جلبير الأشقر في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: نحو بناء حركة يسارية جديدة في سياق الانتفاضات الجماهيرية


جلبير الأشقر
الحوار المتمدن - العدد: 3311 - 2011 / 3 / 20 - 18:44
المحور: مقابلات و حوارات     

أجرت الحوار: منال نصر الله
من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا – 39 - سيكون مع الأستاذ د.جلبير الأشقر حول: نحو بناء حركة يسارية جديدة في سياق الانتفاضات الجماهيرية.
 

 

1- ما هي مستلزمات دفع الحركة اليسارية في ضوء احتجاجات وانتفاضات وثورات الجماهير في المنطقة صوب الخلاص من الدكتاتوريات والنظم غير الديمقراطية وبناء مجتمعاتها المدنية وتحقيق العدالة الاجتماعية؟ وكيف تقيم تأثيرات ذلك الحراك الجماهيري الواسع على الحركة اليسارية والعمالية عربيا وعالميا؟

دعني أولاً اشكركم على اهتمامكم وعلى المساهمة القيّمة لموقعكم في مهمة ارساء الأسس لنهوض يساري جديد في المنطقة، وهي مهمة لا بدّ من "حوار متمدّن" في صفوف اليسار في سبيل إنجاحها. وإعذرني ثانياً لأنني هنا، في صدد الردّ على سؤالك وهو يتعلّق بآفاق بناء الحركة اليسارية، سوف اقتبس من المقابلة حول "اليسار العربي" التي أجراها معي وائل عبد الرحيم في خريف سنة 2009 ونشرتها مجلة "الآداب" في عددها الصادر في نيسان/أبريل 2010، أي قبل سنة، وهي متوفرة على موقع المجلة وكذلك على موقعكم. فقد قلت آنذاك:

"إن المسألة الرئيسيّة إزاء البناء المستقبلي لليسار العربيّ هي طبعًا مواقفُه وممارستُه في ساحته. والظاهرة الأساسيّة التي رافقتْ أفولَ اليسار منذ أواخر السبعينيّات هي احتلالُ التيّارات السلفيّة الدينيّة ساحتَي الكفاح الوطنيّ والمعارضة الشعبيّة للأنظمة. هذه هي المعضلة الرئيسيّة التي تواجه اليسارَ العربيّ. فالمشروع اليساريّ في المنطقة العربيّة يصطدم بهذا الجدار على أرض النضال الشعبيّ قبل أن يصطدمَ بالأنظمة. لذلك أقول إنّ على اليسار أولاً، إذا أراد أن يتمكّنَ من بناء ذاته، أن يكون يسارًا كاملَ الهوية. فأيُّ يسارٍ ينتقص من هويّته ويسْتر بعضَ قيَمه بغية التعاون أو التحالف مع قوًى أخرى، دينيّةٍ أو غير دينيّة، فإنّ هذه القوى ستبتلعه. وعلى اليسار أن يكون وفيّاً لكافة القيَم التحرريّة بحيث يؤكّد تمايزَه عن الأطراف المنافسة له في كسب العطف الجماهيريّ. غير أنّ ذلك لا يتنافى مع عقد العلاقة مع الأطراف الأخرى، وإنْ كانت دينيّة، في النضال ضدّ الصهيونيّة والإمبرياليّة، أو في مواجهة قمع الأنظمة، للأسباب التي سبق أن شرحتُها، ومع الالتزام بشروط التحالف كما وصفتُها. ..
.
* ما حظوظ هذه المهمّة من النجاح؟

ـ المهمّة صعبة بالتأكيد، وقد كنتُ شديدَ التشاؤم طوال ربع القرن الأخير، بعد أن توصّلتُ إلى إدراك انسداد الأفق أمام اليسار العربيّ منذ أوائل الثمانينيّات. فقد أدركتُ أنّ صعودَ التيّار السلفيّ ناتجٌ من الإخفاق التاريخيّ لليسار القديم، ومن عجز اليسار الجديد عن فرض نفسه بعد العام 1967، علمًا أنّ هناك عواملَ أخرى انضافت إلى ذلك، ومنها استعمالُ الأنظمة للتيّارات الدينيّة في ضرب اليسار الجديد. وقد ترك إخفاقُ اليسار الجديد مجالاً مفتوحًا أمام التيّار الدينيّ بوصفه الحركة الوحيدة التي لم تُجرَّبْ حتى ذلك الوقت: فقد أظهرت القوى الليبراليّة العربيّة تقاعسَها في وجه الإمبرياليّة والصهيونيّة منذ الأربعينيّات، وجُرّب القوميون من بعدها وفقدوا الصدقيّة، وتأكّد العجزُ التاريخيّ لليسار الشيوعيّ التابع للاتحاد السوفياتيّ، وأخفق اليسارُ الجديدُ الذي ظهر بعد العام 1967. وكان تقييمي منذ أول الثمانينيّات أنّ الموجة السلفيّة ليست بموجةٍ آنيّةٍ ستزول بعد ثلاث سنواتٍ أو أربع، بل ستبقى مهيمنة حتى حصول أحد أمرين: ظهور بديلٍ لها ذي مصداقيّة، أو إخفاقها من خلال أزماتها الداخليّة. والحال أنه لم يحصلْ أيٌّ من الأمرين منذ الثمانينيّات. أما اليوم فأرى بوادرَ تحقيق الشرطين بالتزامن: أولاً، ظهرتْ بوادرُ تأزّم التيّار الدينيّ في تجربة غزّة والإمارة الحماسيّة وتناقضاتها الداخليّة. والأهمّ منها، طبعًا، الأزمةُ في إيران، وهي لاتزال في بداياتها، ولا ندري كيف ستتطوّر، لكنّ تعمّقها ليس بالمستبعَد. ومثلما أدّت الثورةُ الإيرانيّة سنة 1979 إلى إعطاء قوة دفعٍ هائلةٍ للتيّارات السلفيّة الإسلاميّة على اختلاف أشكالها، فإنّ تأزّم التجربة الإيرانيّة (إذا تأكّد) سيسهم في تأزيم المشروع السلفيّ برمّته وإفقاده الصدقيّة. ثانيًا، نشهد بدايةً جديدةً لصعود قوةٍ بديلةٍ في الساحة الجماهيريّة، تتجلّى في تصاعد الصراع الطبقيّ والنضالات العمّاليّة في عددٍ من البلدان العربيّة من المغرب الأقصى إلى الأردن والعراق، مع وجود مصر في الصدارة حيث تتطوّر منذ ثلاث سنوات أعظمُ موجةٍ للنضالات العمّاليّة منذ أكثر من نصف قرن. وقد أدّى هذا التحرّكُ الطبقيّ في مصر، للمرة الأولى منذ العهد الناصريّ، إلى قيام نقابةٍ مستقلّةٍ هي "نقابة موظّفي الضرائب العقاريّة،" وهناك محاولاتٌ لتكرار التجربة في قطاعاتٍ أخرى. أما التيّار الدينيّ فشبهُ غائبٍ عن هذه الساحة، والناشطون فيها يساريون بالمعنى الواسع لليسار الذي يَجْمع الناصريين الجذريين إلى الماركسيين.

*أهذه إشاراتُ تفاؤل؟
 
ـ إنها بوادرُ لا أكثر، في الوقت الراهن. لكنها كافية لتجعلني أشعر ببعض التفاؤل للمرّة الأولى منذ أكثر من ربع قرن، وإنْ بشكلٍ محدودٍ وحذر. أشعر أننا على عتبة منعطفٍ تاريخيّ، وأمام بداية النهاية للحقبة التاريخيّة التي تلت اندثارَ الحركة القوميّة، وربّما بوادر موجةٍ جديدة. وإذا استمرّت وتعمّقت الظاهرتان اللتان تحدّثتُ عنهما ـ أزمةُ التيّارات الدينيّة وصعودُ الموجة الطبقيّة ـ فعندها يمكن أن تنضج ظروفٌ مؤاتيةٌ لبناء الحركة اليساريّة من جديد. لقد ضاعت الفرصةُ الأولى بعد هزيمة 1967، وعلى اليسار العربيّ أن لا يضيّع الفرصة المقبلة."

كان هذا كلامي في خريف عام 2009. وها نحن نقف أمام موجة عارمة من النضال الجماهيري لم يكن أحد ليتوقّع مثلها بذلك الإتساع وبتلك السرعة في الإمتداد. وقد تميّزت الموجة الثورية بعاملين أساسيين، بالأخص في تجليها الأعظم حتى الآن في تونس ومصر. العامل الأول هو أن المبادرة لم تكن في يد التيار الديني، بل قاد الحراك الجماهيري ائتلاف من القوى الديموقراطية الليبرالية والإصلاحية واليسارية إنضمّ اليه التيار الديني دون أن يستطيع هذا الأخير فرض هيمنته. والعامل الثاني هو امتزاج الإنتفاضة الديموقراطية بموجة نضال طبقي ودخول الطبقة العاملة المعترك بشتى الأشكال، ولعبها دوراً هاماً في حسم معركة إسقاط رموز الدكتاتورية ومن ثمّ تعميق المكاسب الديموقراطية. وها نحن نقف في مصر أمام إنقسام جليّ بين الأخوان المسلمين الذين يتعاونون مع قيادة المؤسسة العسكرية وبقايا النظام في ضبط "إنتقال منظّم" الى حالة من الديموقراطية البرلمانية تحت رقابة عسكرية، بينما تقف القوى الديموقراطية الليبرالية والإصلاحية واليسارية في الصف المواجه محاوِلةً دفع التغيير الديموقراطي الى الأمام والتصدّي لترقيع النظام تحت إشراف عسكري-إخونجي. وهذا الفرز السياسي الهام بالتضافر مع صعود النضال العمالي يوفّران لليساريين فرصة ثمينة جداً لكي يبنوا قوة معارضة ديموقراطية وطنية طبقية تطمح الى الترقّي الى مستوى بديل ذي مصداقية للنظام القائم، بعد عقود من احتكار التيار الديني لهذا الدور. أما الشرط الرئيسي الأكيد لتحقيق ذلك فهو الذي أشرت اليه قبل أكثر من سنة، ألا وهو أن يكون اليسار وفياً حقاً لكامل القيم التقدّمية واليسارية، أي أن يكون أولاً وفياً بشكل كامل وبلا تجزئة للديموقراطية، بما في ذلك نقد كافة الأنظمة الدكتاتورية، حتى تلك التي تقف في مواجهة الإمبريالية الأميركية أو الصهيونية، اذ كفانا سكوت عن الدكتاتورية بحجة الوطنية وبالمقابل سكوت عن التبعية للإمبريالية بحجة الديموقراطية. وبالتالي أن يكون اليسار ثانياً جذرياً في تصدّيه للإمبريالية والصهيونية وفي نضاله من أجل فك التبعية الإقتصادية والعسكرية والسياسية، وقادراً على اعادة رفع راية التوحيد القومي العربي بعد سقوطها في العقود الأخيرة، وأن يكون كذلك مدافعاً بصرامة عن حقوق الأقليات القومية والإثنية الموجودة في المنطقة العربية. وأن يكون ثالثاً وفياً لمعركة تحرر النساء – وأشدّد هنا على تعبير "تحرّر" (بالقوى الذاتية أولاً) بتمايزه عن "تحرير" – وكذلك وفياً للنضال من أجل العلمانية، بمعنى فصل الدين عن الدولة، وهي شرط أساسي لا ديموقراطية حقيقية بدون توفّره. وأن يقف رابعاً في طليعة النضال ضد الإستغلال ومن أجل مصالح الجماهير الكادحة الآنية في تحسين شروط عيشها، ومصالحها المستقبلية في تحقيق المساواة الإجتماعية. إن الوفاء لهذه الأبعاد مجتمعة بلا إنقاص ولا إغفال تحت شتى الحجج "المرحلية" هو الشرط الذي بدونه لا مجال لليسار ليبني نفسه بديلاً عن الأوضاع القائمة.

2- ثمة تيارات مختلفة ادعت وتدعي انتسابها للماركسية، و يعتقد كل تيار أنه يمثل الماركسية الحق دون التيارات الأخرى، إلام َ يعود هذا التنوع في طيف الماركسيين الواسع؟ و هل تؤمنون بوجود معايير موضوعية لتفكيك هذه التيارات وفرزها وتشذيبها وتوحيدها؟ ووفق ذلك كيف ترون أسس الفهم والاستيعاب الصحيحين للماركسية في الألفية الثالثة؟

سؤالك الوجيه يشير الى شرط آخر من شروط استنهاض حركة يسارية جديدة في منطقتنا، ألا وهو تخطي العصبوية والشرذمة اللتين ساهمتا في إضعاف اليسار في هذه البقعة من العالم. وكيف باليسار أن يقنع اذا كان منقسماً الى جماعات تندّد الواحدة بالأخرى وتدّعي كل واحدة منها أنها تمتلك التفسير الصائب الوحيد لماركسية تغدو أشبه بالديانات مع انقسامها الى شيع شتى كل واحدة منها تدّعي احتكار الإيمان الصحيح. والحال ان التنوّع في طيف الماركسيين الواسع، كما تقول، انما هو ظاهرة طبيعية وصحيّة اذ تعاملنا مع الماركسية بصيغة غير دينية، بل سياسية وعلمية. فإن علم الإجتماع الإنساني ليس بعلم مبني على حقائق ثابتة كتلك التي تستند اليها علوم الطبيعة. ولا بدّ من تنوّع وجدال نظريين في صفوف الماركسيين اذا كان للفكر الماركسي أن يحيى وأن يكون منتجاً. فالحقيقة بنت النقاش، كما قال أحد فلاسفة العلوم، وليست بنت التجانس. كما لا بدّ من تنوّع وجدال سياسيين في صفوف الماركسيين اذا أرادوا أن يتوصّلوا الى رسم سياسات ناجحة. واذا كان الماركسيون عاجزين أن يتعايشوا ديموقراطياً في صفوف الحركة الواحدة، دون اللجؤ الى مرادفات القمع كالتجميد والطرد بسبب اختلاف الآراء وحتى الممارسات في حدود الإتفاق العام على المبادئ الأساسية، فكيف بهم أن يقنعوا الآخرين بأنهم ملتزمين بقيم الديموقراطية غير منقوصة؟ ولا بدّ لصيغ التنظيم المعاصرة أن تضع الديموقراطية  في المكان الأول، وتحيل المركزية الى المرتبة الثانية وبمفهوم غير قمعي للمركزية، بل بمفهوم طوعي. وهذا درس جسّدته الحركات الشبابية التي تطورت عبر العالم في السنين الأخيرة.

3- هل ثمة من أرضية الآن لبناء خيمة تفاهم وعمل مشتركين بين الماركسيين و اللبراليين و إسلاميين معتدلين و قوميين علمانيين، لمرحلة معينة في سبيل إحياء حركة التحديث وبناء الدول المدنية على أنقاض الأنظمة الشمولية والدكتاتورية في العالم العربي؟

ان اتساع مثل هذه الأرضية يرتهن بالزمان والمكان الذي نتكلّم عنهما. ففي المثل المصري الراهن الذي أشرت اليه رأينا كيف انتقلنا من تحالف معارض واسع ضمّ الأخوان (اذا أردت تصنيفهم بين الإسلاميين المعتدلين، وهذا خاضع للنقاش بالطبع) وحزب الوسط الأكثر إعتدالاً الى خروج الطرفين من التحالف وتعاونهما مع المؤسسة العسكرية، في حين لا يزال التحالف قائماً بين اليساريين على اختلاف أنواعهم والديموقراطيين الليبراليين والإصلاحيين في النضال من أجل استكمال سيرورة الثورة الديموقراطية غير المنتهية والتي تسعى القيادة العسكرية الى لجمها. أما أبعد من ذلك، فأرى أن المهمة الأساسية في المنطقة هي بناء أحزاب عمّالية وكادحة عريضة وبالمعنى الواسع لليسار، أي أحزاب تضمّ اليسار الماركسي واليسار القومي وحتى اليسار الديني اذا توفّر، على أن تستند تلك الأحزاب الى أرضية ديموقراطية ووطنية وإجتماعية-طبقية يسارية مشتركة.

4- كان للشباب والانترنت الدور الكبير في الحراك الجماهيري الكبير في العالم العربي، إلا يتطلب ذلك إعادة النظر في الكثير من مفاهيم واليات عمل الأحزاب والقوى الماركسية و اليسارية نحو التحديث بالاستناد إلى التطور المعرفي والتقني؟

بالتأكيد، وهذا ما قصدته في تلميحي في نهاية ردّي على السؤال قبل السابق الى الدرس الذي جسّدته الحركات الشبابية التي تطورت عبر العالم في السنين الأخيرة. وأقصد بذلك الديموقراطية الأفقية والتنظيم الذي يعتمد على شبكات التبادل والحوار والتنسيق والتنظيم. فيمكن أن نقول عن الشكل التنظيمي ما يقوله المنهج الماركسي عن البنية الفوقية بما فيها شكل الدولة. فهذه البنية يعتمد شكلها في التحليل الأخير على طبيعة القوى المنتجة المتمحورة حول التكنولوجيا السائدة. وكذلك فلا بدّ للشكل التنظيمي أن يتكيّف مع التكنولوجيا المتاحة في الإتصال وتبادل المعلومات. فلا يجوز الإبقاء في عصر الإنترنت على أشكال تنظيمية يعود أصلها الى عهد المطبعة السرّية.