمعاتنا بحاجة إلى قراءة متنورة لتراثنا الثقافي و الديني لنتصالح مع ذواتنا وإنسانيتنا و مع العصر و التقدم. فإن الإنفتاح على  الانتاجات العلمية و المعرفية، التي عرفت تقدما هائلا في شتى المجالات، تحتم  علينا البدء بطرح أسبقية العلم و المعرفة على مركزة الهوية. إن استيعاب التقدم الحاصل في  العلوم أساسي ، لمعرفة إلى أين يسير العالم و الفعل في اتجاه استفادة شعوبنا  من كل إمكانية التقدم والمساهمة في تقديم البدائل للجواب على الإشكاليات الجديدة المطروحة، والتخلص من الاستغلال و التبعية و التخلف، وتحقيق تحرر الإنسان من كل أشكال الاستبداد و الاستبلاد و الإذلال.

في ضل التقلبات المرحلية، أضحت الحاجة ماسة إلى تقوية الجبهة الديمقراطية و فرز قوى  قادرة على التضحية والعمل العقلاني والوحدوي و الوفاء لأهداف الثورات و الاستجابة لطموحات الجماهير و اقتراح المشروع البديل المتكامل في بعده الإنساني والسياسي والاقتصادي و الاجتماعي والثقافي، والكفيل بوضع قاطرة التغيير على السكة الصحيحة. 
هناك ضرورة للقيام بالثورة الثقافية التحديثية التنويرية بالموازاة مع معركة السيادة الشعبية و نبد العنف بكل أشكاله، و نشر ثقافة الديمقراطية و احترام الاختلاف و اعتماد الأخلاقيات في السياسة و فتح مجالات للنقاش و الحوار البناء. الحاجة ماسة لانتشار الوعي من أجل تأهيل الشعب للتغيير الديمقراطي و لبناء التنمية، مع اعتماد النهوض بالتربية و التكوين و البحت العلمي كمدخل أساسي لبناء المواطنين و المواطنات القادرين على التعبئة و الانخراط في التأسيس الواعي للديمقراطية و الحداثة. لا بد من اعتبار دمقرطة المدرسة و عصرنتها، مدخلا أساسيا، مدرسة عمومية تعطي معنا حقيقيا لتكافؤ الفرص و بناء المواطنة الحقة، و جامعة عمومية بمثابة قاطرة للتنمية و إنتاج العلوم و الإبداع. لا بد من جعل شبابنا متمكنا من سلاح العصر، ألا هو حسن استعمال  الآليات الحديثة للتواصل, من أجل تقوية تعبئة النخب و تأهيل الشعب،  خدمة لمصلحة شعوبنا في الانعتاق و التحرر.لا بد إذا من اعتبار الثورة الثقافية أساسية لنجاح الثورة السياسية و البناء الديمقراطي، و تحقيق العدالة الاجتماعية، من أجل تجاوز البؤس السياسي و الردة الفكرية السائدة و التخلف داخل مجتمعاتنا.
إن انطلاق ثورة ثقافية من شأنها أن تساهم في بزوغ  مجتمع مدني متقدم،  كفاعل أساسي في التغيير، عبر التأطير و المشاركة على عدة واجهات و الانفتاح على القوى الفاعلة من حركات نسائية و حقوقية و نقابية و جمعوية  و خروج المثقفين من قاعات الانتظار و الترقب، إلى لعب دور في بناء مجتمع العلم و المعرفة و النقد العلمي، و تحقيق دمقرطة الدولة و دمقرطة المجتمع. هناك حاجة لتقوية الجبهة الديمقراطية والانتصار على الأصولية  المتطرفة و الرجعية لكي تتقدم مجتمعاتنا وتساهم  في النضال الكوني لإسقاط الامبريالية والعولمة المتوحشة . و حتى يتسنى للشعوب أن تتمكن من قرارها ورقيها، و بناء نمودج للإقلاع من هوة التخلف  و  الانتصار على الإرهاب و الاستبداد و الفساد.
عشرات  الأسئلة يجب أن تؤطر مشروعنا النهضوي لبناء دولة الحق و القانون. أسئلة جوهرية يجب أن تتعلق بالمداخل القادرة على وضعنا على السكة الصحيحة و التي اتضح مند حين أن أهمها يتعلق بالحفاظ على الأمن و الاستقرار، لتقوية المناعة ضد التدخلات الهدامة، و توفر إمكانية إطلاق مسار البناء الديمقراطي و الإسراع بإصلاح المنظومة التربوية و النجاح في الكم و الكيف و إبلاء الأهمية القصوى لتشجيع البحث العلمي  و المساهمة في الإنتاج و ليس فقط الاستهلاك و اعتماد الفكر والإبداع و الابتكار و مباشرة إصلاح شامل و شمولي لبناء تعليم  عصري عمومي مواكب لبناء المواطن و المواطنة، و إنتاج نخب مؤهلة، تتوفر على ثقافة عامة واسعة وفكر نقدي و استقلالية الرأي و الثقة في النفس و التشبع بالمبادئ و القيم الإنسانية السامية، وإشاعة الثقافة الديمقراطية و ثقافة الاختلاف و الأخلاقيات، التي تشكل أساس التغيير المجتمعي الذي من شأنه أن يحقق العدالة الاجتماعية و الديمقراطية و الذي يجعل الإنسان ينخرط في الدفاع عن المصلحة العامة و في كل ما من شأنه أن يحقق الكرامة الإنسانية و العدل و التضامن الإنساني و فتح أفق رحب للاستفادة من الخيرات و الفرص المتاحة. مجتمعاتنا بحاجة إلى عقلنة السياسة وإلى مثقف نقدي و نخب واعية قادرة على التعبئة و الانخراط و الفعل مراعاة لمصالح شعوبها والتي يفترض أن لا تتعارض مع المصالح العليا للإنسان الذي يجب أن تصان حقوقه كاملة كفرد و كمواطن كامل المواطنة.